الابتعاد لم يرتجيه يوما في تلك الظروف .. ولكن عقله كان يبتعد شيء فشيئا .. يسمعهم ويشعر بهم .. وكثيرا ما يشعر بصوت صاحبه الذي ارتحل عن الدنيا .. واحاديث قديمة وضحكات شبابية متداخلة .. وعيناه تطبقان الجفون بقوة .. تتمسكان بالظلام بعنف .. كم كانتا قاسيتين لتبعده عن عزاء خالد .. وعن عمه الذي هو سند له من بعد ابنه البكر .. لو تمنى شيء واحد الآن لتمنى السقوط بعد العزاء لكان ارحم وارحم .. انتفض جسده بعنف .. او كأن عظامه هي التي تنتفض .. تعلن العصيان على عقله النائم .. تريد اشعال ثورة توقظه من سباته العقيم ..
وصوت بعيد يقترب .. بل هي اصوات ممتزجة بالبكاء والغضب .. وحارب قريب .. شعر به بجانبه وشعر به وهو يبتعد .. لتتردد همهمات لا يعيها .. وشيء من بكاء وصراخ .. ورائحة عطر نسائي ليس بغريب عليه يغزو رئتيه وينتشر في خلاياه .. يجبره على الاستيقاظ .. لكن لا تزال الجفون تهوى الارتخاء ..
سحب الهواء بنهم غريب .. لتشرع عينيه ابوابهما .. ويزفر ويزفر ويزفر .. زفرات متوالية .. وكأن به غريق التقط الاكسجين بعد عناء غوص .. ليصله صوته الاجش وينطق هو باسمه : حااارب ..
صوت خافت ولكن كان كفيل بان يصل الى اذآنهما .. هل سمع كل شيء ؟ هل فُضح امرها ؟ .. ترك يدها بعنف .. لتسرع على فيها .. تخنقه بقسوة .. لعلها تعاقبه لانه تكلم في هذا المكان .. عيناها تتبعان حارب الذي وقف ينظر لاخيها بابتسامة وتسمعه يتحدث ولكنها لم تعي شيء ..فدقات قلبها غطت على فهمها .. تشعر به سيخرج من صدرها .. سيهرب ويبتعد بعيدا .. ظلت واقفة لدقائق لتنسحب بعدها دون ان تعي اي شيء .. خوفها يحملها على العودة للمنزل .. مؤكد ان الجميع سيكونون هنا في ظرف ساعات .. مشت ومشت واذا بها تهرول في ذاك الممر .. لتنتبه لنفسها فترفع طرف " شيلتها" على وجهها الباكي وتتابع الهرولة .. لو بيدها لطارت وحطت في غرفتها وتدثرت ببطانيتها .. لو بيدها لاعادت عقارب الساعة للوراء شهرين .. لو بيدها لما وافقت على ذاك الذي اكتشفت نذالته منذ دقائق خلت .. كل ما ترغبه الآن هو سريرها .. منزلها وكل شيء هناك ..
,‘,
وهناك ارتجفت فرائصها وهي تستمع له حتى رددت : اعوذ بالله منك يا نويذر .. اعوذ بالله منك ..
ليغرق في ضحكة غير متناهية .. ليقفز بعدها حين ضربته بعصاها على ساقه .. ومن بين وجعه لا يزال يضحك وهو منحني يمسك ساقه : اعوذ بالله من هالعصا يا ام شميسه .. اعوذ بالله من هالعصا ..
ليغرق الجميع في الضحك الا هي .. لتزفر بغيض مرددة : تريد توسمه ( تكويه ) تريد تشوهه يا ولد ام منذر ..
جلس وهو يحني رجله ولا تزال كفه على ساقه .. ولكن هذه المرة ابتعد عنها في جلسته .. فتلك العجوز لا يؤتمن قربها وهو يحب المزاح وجدا .. همس : ااح تعور ..
لينظر له جابر : تستاهل محد قالك تيلس قربها وانت تعرف سواياها ..
نظرت اليهما بغضب : شو فيكم تتساسرون .. تكلموا .. الحين ما لقيتوا الا الوسم (الكي ) ..
تحوقل ليردف : ترا قالوها قبل .. آخر الدواء الكي .. وفي قصص عن الصحابة رضوان الله عنهم تتكلم عن الكي .. اللي هو الوسم يا ام شمسة ..
وقفت شمسة : بروح اسويلكم عشا .. ولا تكثر كلام يا منذر ..
تحوقل من جديد وهو يتبع اخته بنظراته : ترا ما عرفنالكم .. اذا ما تكلمنا ما عيبكم واذا تكلمنا بعد مـ ...
لم يكمل بسبب رنين هاتفه ليقف بوجه متجهم .. وذاك ينظر اليه : ع وين ؟
لم يرد عليه ليردف : منو اللي متصل ؟
لتنطق العجوز وهي تