,‘,
" شفت ايده .. شفتها مصغرها حتى صبعي ما قدر يمسكه " حديثها وهي على الكرسي المدولب عائد بها جابر إلى غرفتها بعد ان رأت صغيرها خالد .. يسمعها تحكي له لقاءها معه اليوم .. وكيف سمحوا لها ان تمسح على جسده الصغير .. تحكي وهو يستمع إلى نبرة السعادة التي تشوبها .. حركة كفيها .. نظرها لاصبعها مررا .. وكأنها تشعر بمسكته الرقيقة حتى الآن .. سألته : متى بيطلعونه ؟
يدفع الكرسي وابتسامته لا تفارقه : باكر بيشوفه الدختور مرة ثانية .. لازم يتأكدون ان اجهزته بخير ولا يشكي من شيء ..
صمتت وكأن احاديث روحها تحكي لها عن اللقاء الاخير .. تبتسم كبلهاء بينها وبين ذاتها .. فقط السكوت من الطرفين كان الرفيق الثالث للطريق الى تلك الغرفة .. حتى ما دخلا .. ساعدها لتنهض عن الكرسي وتستلقي على السرير .. لتتأوه بسبب الجرح .. يردد هو بخوف : يعورج ؟
تعتدل ولا تزال كفه بكفها التي تشد عليها هي بقوة حتى تسحب جسدها قليلا للخلف : بس وخزه خفيفه ..
يتركها ليسارع بجلب كوب ماء .. يساعدها في الشرب كطفلة صغيرة مدلَلَة .. وكم هي عاشقة لحنانه معها .. خوفه عليها .. وقلقه الذي يظهر في عينيه كُلما تأوهت او حتى شدت على شفتيها .. تخشى ان تدمن ما هي فيه .. فلا تجد باب خروج من دائرة الدلال ..
بابتسامة بدأت تصيبه بالعدوى فيبتسم لا اراديا .. نطقت : حبيبي .. الحين ليش شليت كل الملابس اللي يابوهن حق خلودي ؟ ما بقيت ولا شيء ..
تتبعه بنظرها وهو يبتعد عنها ليفترش الارض على السجادة الصغيرة التي تغطي تلك المساحة بجانب السرير .. يمد له بالقهوة ليرتشف فنجانا : انتي شفتيهن ؟ .. كبار ما ايوزله .. ومادري من وين بنيب شيء يناسبه .. وامج قالت تعرف وحدة تفصل ملابس وبتطلب منها كم قطعة ..
زمت شفتيها : الحين بيتم ايرد(عاري) .. وبقطنه بس ..
غرق في ضحكة اهتز معها الفنجان في يده ليتركه جانبا .. وتقطب هي حاجبيها : ما قلت شيء يضحك .. يعني مب معقوله يتم بقطنه .. حرام ..
غالب ضحكته ليعود يلتقف الفنجان يرتشف منه : ليش كل هالمحاتاه ؟ .. خلود دامني عايش ما بينقصه شيء ..
شعور الامان يلفها .. لتتمتم له بالدعاء ليغدق الله عليه بطول العمر .. ويحفظه لهما .. تنهدت ناطقة : غريبة امي ما صبحتنا اليوم .. بالعادة اتيي من وقت ..
يبحث في سلة الفواكه عن حبة مشمش احمر : عمي يقول بتييج العصر .. عندها حريم اليوم يايات يباركن لها ..
التقف واحدا ليغطسه في وعاء الماء .. ومن ثم قضمه في هدوء .. وفجأة قطب حاجبيه ليتحسس جيب ثوبه : فوني وين ؟
هزت رأسها حين نظر اليها : مادري ....
يستقيم واقفا تاركا ما بيده .. مبتعدا الى الغرفة الصغيرة الاخرى .. ليعود بعد دقائق : ما لقيته .. يمكن ناسينه فالسيارة ..
وقبل ان يخرج اذا بصوت نغمة هاتفه يُسمع بخفوت في المكان .. يتحرك نحو الصوت .. يفتح دورة المياه ( اكرمكم الله ) ليجده يهتز على حافة الحوض وبينه وبين السقوط قاب قوسين .. لينتشله ناظرا للاتصال الذي توقف .. ليظهر الكم الهائل من المكالمات الفائتة .. وجميعها من هاتفين .. كنة وشامة ..
خرج من دورة المياه ليبتسم في وجه ليلى : حارقينه من الاتصالات ..
ليردفه على اذنه بعد ان ضغط زر الاتصال على رقم كنة : السلام عليكم ..
يأتيه صوتها بنبرة خوف يشوبها بعض بكاء مُجيبة عليه برد التحية .. ليتجهم وجهه ويخفيه عن ليلى بالابتعاد من امامها : كنة شو بلاج؟
,‘,
انهيار .. بكاء .. دعوات .. وخوف من خبر مشؤوم .. كانت اجواء المنزل في تلك اللحظات قاتلة .. بل انها خانقة انتشلت الاكسجين من الاركان ..سحبته وقذفته بعيدا .. تحوقل واستغفار وهمهمات .. واصابع لا تفتأ من ضغط تلك الازرار .. وطنين عبر الاثير ينبأ بان لا مجيب وطنين آخر ينبأ بالاغلاق ..
تمر الدقائق كساعات .. وصوت العجوز لا يفتر من الدعاء .. وتلك تبكي وقد توسدت الارض بساقيها .. جاثية على ركبتيها المتأوهتان من ضرباتها المتكررة على فخذيها .. لتتحملق الانظار فجأة على صوت كنة الممسكة بالهاتف .. يعود الصمت بترقب .. بكلمات متقطعة تُجيب أخيها : يقولون سيارة شبيب محترقة .. شبيب طالع من الصبح ما ندري وينه ولا يرد ع التلفون ..
لتختطف منها شمسة الهاتف تجلس بجانبها : جابر .. الحق علينا .. شبيب وينه يا جابر ..
يتحرك مبتعدا عن باب الغرفة : استهدي بالله .. ان شاء الله ما فيه الا العافية ... وبعدين انتوا متاكدين ..
لتنفجر به : هيه .. سيارته محترقة ع الطريق .. مداعم وييا واحد ...
خطواته تسابق خطوات المارة من ذاك الممر : ما قالكم قبل يطلع وين بيروح ..
حين اخذت تضج سمعه بالبكاء والنحيب .. ذاق ذرعا ناطقا : عطيني كنة .. اميه عطيني كنه ..
تمد يدها المرتجفة لابنتها : يباج ..
لتلتقطه وعينيها على وجه والدتها الباكي .. وسمعها مع صوت كلماتها المنتحبة .. ليأتيها صوت جابر : كنة ردي علي ..
" هااا " .. بتوتر تبعثرت من فيها .. لتقف تبتعد من المكان .. تلتقي بكلثم المستيقظة تواً من النوم .. تمر بجانبها : لحظة بسأل ريا اكيد قالها ..
طرقت الباب بخفة ثم ولجت .. لا احد في تلك الصالة .. وذاك المطبخ الصغير هاديء ايضا .. تحركت بوجل نحو باب الغرفة المفتوح .. لتلوح لها على سجادة الصلاة رافعة كفيها ومغمضة عينيها .. ودموعها قد خُطت على وجهها .. بلعت ريقها الجاف لتنادي باسمها .. لكنها لم تستجب .. وتعود تناديها وهي تدنو منها : ريا ..
بخوف التفتتت تنظر الى كنة وتمسح دموعها : وصلكم شيء .. خبروكم بشيء ؟
عضت على شفتها السفلى حين هزت تلك رأسها نافية .. وتعود تزدرد ريقها : خبرج وين راح ؟
تغصب ابتسامة سرعان ما تختفي : راح الشغل ..
لتتحرك كنة تردف الهاتف على اذنها من جديد .. تبلغ جابر بما عرفت .. وتلك ترقبها حتى اختفت .. لتشد باطراف اناملها على صدعيها .. وجع رأسها سيفتك بها لا محالة .. زفرت بخفوت وقلبها لا يزال يقرع الخوف بابه .. ترغب بالخروج لمعرفة المستجدات .. ولكن لا تقوى على كلمات القسوة حتى وان لم تكن مقصودة ..
قامت لتتحرك بهدوء تحاول ان تلتقط باب المنزل الرئيسي من نافذة الصالة .. ولا يستطع نظرها الوصول الا لجزء بسيط من الساحة الامامية .. ابتعدت ليحتضنها احد الكراسي .. الافكار باتت تداهمها مخلفة في ذاتها رعب من القادم .. لتلتفت فجأة على دخول شامة المفاجيء .. والرعب قد استحل وجهها .. ناطقة بجزع : ريا تعالي شوفي يدوه ما ندري شو بلاها ..
لتقف تغالب رجفة ساقيها .. تتحرك مهرولة مع شامة لتلك الصالة .. تجد كنة تحاول ان تسقيها قطرات ماء .. وتمسح على وجهها بعد ان سكبت القليل مما في الكأس في كفها .. وشمسة تثير زوبعة نحيب تزيد من حدة التوتر .. تدنو تجلس على يمين كنة .. تلتقف رسغها : عندها الضغط والا السكر؟ ..
بدموع وهي تحاول ان تقوي من ذاتها : عندها السكر .. حاولت اقيسه لها ما رضا يشتغل ..
عيناها المطبقتان وانفاسها الضعيفة الخارجة بقسوة من رئتيها اثارت الخوف في القلوب .. تسحب ريا الجهاز المتبعثرة ادواته من ابرة وشريحة وقلم .. تحاول ان تقرأه : باين ان عندها هبوط عشان هالشيء ما قدر يقراه الجهاز ..تاخذ ابر ؟
تهز تلك رأسها بالنفي : لا ..
ارتفعت مبتعدة .. وصوت كنة يصل اليها : امايه فديتج فتحي عيونج ..
تسمر جسده النحيل على الباب ينظر تباعا .. امامه مباشرة في اقسى الصالة كلثم .. تقف بخوف يتضح على ملامحها ونظراتها توقفت على شمسة تارة وتتحول تارة اخرى على كنة .. وشامة تقف قريبا من الاجساد الثلاثة لوالدتها وجدتها وكنة الرابضة لا تكل من مسح الوجه المجعد بالماء البارد .. وبهدوء نطق : شو فيكم ؟
لتصرخ به شمسة : انت وين كنت .. من وين ياي ؟
تراجع للوراء خطوة .. ليفاجأ بكلثم الباكية تهرول نحوه وتلتصق بظهره : كنت العب ؟
يصلها صوت شمسة الزاجر له وهي عائدة ادراجها وبيدها كوب من عصير البرتقال .. يمنعها من الدخول جسد هاشل وجسد كلثم المتشبثة به .. لتبعدهما بكفها قليلا وتتابع المسير تسقط جالسة على ركبتيها .. تبعد كنة عن المكان .. ليأتيها صوتها : شو هذا ؟
- عصير برتقال وشكر ..
ترفع جذع العجوز بيسارها .. تقرب حافة الكأس من فيها : امايه شربي شوي ..
ترغمها على الشرب .. رشفة تتبعها اخرى فاخرى .. وحاجبيها قد تعانقا لصوت شمسة المتهكم بها .. أوليست بشر ؟ .. لا حول لها ولا قوة ؟ .. أليست الاقدار من رب العباد ؟ .. ما شأنها هي ان هو تضرر .. نزلت دموعها وهي تسمع : فارضنج علينا وع عمره .. لحد يقولي غير هالشيء .. لانه كله مبين .. لو انج سنعة وبنت ناس زينين ما خلاج وراح .. اكيد قايلتله شيء خلاه ما يعرف يسوق ويدعم .. منج لله ..
" بس ياميه " .. قالتها كنة من بين دموعها .. مردفة : خلاص .. شو ذنبها .. ان شاء الله شبيب ما فيه شيء .. لا تتفاولون عليه .. الله يخليكم ..
لتضرب تلك على فيها باناملها بعنف .. مجيبة ابنتها بسخط : هه .. بنسكت ..
ارخت برأس العجوز على النمرقة القاسية وهي ترى تغير ملامح وجهها قليلا .. تقف : بروح ايبلها مخدة تريح راسها ..
تحركت لتتسمر على منظر الطفلين الخائف .. وتبتسم .. تتحرك تمسك هاشل من يده : تعال وياي ..
لتمشي معه وتلك لا تزال ملتصقة به .. ينطق بخوف ووجهه يحاول ان يلتقط منظر جدته الممدة : امايه العودة شو فيها .. وشبيب وينه ؟ امايه ليش تصارخ علي وعليج .. شو صاير ؟
أسئلة كثيرة لا يقابلها الا الصمت من ريا .. والبكاء الخافت مع الشهقات من كلثم .. حتى ما اوصلته الى الكنب الطويل .. عانقت بكفيها كتفيه منحنية قليلا .. تنظر الى وجهه العابس : ما فيهم شيء .. يدتك بخير .. شوي وبتصير احسن .. انت تدري ان عندها السكر وهالتعب شيء عادي ..
" وشبيب ؟ " قالها لتخرج تلك من خلفه : شبشب مات مثل بابا ؟
لم تجد نفسها الا ان سحبتها الى صدرها : لا حبيبتي .. شبيب بخير والحين بيي .. راح الشغل ..
غرق هي الاخرى وجهها بدموعها .. تبعدها بهدوء : شوفي تراج صيحتيني ..
وضحكت بخفوت وهي تمسح وجه كلثم المبتل ومن ثم تمسح دمعها هي : يلسوا هني .. بودي مخدة لاماية العودة وبرد .. وبيلس وياكم الين ايي شبيب .. اوكي ..
لا صوت سوى اهتزاز رأس هاشل بالموافقة .. وجلوس كلثم على الكرسي .. تحاول ان تكون قوية .. هي قبلا اعتنت بوالدها ايما عناية .. كانت متكفلة بكل شيء .. والآن هي ايضا تقوى على فعل الكثير وليست بحاجة لاحد ان يخبرها ما يجب ان تفعل .. اطلت بجسدها لتجد تلك الصالة قد خلت الا من كنة والجدة المستلقية .. لتدنو ترفع راس تلك الذي خذلها جسدها لتقع صريعة ذاك المرض اللعين .. تُريحه من جديد على تلك المخدة الناعمة .. لتفتح عينيها على صوتها السائل كنة : وينهن ؟
الاخرى تجلس اعلى رأس جدتها .. تشد على الهاتف في حجرها .. شاردة .. حتى حين اجابت كان عدم التركيز يحتوي نظراتها : امايه ما ادري وين راحت .. شامة راحت حجرتها ما تعرف تتصرف .. تلقينها تصيح والا رقدت ..
التفتت حين شدت تلك العجوز باناملها على كف ريا .. لتتبسم .. ويشوبها الحزن حين قالت : ولدي ييا ؟
ربتت على كفها الاجعد بكفها الاخر : الحين بيي .. خليني اقيسلج السكر ..
تقوم بذلك وهي تحادث كنة : شو قالج اللي كنتي تكلمينه ؟
" جابر ؟ " ... ليسودها الصمت لثواني بعدها : قال بيروحله الشغل .. وبيسأل عن الحادث ..
هناك في داخلها صوت يحثها على التفاؤل وصوت آخر يزجره أن لا تفعل .. تنسكب دموعها وهي في مكانها .. لا شيء يتحرك فيها سوى صدرها .. يصلها صوت ريا بين الحين والاخر متسائلة .. واسئلة تطرحها جدتها عن شبيب وتلك تطمأنها .. حتى ما نهضت .. رفعت بصرها إليها أخيرا : وين بتروحين ؟
لتبادلها النظرات : كنة ذكري ربج .. شو بلاج جذي منكسرة ..
هزت رأسها لتعود تطأطأه : خايفة .. احس اني مب قادرة اقوم ..
عادت تنظر إليها ومن ثم إلى جدتها : ما لازم ناخذها المستشفى ؟
" السكر بدا يرتفع " .. ابتعدت قليلا ثم وقفت لتنظر لكنة من جديد : خليها ترتاح وعقب شوي لازم تاكلها شيء ..
خلا المكان وتوشحه الصمت .. وهمهمة خافتة بين الفينة واختها تتبعثر من ثغر الجدة .. يمر الوقت ثقيلا .. وذاك الهاتف القابع بين كفيها لا يرن .. يُخيل إليها انه قد غاب عن الحضور .. فتفتحه مرارا تتيقن ان روحه لا تزال فيه .. جابر لم يعاود الاتصال .. والدتها لا صوت لها .. وشامة لم تعد .. وريا ايضا غادرت وعادت وبيدها طبق طعام .. اجبرت العجوز على الاكل منه .. وها هي تبتعد عنها .. وهناك في صدرها خوف من الفقد .. لا تطيق الفراق .. فارقها والدها حين غفلة .. ولا ترغب ان يتكرر الامر مع شقيقها ..
تغوص في الكثير من الآهات المتوالية .. يشتد اختناقها فلا تقوى على الصراخ .. جفلت حين وقع كف على كتفها .. واسمها يتردد .. لترفع نظرها : شبيب ..
منذ دقائق ليست بالكثيرة توقفت سيارته في ساحة المنزل .. ليتقافزا كُل من كلثم وهاشل من تلك الصالة .. يناديان باسمه .. وزوجته خفق قلبها وجدا .. هل يعقل ان صوت السيارة المتسربل اليهم في حضرة التلفاز ورسومه المتحركة هو لسيارة شبيب .. وقفت بصعوبة .. تشعر ان ساقيها ثقيلان وان جسدها اثقل منهما .. تحركت ببطيء .. حتى ما استقرت على آخر الممر تسمرت في مكانها .. يأتيها صوته البعيد .. غاضبا هو ومستاء ..
ترجل .. واذا بالخطوات المسرعة تصل اليه .. يحتضنانه باكفهما بعنف .. واسمه من بين شفتيهما كان له وقع الخوف .. تحملق نظره على جسد والدته الخارجة من الداخل .. والتي سقطت جالسة بوهن .. ليسارع اليها .. فتشده الى صدرها وجدا : شبيب .. انت شبيب ..
" لا حول ولا قوة الا بالله " .. قالها وهو يبعد جسده عن جسدها .. ينظر الى وجهها الباكي : ما صدقت يوم ياني جابر المكتب يقولي انكم شالين البيت شلل من الصايح ..
بنبرة متقطعة : قالولي سويت حادث وسيارتك احترقت ..
استغفر مرارا .. يعلو صوته اكثر واكثر مع كل استغفار : ما قالولكم وين مستوي الحادث .. ما سألتوا .. ع طريق دبي مستوي .. وين احنا ووين طريق دبي .. يعني خذوها بالعقل شو اللي يودين هناك .. من سمعتوا ان السيارة نيسان سودا ونفس موديل سيارتي قلتوا انا ..
يرتفع وينحني يساعدها على النهوض : قومي ندخل – يلتفت خلفه – دخلوا ..
جرى هاشل لداخل يصرخ بان شبيب قد عاد .. وتلحقه تلك الصغيرة .. ليقفا بفرح امام ريا : شبيب برع ..
قالتها كلثم واتبعها هاشل : كله كذب ... بروح اقول حق شامة ..
يلوح لها جسده بجانب جسد والدته .. يمشي بمعيتها .. يلجان لصالة وتسمعه يسأل عن جدته .. لتنسحب من مكانها بهدوء .. لم يرها ولا تتمنى ان يراها بهذا الحال .. ففضلت الانزواء ..
جلس بجانب جدته لينكب على رأسها مقبلا .. ويسوءه حال كنة حين ارتفع من فعله .. ليزحف على ركبتيه حتى ما صار قبالتها اردف كفه على كتفها .. مناديا اياها بخفوت : كنة ..
جفلت فنطق : بسم الله عليج ..
نطقت باسمه وحرارة قاسية تُلهب مقلتيها .. وارتعشت معها شفتيها .. لترتمي على صدره منتحبة .. تستصرخ وجعها ان ابتعد .. تحمد ربها مرارا على سلامته .. تنهد : بس .. كلها كم ساعة غبتهن صار فيكم كل هذا ..
بصوتها المكتوم في صدره : ليش ما ترد ع فونك ..
لترفع وجهها وتصرخ به : حرام عليك .. اتصلت مليون مرة ولا ترد .. كل ذا شغل .. ما نهمك .. صاير حتى اتصالاتنا ما تعنيك .. ليش ..
لتقف وهو يرتفع نظره لها : لا تلومنا – تمد له بهاتفها – شوف .. كم مرة اتصلت .. امايه العودة مرضت .. وانت ولا همك .. ما صرنا نهمك .. لا تقول ليش وليش .. فاهم ..
جميع الانظار كانت تخترقها .. لا تستوعب ما تفعله كنة في هذه اللحظة .. أكنة تثور في وجه شبيب ؟ .. تلك من المستحيلات في هذا المنزل .. ابتسم لها ليقف ويدس يده في جيبه .. يخرج لها هاتفه ويمده .. هي تمد بهاتفها وهو يفعل كفعلها : خربان .. صاير ما توصلني اي مكالمات عليه .. وانا عبالي محد يتصل علي لاني بعدني معرس ..
" شبيب " .. نبرة خافتة اسكتتهما عن البوح .. لينظران للاسفل حيث تلك المستلقية .. ليعود يجثو على ركبتيه بجانبها : يا عيون وقلب وروح شبيب .. افا اطيحين وانتي شيخة الحريم .. هذا وانتي بعدج شباب ..
لاحت له ابتسامة خافتة منها فابتسم أكثر .. لتزجره باعياء : عليت قلوبنا بسواتك يا ولد ناصر ..
ينحني يلثم جبينها بعمق : ما عاش اللي يعل قلوبكم .. بس انتوا الله يهداكم من وصلكم الخبر ارتبشتوا .. سألوا الحرمة ووين وكيف .. وسبحان الله ما صار اللي صار الا وفوني متعطل ..
نظرت إليه .. لتحاول النهوض فيساعدها لتجلس ويتحرك يضع النمرقة خلفها .. ليأتيه صوتها وهو منحني بجانبها : روح لحرمتك .. امك قست عليها بالكلام ..
تبعثر نظره .. تارة على كنة التي لا تزال على وقفتها .. وتارة أخرى على والدته الساكنة حيث اجلسها .. ليقف ويقع بصره على شامة الواقفة بالباب وبجانبها هاشل وكلثم .. تبسمت له فبادلها الابتسام .. ليحث خطاه تاركا الجميع خلفه ..
,‘,
إن كان خبر كاذب فعل بهم ما فعل .. فماذا إن فقدوه حقا ؟ .. عمله ليس بذاك السهل .. تساؤلات تناثرت فيه بعد ان خطى مبتعدا وصوت والدته تزجر كنة على فعلها يسمعه .. حتى ما فتح باب قسمه واغلقه رفع وجهه للاعلى متنهدا .. يتحرك ليقف خلف الكنب راميا بهاتفه على الطاولة .. يعاتبه ربما بنظراته التي طالت عليه .. يقطب جبينه .. تذكر اخيرا .. هي لا تملك هاتفا .. تبسم مرددا بخفوت : ولا تكلمت ..
تحرك يفتح باب الغرفة ويتسمر في مكانه .. مطيلا النظر إلى تلك التي اطالت السجود .. يرفع معصمه ليرى الوقت .. واذا به قريب الحادية عشر .. ارتفعت من السجود لترفع كفيها لربها تغدقه بالشكر بتمتمات خفيفة لا تُكاد تُفهم .. وهو ظل في مكانه .. حتى ما مسحت وجهها ناطقة بالشهادة ..بلعت ريقها وتحركت تطوي سجادتها وتقف .. ليأتيها صوته : تقبل الله ..
تجيبه بخفوت وهي تردف السجادة على السرير .. تلتفت أخيرا ناظرة إليه ليسألها : شكر والا ضحى ؟
داعبتها ابتسامة استشف هو من ورائها بعض من خجل .. تجيبه بهدوء : شكر ..
ينظر إلى ملامحها الهادئة .. لحياء عينيها .. لتحركها متوجه نحوه لتخرج من الباب .. لم يشعر الا بذراعه تمتد تقطع طريق خروجها .. ليتجهم وجهها .. ترفع بصرها لوجهه .. وتغزوها نبضات خوف تحاول سترها ..تهز رأسها قليلا بحركة بسيطة وكأنها تسأله ما الامر .. لتظهر الجدية على وجهه : شو قالتلج امي ؟
اتسعت ابتسامتها : شو قالولك اول ما شافوك ؟
" انا سألت " .. قالها لتزم شفتيها ناطقة : وانا جاوبت بسؤال .. جاوب ع سؤالي اجاوب ع سؤالك ..
رمقها بنظرة : لا تسوين قدامي الطبيبة النفسية وتتلاعبين بالكلام .. ترى ما ينفع وياي ..
بنبرة فيها شيء من ضحك : لا والله ما خطر ع بالي .. بس جاوبني شو قالولك ؟
ابعد ذراعه ليربعها مع الاخرى على صدره ويستند بظهره على حافة الباب : امي ما تكلمت .. بس كنة انفجرت فيّ .. اول مرة تعلي صوتها علي بهالشكل .. بس ما الومها ..
ابتسمت : وانا ما الوم امك ..
فرحة .. سعادة .. شيء ما يداعبه .. حبور وراحة تتسلل بين اضلعه .. يراها تمر عابرة عتبة الباب ومتوجهة لباب القسم : وين رايحة ؟
" بروح اسوي غدا .. اكيد محد له خلق عقب اللي صار " .. تبسم بشكل جعلها تقطب جبينها : ليش هالضحكة ..
لوح بيده تاركا مكانه ليلج الى داخل الغرفة : ولا شيء .
عادت ادراجها تقف حيثُ كان . تنظر إليه يبحث في دولاب ملابسه : لا تخاف .. اعرف اطبخ .. مب مثل الشاهي ..
غرق في الضحك .. مما جعلها تضحك بخفة .. يرمي بملابسه التي اخرجها على السرير .. يحدثها وهو يلتقف منشفته قاصدا دورة المياه ( اكرمكم الله ) : روحي .. بس تحملي الكلام اذا طباخج مب شيء ..
ظلت مكانها .. تغزوها ابتسامة .. تصنمت ونظرها على أخر طيف له ..
كم انت جميل حين تضحك .. وحين تبتسم .. حتى حين يتعكر صفو وجهك غاضبا .. هل تُراني ادمنت تصرفاتك ؟ واضحيت اعرفها .. بل احفظها كمقرر دراسي في يوم اختبار .. آه من قلبي النابض بشكل لم اعهده .. يلوح لي بين منامي اني لك حبيبة .. تداعبها وتسامرها وتغدقها بالغزل .. هل من يوم انال فيه ما احلم ؟ ام ان الايام ستغدر بيّ ؟ .
افاقت من حلم اليقظة الذي عاشته ثواني لتبتسم تطوح رأسها وكأن ما كان يجول في فكرها ما هو الا ترهات فتاة تبحث عن الحب .. رتبت " شيلتها " على رأسها وتنهدت بخفوت تاركة المكان .. في خلدها دعاء بان لا تلتقي شمسة .. تعبر الممر بهدوء وتحمد الله انهما تجلسان في مكان لن تريا منه مرورها .. تسمع شمسة مع والدتها وكأن الحياة عادت من جديد كما كانت ..
,‘,
هُناك في المطبخ .. تقف تُجرم في الخضار بعنف .. حتى السلام من ريا لم تسمعه .. لم تشعر الا بها تقف بجانبها : شامة بلاج معصبة ؟ حرام عليج هرستي الطماط ..
ضحكت لا اراديا .. لتتابع الاخرى : الحمد لله رد وما صار له شيء ..
يتجهم وجهها .. وتتابع التقطيع بهدوء بخلاف ما كانت تفعل : توترنا .. يالسه افكر لو صار...
تمسك على كفها .. تقاطع حديثها وتستحل مكان وقوفها : لا تقولين لو .. تراها تفتح عمل الشيطان .. قولي الحمد لله .. وما بيصيب العبد الا اللي كتبه له ربه .. لا انتي ولا اي حد يقدر ساعتها يقول لو .. واصلا ما يحق لنا نقولها .. بنكون نعترض ع حكمة ربنا .. ع قضاءه وقدره .. خلي اللسانج دوم يقول الحمد لله ..
" انزين هاتي اكمل " قالتها وهي تحاول العودة لمكانها .. لتتمنع الاخرى : انا بكمل .. صالونة شو بتسوين ؟
" سمج " .. واردفت بهدوء : انزين عطيني اكمل .. انتي مب ناقصة كلام ..
عقدت حاجبيها .. وشفتيها قد زمتا .. ويدا ترفع السكين في وجه شامة واخرى استندت بها : حتى انتي ؟ .. تراكم تظلموني ..
تعود لعملها وتتابع : روحي سوي العيش .. والصالونة علي ..
اذعنت لها لتبدأ تتحرك في المكان في غرض تجهيز الارز المسلوق .. لتحادث ريا : كنة شكلها متلومة .. دخلت حجرتها ولا طلعت .. الصراحة ما تصورت فيوم اشوفها تصرخ بهالشكل فويه شبيب .. يعني انا عاادي متعودين على عصبيتي .. بس هي ..
تقف ريا تحرك البصل في القدر : تبين الصدق خفت عليها يوم شفتها يالسه ما تتحرك .. اتذكر كلامج عنها .. عن هدوءها واتزانها .. بس اللي صار خوف الكل .. والمشكله ولا وحدة فينا كانت بعقلها .. وصلنا الخبر وصدقناه ..
الاخرى وقفت مستندة بظهرها .. تنتظر الماء حتى يغلي بعد ان غسلت الارز وتركته جانبا : الخوف من ان شبيب يروح وما عاد نشوفه شيء صعب ..
طأطأت رأسها واردفت : يوم مات ابوي الله يرحمه .. ما صدقت .. كنت اقولهم كذب .. راح الشغل كيف تقولون مات .. قالوا سكتة .. كان واقف وطاح .. بصعوبة تقبلنا الموضوع .. الحين لو اللي انقال ..
زجرتها بعنف : قلتلج لا تقولين لو .. لو ... ولو .. ولو .. وبعدين ..
هدأت نبرتها .. تضع البهارات وتتحدث : ليش احسج متغيرة .. شامة لا تردين لورى .. يمكن ذاك اليوم لو عطيتيني فرصة كنت فهمتج .. كنا بقينا وييا بعض .. اخذ منج واسمعلج ..
زفرت وهي تغطي القدر .. تنظر لوجه شامة : لا تخلين تعلقج بالناس والتفكير ففراقهم اكبر همج .. هذا شيء مب بايدنا .. بس الشيء اللي بايدنا ان نخلي دايم فبالنا ان ربنا ابد ما بيتخلى عنا .. العلاقة الباقية الين نموت وعقب ما نموت هي علاقتنا بربنا .. هالعلاقة بايدنا نقويها وبايدنا نضعفها .. صح والا لا ؟
اتحمله الاقدار لتضعه على منصات المصادفة .. فيبهره الحديث .. وتعتلج في مخيلته التصرفات .. هل هي هكذا حقيقة .. ام زيف مصطنع ؟ .. وهل الزيف يبقى في حضرته وغيابه ؟ .. تنهد في وقوفه .. لم يلج .. ولم يدع لجسده ان يلوح لهما عبر الباب .. عاد ادراجه متناسيا ما كان يريد .. يبتسم وهو يرى جدته التي اخذت تربت بجانبها : تعال يمي ..
جلس حيث دعته .. ليأتيه صوت والدته : خبرتها ما تكثر ملح وفلفل .. اخاف تسويها للغدا مثل تسويها للشاهي ..
" لا حول ولا قوة الا بالله " .. بخفوت نطقتها والتفت لشمسه التي تدلك لها ساقها : انتي ما تيوزين .. البنت ما صارلها كم يوم عندنا وانتي طايحه فيها ..داريها .. اذا مب عشان ولدج عشان انها يتيمه .. مالها غيرنا ..
" لها اهلها .. اعمامها ما شاء الله تارسين لبلاد " .. زفرت دون ان تكترث لابنتها ملتفتة لشبيب : ما عليك من كلام امك .. شميس وهذا طبعها ..
صمتت لبرهة ومن ثم : شو بلاك ياولدي .. وشو اللي حادنك ع الطلعة وانت بعدك معرس ؟
بابتسامة وهو يطلب من والدته ان تترك تدليك ساقي جدته له .. لتتنحى الاخرى مستندة على النمرقة وتنطق : منها ؟ شيء اكيد ؟
- لا والله مالها ذنب .. بس تدرون ما احب يلسة البيت .. مليت وقلت اطلع ..
يحرك كفيه على ساقيها : شو صحتج الحين ياميه ؟
زفرت بخفوت : الحمد لله .. بس قابضني هدام ( نعاس ) .. من اصلي الظهر واتغدى بحط راسي وبرقد .. وبعدين يا ولدي مب حلوة فحقك ولا حق بنت الناس تداوم وانت عندك اجازة .. وما صارلكم الا كم يوم معرسين .. استهدي بالله وان مليت البيت اطلع وخذها وياك .. شوفها البلاد .. ولو بعد تاخذها وتسافر كثر الله خيرك ..
ضحك حتى بانت نواجذه : وتقدرون ع فرقاي .. والله ما هقيتكم ..
تتقدم بجذعها لتربت على كتفه الايمن : بنقدر .. بس انت ريح عمرك ..
تقتحم المكان وبيدها هاتف نقال .. تتحرك حتى استقرت امام شبيب تحول بينهما ساقي العجوز .. نظر اليها .. واذا بها تلتفت يسارها حين سألتها شمسة : كنة وينها ؟
رفعت كتفيها .. زامة شفتيها : ما ادري ..
" وهاشل ؟ " .. اجابتها بهدوء : فحجرته يلعب سوني ..
تعود تنظر لشبيب وفي جعبتها احاديث لا تعرف كيف تحكيها .. لتجلس القرفصاء تنظر الى كفيه المنهمكان .. وينظر هو اليها باستغراب .. لتسأل : يدوه يعورج ؟
" لا فديتج " .. قالتها العجوز ومن ثم التفتت لابنتها المستقيمة واقفة : ع وين ؟ .. لا تروحيلهن المطبخ .. خليهن ..
تحوقلت وتابعت : شباها اروحلها المطبخ .. رايحه حجرتي ..
" انتي اللسانج ياكلج .. ولو ما لقيتي حد تتحاططين وياه بتتحاططين وييا عمرج " .. صمتت وهي تسمع ابنتها تثرثر بسخط وهي مدبرة حتى اختفت عن الانظار .. ليصلها صوت شبيب وهو يسأل كلثم : شو عندج ؟
تمد يدها : فون شامة .. كنت اكلم امي .. تلفون البيت خربان .. قلت لها اريد اكلم مريوم وامي واتصلت لي ..
هدوء غريب يتسربل في الارجاء .. وهي قد دست الهاتف في حجرها .. واحتظنت ركبتيها .. لتتحدث : الحين انا اروح بيت ابويه العود وامايه العودة .. ايلس عندهم شوي ..
" بس " .. قالتها الجدة وهي تسحب ساقيها : الله يعطيك العافية وييزاك الخير ..
أمن من بعد دعاءها ليمد يده ممسكا بكف كلثم .. يقف وتقف هي ليقع الهاتف منها .. وتنحني تنتشله .. ومن ثم يجلس بجوار جدته ويجلسها في حجره : كلثوم عندها كلام ومب عارفه تقوله صح ؟
هزت رأسها بنعم .. واناملها تلعب بالهاتف بين ركبتيها .. ينحني هو يضع ذقنه على كتفها .. ويحتظنها بذراعيه : ومن متى كلثم تستحي من شبيب ؟
كان المكان لا يضج الا بحديثهما الخافت .. فتلك العجوز ارتحلت في اغفاءة داهمتها حين اراحت ظهرها على النمرقة .. وهو يحادث الصغيرة بود وحنان لطالما اغدقها به : ياللا .. ما بتقوليلي ؟
ببراءة اخذت تحيك الكلمات : انت تخليني اروح بيت ابويه العود عادي .. امايه ما تقدر تيلس هني .. ومن زمان ما يت .. اريد اروح عندها ..
تتحرك ملتفتة له .. ترفع اصبعيها السبابة والوسطى : بس اثنين .. بيلس عندها طشونة .. ما عندنا مدرسة .. عادي صح ؟ ايلس وييا مريوم وييا امي شوي ..
كم انت قاسٍ يا شبيب ؟ انتزعتها من كنف والدتها بقسوة .. وابعدتها وكأن لك الحق فيما فعلت .. لا تعي شيء .. صغيرة وعقلها لا يعرف البحث عن المبررات .. وقلبها النقي كيف استحللت أن تألمه .. هل انت راضٍ عني يا خالد ؟ هل توافقني فيما فعلت ؟ .. ام انني اهملتُ ما أوصيتني به ..
كفها الصغير المعانق لوجنته حين لم يعد في واقعه سوى جسده .. اعاد عقله لها .. يسمع صوتها بعد ان اراحت يدها على جانب وجهه : شبشب .. انت زعلان ؟
ابتسم يلتقف كفها ويلثم راحتها : عقب ما اصلي العصر بوصلج عند امج .. تيلسين عندها كم يوم بس ..
,‘,
في البعيد القريب .. يتسلل الحزن والرهبة جنبات روحها كُلما مر يوم يتبعه اخر .. تناجي ربها دون كلل .. تشعر انها تنسل رويدا من مكانها .. كشعرة تُسحب من احضان العجين .. تبلبلت ايامها بين توتر حديث وخجل حضور .. هي ليست بضعيفة ولكن الضعف بات ينهش فيها كلما سمعت الاحاديث من والديها .. كثيرا ما تجلس بمعيتهما دون ان تشاركهما الكلام .. تشرد حيث المستقبل المرعب ..
وها هي تجلس امام والدتها تلف بذراعيها ركبتيها .. والاخرى تسرح لها شعرها في سكون .. لا حديث من الممكن ان يُقال .. لتبعثر الصمت بنبرتها الهادئة : امايه ؟
" هممم " .. همهمت بها والدتها تنبأها أن تكلمي .. إني هُنا اسمعك .. شدت انفاسها بنهم الى رئتيها : ابويه فيه شيء ؟
لم تُجبها .. فهي ايضا ترى بان بعلها متغير وجدا .. ليس بطبيعته .. يُكثر من القرب لربه حتى بات لا ينام من الليل الا سويعات .. ومن النهار لا يقضي معهما الا سويعات ايضا .. عاد السكوت يلفهما .. وعادت هي تبعده بصوتها : ابويه وايد متغير .. مب مريض ... بس فيه شيء مب قادرة اعرفه .. هو حلف انه ما فيه مرض وان اللي فيه مب لهالسبب .. وابويه يموت ولا يحلف كذب ..
انهت والدتها الجديلة .. لتمسح على رأسها في حنو : لا تحاتين .. الحمد لله انه ما تغير لشيء شين ..
" ابويه بيخلينا يا اميه " .. قالت جملتها لتشهق والدتها برعب .. ضاربة براحتها على صدرها : شو هالرمسة يا عايشه .. تتفاولين ع ابوج بالموت ؟!
لا تزال تُريح ذقنها على ركبتيها .. ولا يزال صوتها هادئا : قلبي يقولي هالشيء .. خوفه علينا .. علي انا اكثر .. استعياله بعرسي .. خطبته لفارس .. حتى يوم ييلس وياي يسمعلي القرآن أحسه يبكي .. احس قلبه يشتاق ومرات يخاف .. كل ما امر على آية فيها ذكر الجنة يقولي عيدي .. أسأله غلطت .. يقولي عيدي .. واسمعه يصيح ياميه .. حتى دموعه صرت احسها تنزل .. ابويه بخير بس فيه شيء يقوله عمره ..
" بس " .. صرخت بها والدتها قبل ان تكمل .. مردفة وهي تشد على كتفي ابنتها تديرها لها : انتي شو بلاج ؟ .. خرفتي ؟ والا انينيتي .. تعوذي من بليس .. ابوج ما فيه الا العافية ..
ابتسامة ضعيفة رسمتها بشفتيها .. تعلم بأن والدتها ايضا ينتابها هذا الاحساس كثيرا .. شرودها .. صمتها الدائم وحتى حين الحديث مع والدها لا تثقل عليه بالسؤال .. الا ما ندر من المرات ينتابها الغضب حين لا يولي كلماتها اي اهتمام .. ارتفعت عن الارض حين وصلها صوت والدها المُلقي التحية .. تردها مع والدتها .. تشعر به يدنو منها فتلتقف يده وباليد الاخرى تحني رأسه تقبله : مساك الله بالخير يالغالي ..
يجيبها في هدوء .. ويجلس لتبادر تلك بالسؤال : تاخرت وايد .. بالعادة ع الساعة تسع تكون هني .. والحين بنصير عشر ..
تنهد : يلست وييا فارس وخذنا الكلام ..
يشدها الحديث عنه فترهف السمع اكثر .. تلتقط الوجع في صوت والدها وتلتقط الكثير من الامور .. تسمع والدتها تسأل من جديد .. وتشعر بها تجلس لتجلس هي الاخرى : وشو هالسالفة اللي ما قدرت تأجلها لباكر ؟
السكون مخيف مع وجهه ذي الملامح الهادئة .. بلعت هي ريقها حين طال الصمت : ابويه ..
حين لم يأتها جوابه تابعت : تكلمتوا عني ؟
تحدث مُجيبا صغيرته .. فاهتاجت زوجته صارخة به .. طفح بها الكيل من تصرفاته المتسرعة .. ودون ان يستشيرهما في شيء : شو هالرمسة يابو عايشه ؟ قلنا العرس عقب العيد .. اشوله تقوله ياخذها عقب شهرين .. انت فيك بلى وما طايع تقول .. مسترخص بنتك وترميها ع الريال رمي .. كنا مب قادرين عليها ..
تهيل عليه الجُمل القاسية .. وابنتها خانها الدمع وجرى .. متعبة هي من التفكير لما بعد العيد .. والآن يأتيها والدها ببعد شهرين .. تسمعه يتكلم أخيرا : ترومي تسكتين شوي ..
يلتفت لابنته يدنو منها زحفا .. وكفيه المرتجفان تمسح دمعها .. لينحني هامسا في اذنها بشيء اضحكها من بين دموعها .. لم تشعر الا به يشدها الى صدره ولحيته الطويلة تجبر عينيها على الابتعاد خلف الجفون ..
,‘,
وهو اغلق جفونه واسند رأسه على ظهر الكنب .. يرتحل في تفكير عميق .. انزوى في الصالة الملحقة بغرفته .. لا يرغب برؤية احد .. حتى والدته لم يمر عليها بعد عودته .. لم يشعر الا بصوتها يطرق مسامعه .. منادية باسمه : فارس ؟
فتح جفنيه معتدلا في جلسته .. ما لبث حتى وقف يقبل رأسها ويدعوها للجلوس بجانبه .. متخوفة هي .. يكسوها الهلع من منظره : شو بلاك ؟ .. ومن متى انت هني ؟ وانا اترياك ترد من الصلاة ..
وكأن هواء الغرفة فر هاربا .. ليتنفس بثقل .. يزم شفتيه ماسحا وجهه بكفه .. كيف عساه يخبرها .. ازدرد ريقه : قررت اقدم العرس .. عقب شهرين بيكون ان شاء الله
" شو ؟ " .. اطلقتها بحنق .. متسائلة بسخط : من متى صاير مستعيل .. احيد محد مثلك فالركادة .. شو بلاك ؟ مسويلك سحر والا شو ..
" اعوذ بالله " .. نطق بها وهو يلتقف كفها فتسحبه من بين كفيه : امايه سمعيني ..
قامت واقفة : مابي اسمعك .. انت فيك شيء .. مب ولدي فارس .. كل شوي طالعلي بشيء .. ساحرتنك هذا وانت ما شفتها .. عيل يوم تشوفها شو بتسوي ..
ادبرت خارجة .. تتحوقل مرارا .. تضرب الكف بالاخر .. وهو جلس مشدوها يرقبها تبتعد .. وآخر جملها تتردد في ذهنه مرارا .. ليتنهد ويتحوقل .. ويقف يشد خطاه الى دورة المياه ( اكرمكم الله ) .. ليس له الا الله يستشريه .. هو الهادي القادر ان يبدل خوفه راحة بال ..
في الجوار ومنذ دقائق كان حديث غريب يُدار من قبل عُمر لسمية .. منذ ذاك اليوم وهما كالغريبين .. لا يتحادثان الا قليلا .. يكره سخطها القاسي .. هي قاسية حين تغضب .. وما ان يتحدث عن الامر حتى زاد غضبها .. دعاها للجلوس حين عاد من المسجد مصليا .. قبل عودة فارس بجزء ليس بهين من الساعة .. لكنها تمنعت .. وتعذرت بالكثير .. كتحضير مائدة العشاء .. وما ان انتهوا حتى دعاها من جديد .. شدها من يدها واجلسها عنوة بجانبه ..
تململت ناطقة : خير .. لو بتتكلم فنفس السالفة .. الاحسن تسكت يا عمر ... راسي صدع من كثر ما اعيد فالموضوع .. قلتلك طاحت وتعورت وسقطت .. ولا تنسى انها كانت ماخذه اخوك .. فلا تيلس تشككني فاختي وكلام امي .. ولا تحط كل الحق علي ..
هو لا يتحمل هذا الحديث الفج معه : الحين من الادب ترمسين وياي جي؟ .. وكني اصغر منج .. لا احترام ولا شيء .. ومادة البوز علي صارلج ايام .. وان تكلمت سكتيني .. تراني مخليج براحتي .. وساكت براحتي ..
تنهدت مستغفره : مب قصدي يا عمر .. بس والله كارهه نفسي بهالكرشه وانت مزودنها علي .. اصلا من اللي قالك هالرمسة .. لا تقولي خالي وابويه يابو السيرة .. اعرفهم ما يتكلمون فمواضيع الحريم فميالسهم ..
" لا مب هم " .. شد انتباهها ما قاله .. ليكسوها الوجوم تنتظر منه ان يكمل .. ليردف : السالفة انا اللي ثرتها ذاك اليوم .. يوم رحنا نزورها فالمستشفى .. مسكتني وحدة من المرضات وقامت تقولي .. انت مدين وتخاف ربك .. ليش ما خفتوا وانتوا تضربونها واطيحون ولدها ..
" مضروبة ؟! " نطقت بها وهزت رأسها نافية بعدها .. مكملة : كيف مضروبة .. محد ضربها هي طاحت والرضوض من الدري ( السلم ) من كثر ما تقلبت عليه .. شكلها هالممرضة مغلطة بين سلوى ووحدة ثانية ..
" يمكن " نطقها دون اقتناع .. هو يرغب بان ينتهي هذا الصراع الذي احال ايامه الى ساعات لا تطاق بقربها .. ويبدو من اندهاشها ان لا علم لها باي شيء .. ففضل ان يطوي تلك الصفحة على هذا الحديث .. وان كان هناك من امر فلا شأن له به ..
فزا من مكانهما على الطرقات المتتالية على الباب .. ليهرول يفتحه بعد ان ادار المفتاح .. ليرى والدته ووجهها المشرأب بالحزن والغضب : عمر رمس اخوك .. شكلهم ساحرينه .. ياي يقولي العرس عقب شهرين .. ولدي متغير ..
تحوقل : ان شاء الله الحين اشوفه ..
يغادر المكان بملابسه الداخلية .. الازار والبلوزة القطنية .. حتى ما وصل قسم شقيقه طرق الباب ودخل .. ليجده حيث تركته والدته آنافا .. القى السلام واجابه .. وجلس مجانبا له : شو الرمسة اللي تقولها امي .. انا قلت ان يلستك ويا ابوها الليلة وراها شيء .. ليش تخليهم يمشونك بهالشكل .. انت راضي ؟
زفر واستغفر .. ثم عاد وزفر : توني مصلي وطالب ربي .. وربي ما بيردلي الشين ..
" والنعم بالله " .. واردف : ما قلنا شيء يا فارس .. الرحمن ارحم بعباده .. ومب انا اللي بيي افهمك هالشيء .. بس الشيء بالعقل وانا اخوك .. شوي تقولنا العرس عقب العيد وشوي تقول عقب شهرين .. شو اللي مستوي وياهم .. واخوانها مالهم حس للحين .. وكانهم ماعندهم خبر بالموضوع .. اخاف تتوهق ان دروا ..
رفع كفيه ماسحا بهما شعره .. وتلك الزفرات لا تفارقه : ربك كريم يا عمر – ينحني يربت على فخذ شقيقه – قوم روح ارقد وراك دوام .. وانا بحط راسي وبرقد .. واللي الله كاتبه بيصير ..
" والا قتلوك ؟! " قالها منذر وهو في جلسة مع شقيقته وابناءها ما عدا كنة .. وتلك الجدة تجلس في الزاوية في ذاك المجلس .. تسمع قهقهته العالية من بعد جملته لشبيب الذي اخذ منه فنجان القهوة بعد ان ارتشف ما فيه .. ليغرقه في اناء الماء .. لتتهكم اخته : اضحك اضحك .. يوم ان دورناك قفلت تلفونك ..
ليتحدث هاشل بحماس : خالي والله لو شفتهن .. كل وحدة تصيح من صوب .. وكل شوي تنازعني امي .. انزين انا شدخلني ..
ليقفز من مكانه يجلس بجوار خاله : بروح وياك .. احسن من هالبيت ..
" قر مكانك " صرخت بها شمسة : هذا اللي ناقص بعد تخلي البيت وتلحقه ..
- انزين شموس شبلاج شابه ضو .. شكلج مشتاقتلي بس مب عارفة تعبرين ..
ليعود يضحك .. وتشتاط هي غضبا منه .. ليسترسل بالحديث عما حدث : والله انك سويتها فيهن يا شبيب .. انزين شيك ع فونك شوف علته .. شكله العرس طير عقلك ..
تبسم يهز رأسه : ما تيوز انت عن سوالفك .. وبعدين مبروك .. قالولي قدمت فشركة ادنوك .. وبشهادتك الجامعية ..
اعتدل في جلسته : الله يبارك فيك .. هيه قدمت وسويت مقابلة بس للحين ما ياني رد .. وان شاء الله خير ..
وفجأة عاد من جديد يستمتع بالحديث عن تلك الحادثة : والله انكن حريم ..
ينظر للباب حين لاحت منه كنة وهي تحمل صينية بها كعك وفطائر .. لتضعهن امامه .. ويأتيها صوته : شو بلاج كل شوي قايمة ... مب مشتاقتلي والا شو ..
تبسمت فهي الى اليوم لم تحادث شبيب بعد ما فعلته .. تشعر بالحرج منه .. اخطأت في حقه ولا تقوى ان تعتذر منه وهو ابتعد عنها ليتركها على راحتها .. فمتى ارادت الحديث هو هُنا .. نطقت وهي تجلس بجانب هاشل : والله لك وحشة يا منذر ..
تزجرها والدتها : الين متى تقوليله منذر .. هذا خالج .. احترميه ..
" والله يا شمسة الاحترام مب بالالقاب .. والا شرايج يا خالتي ؟ "
ينظر الى العجوز التي تنهدت : صادق .. بس اختك من بيفهمها ..
ازدادت حنقا .. ليزداد هو ضحكا .. ويعود من جديد : عاد قلنا عقل خالتي واختي من زمن اول .. بس عقلج وعقل شامه وعقل حرمة اخوج وين ؟ .. بس الحرمة تبقى حرمة وان تغيرت الازمان تبقى النساءُ نساء ..
قهقه بشدة يسانده شبيب وشامة ايضا وحتى كنة ضحكت .. لتستغفر شمسة ناهضة : بقوم ابركلي .. من يوم ما وصلت وانت ما عندك الا هالسيرة .. وحريم وحريم .. الحريم هم اللي ربوك ..
قام واقفا مهرولا يستوقفها .. ويقبل رأسها : السموحه يا ام شبيب .. بس بعد بتبقن حريم ..
تركتهم مبتعدة والضحكات تلاحقها .. وما هي الا بضع من الساعة حتى فُض المجلس .. فذاك على موعد مع احد اصدقاءه من بعد المغرب .. لم يبقى في المجلس سوى شبيب يشاهد التلفاز بملل .. لتلج كنة وتقف عند الباب لبرهة ثم تتحرك .. ترفع الصينية من المكان .. ينظر اليها تدبر واذا به يغلق التلفاز ويناديها : كنة ..
توقفت والتفتت له .. لتجده واقفا قبالتها يتناول ما بين كفيها يضعه ارضا .. ويعود يستقيم في وقفته : الحين منو اللي لازم يزعل ..
لا تنظر إليه .. بل تشتت نظرها بعيدا عن وجهه : مب زعلانه ..
ليرفع وجهها بانامله من ذقنها .. وهي تتمنع النظر اليه : طالعيني .. يهون عليج ما تكلميني ولا تيلسين وياي ..
اغرورقت عيناها بالدمع : مب زعلانه والله ... بس مستحية منك .. ما اعرف شو صارلي ..
خفضت بصرها تداري وجهها عن عينيه .. لم تشعر الا بكفه تمسك مؤخرة رأسها وتدسه في صدره .. مقبلا اياه : ما يهون علي اشوفج بعيده ..
يفرقهما صوت جرس الباب لتُسرع الخطى خارجة تحمل بيدها تلك الصينية .. ويتبعها هو يستقبل الزائر في هذه الساعة من ما قبل المغرب .. يحث خطاه نحو البوابة المفتوحة على مصراعيها .. ليجد ذاك الطارق قد انتحى له مكانا بجوارها من الخارج .. مستترا بالجدار .. يرحب به ويدعوه لدخول ..
يحتويهم ذاك المكان الذي اكتظ بالضحكات والدموع آنفا .. يقوم معه بواجب الضيافة : حيالله بو غنيم ..
تبسم الاخر وهو يمد كفه يلتقف فنجان القهوة : تحيا وادوم يا بو ناصر ..
الترحاب من شبيب ادخل اليه شيء من امل .. هو لا يرضى بالهزيمة .. ولا يرضى ان ينتهي حلمه بذاك الشكل الذي انهاه فارس سابقا .. تحدثا مطولا .. ليزفر بخفوت .. ونظرات شبيب المستغربة لا تفارقه : اليوم ياي اريد اسمع ردكم فموضوعي ..
زم شفتيه : والله يا سالم الزواج قسمه ونصيب .. ونصيبك ما عندنا .. والسالفة اظن انتهت من ذاك اليوم ..
- سألتوها ؟ ترى حكمكم علي لا يرضاه عقل ولا دين يا شبيب .. خلو البنت هي تقرر .. هذي حياتها ..
تنهد .. سينهي الامر اليوم لا محالة : البنت مالها نية فيك يا سالم ..
" مستعد اترياها " .. قالها واستحل الصمت هُنيهة .. ثم اردف : مب مستعيل .. وتراني شارينها ..
- سالم .. البنت حتى لو بغت العرس ما تباك تكون نصيبها ..
استنفر واقفا .. صارخا : مب رمسة ريايل هالرمسة يا شبيب .. وان كنتوا بتاخذوني بسواة امي مثل ما سوى ابوك قبلك فهالشيء محد يرضاه ..
بهدوء نطق : احشم المكان اللي انت فيه يا سالم ..
- انتوا خليتوا فيها حشيمة .. شو يعيبني .. معرس ؟ .. عندي عيال؟ .. ترا الحرمة ما صارت ع ذمتي من اسبوع .. ومالكم حجه تتحججون فيها .. والا فارس ماسكنك من ايدك اللي تعورك ..
- احترم نفسك يا سالم .. بغيت الجواب منا ووصلك .. ماله داعي الكلام الزايد .. والعرس مب بالغصيبة .. قلنالك مالك نصيب فيها .. يعني مالك نصيب ..
,‘,
هناك على بعد بضع امتار منهما وقبل دخول سالم بمعية شبيب .. وصلت للمطبخ لتضع ما في يدها بجانب المغسلة وتحادث تلك المنهمكة في غسل الصحون : ريا خليهن عنج ..
" عادي " .. نطقتها وهي لا تزال تعمل بجد : صرت من اهل البيت واللي عليكن علي ..
ابتسمت تلك وهي تسحب الصحون من الصينية التي احضرتها كنة : الحمد لله – وبعد صمت ثواني – تصالحتي وييا اخوج والا بعدج ؟
- تصالحت .. اصلا ما كنت زعلانه .. بس حسيت ان مالي ويه اكلمه عقب الزفة اللي زفيته اياها ذاك اليوم ..
لتصمتا فجأة على الصوت العالي .. تتحركا لتقفا بالباب : يا ويلي هذا سالم ..
امسكتها من ذراعها تديرها اليها : شو بلاج مختبصة .. ومنو سالم ؟
لتحكي لها امره برجفة انتابتها .. ومن ثم نطقت : خايفة ع شبيب ..
" استهدي بالله " .. نطقتها وفجأة سحبتها عن الباب : طلعوا ..
هرولت كنة وتبعتها ريا .. لتتسمرا حين ظهر شبيب امامهما عائدا من الخارج مودعا لذاك السالم .. ونظرة الغضب ارتسمت في مقلتيه .. ليتركهما ويلج الى المنزل ومن ثم لقسمه .. تتحرك كنة تتبعه لتستوقفها ريا : لا تروحين .. اكيد داخل يتوضا وبيطلع يصلي .. فهمي منه عقب ما يرد من المسيد .. لا تكلمينه وهو معصب ..
ابتسمت لها كنة .. وهزت رأسها موافقة .. فتلك الـ ريّا صارت تعرف شقيقها حق المعرفة .. تدرسه بهدوء .. وكل يوم تكتشف فيه شيء جديد .. الا شيء واحد ابى احساسها ان يلم به .. هل تعجبه هي .. كما يعجبها ؟
اليوم التالي .. يوم آخر تمر ليلته عليهما كباقي الليالي .. يسكنها الهدوء والبعد .. ولج هو من بعد ان تناول الغداء ليأخذ غفوة .. وهي جلست تشاهد التلفاز .. ومن ثم اغلقته .. لتقف بثوبها الواسع الذي يخفي نحول جسدها .. تدنو من المكتبة الصغيرة بالزاوية .. تعج بالكتب .. ترتفع على اطراف اصابعها لتطال احد الُكتب من اعلى رف .. تسحبه وتتصفحه لبرهة ثم تُرجعه .. تتحرك مقلتيها على العناوين .. يتغضن رأسها تارة على اليسار وتارة على اليمين .. وهي لا تدرك العيون التي ترقبها من على عتبة باب الغرفة ..
لم يستطع النوم .. فخرج ليراها تقف قُبالة مكتبته المكتظة بالعديد من الكتب .. يراقب حركاتها .. ضمها لسبابتها بين شفتيها قاظمة ظفرها بتفكير .. حركة رأسها .. شعرها الداكن اللون .. لم يلحظه الا الآن .. متى غيرته من ذاك اللون الباهت ؟ .. حتى ابتسامتها وهي تقترب تسحب احد الكتب لاحت له .. نزولها وجلوسها القرفصاء لتتصفح آخر الرفوف .. ومن ثم استقامتها .. حتى ما عانقت ذراعها وسطها لاح له مقاس خصرها .. تذكر معانقة ذراعه له حين التقاط الصور .. ورجفتها التي ارعبته ..
رباه .. هل يعقل ان هذا الجسد استباحه الرجال .. وعاثوا فيه دلالا .. هل قُبلت تلك الشفاة في لحظات الفسق ؟ .. كيف استطعتِ اني تُسلميه ببخس ثمن يا ريا ؟ .. وشعرك كم من يد لعبت فيه .. وكم من انف استنشق عبيره ؟ .. يجرحني التفكير كثيرا في امرك يا من على ذمتي .. اقاوم نفسي واصارعها ان لا تدنو منكِ ليلا ..
لم ينتبه انها رأته .. وعادت تبحث بين كتبه ليسمعها تحادثه : ما شاء الله عندك من كل شيء .. تاريخ .. فلك .. ادب .. حتى علم النفس .. ودين ..
اقتربت تسحب احد الكتب العتيقة التي غلفت بغلاف لا يحمل عنوان .. لتسحبه فيفلت من بين اناملها ساقطا .. تتحرر من بين اوراقه صورة .. فيسارع هو بخطاه .. ينحني قبل ان تنحني .. يلتقط الصورة ومن ثم الكتاب .. يمد لها بها : تعرفينه ؟
على مضض تبسمت : العقيد ناصر الـ.....
دسها في مكانها .. واعاده الى مكانه .. ليمسك كفها يمشي بها الى الكنب يجلسها .. ويجلس هو على الكرسي المفرد : تبينا نعيش حياتنا مثل اي اثنين معرسين ؟..
سؤال مفاجئ اجتاحتها بسببه عواصف خوف .. ورعود نبضات تجلجل بين اضلعها .. تتصنع عدم الفهم : ما فهمت ..
تنفس بعمق زافرا بقسوة : نريد نتصارح .. والا بمعنى اصح تصارحيني .. انتي دارسة علم نفس ومتخصصة فيه .. وتعرفين ان المصارحة والصدق هي احسن طريقة لبدأ علاقات انبنت على وساوس ..
شدت باناملها على طرف الكنب .. وبصرها يبتعد عنه امامها : عندك وساوس .. من كلام يدي وفهد .. صح ؟
رفعت وجهها لوجهه .. لا ترغب بهذا الامر .. هي دائما كانت مستمعة .. فكيف لها ان تكون المتحدثة عن ماضٍ تخجل منه .. وتحكيه لمن ؟ له هو .. من امسى يخترق اضلعها رويدا رويدا .. حتى احلامها لا يعتقها .. بلعت ريقها وزمت شفتيها مرارا .. تنتظر منه جواب .. لكن لا شيء .. لتنطق وهي تنكس رأسها : هم شو خبروك ؟
- سؤال غبي منج .. ما توقعته .. يعني تبيني اقولج اللي قالوه عشان تنفينه او تأكدينه .. واذا ناقص بتضمين اللي نقص عني ..
انحنى قليلا للامام : اباج تقوليلي كل شيء صار وياج .. من اول ما سافرتي ؟ وكيف عرفتي ابويه ..
يعود يُريح ظهره على الكرسي : يعني كل شيء .. بدون خوف .. وبدون مستحى ..
نزلت دموعها لتسارع تمسحها .. وبرجفة صوت : بتكرهني .. يمكن تمسكني وتعقني برع بيتك ..
شهقت تسحب الهواء لرئتيها المختنقتان .. الا دموع النساء لا يقواها .. وبصوت هاديء : ريا .. انتي امانه فرقبتي من ابوج .. لا تخافين .. شو ما كان ماضيج .. وكثر ما كان قاسي .. ما بيخليني اتجبر عليج .. بس الله يخليج اريد اعرفه .. عشان اللي فراسي يا يثبت يا ينتهي ..
,‘,
هُنا أقف .. وموعدنا يتجدد مع الزفرة 44 باذن الله
تحياتي |~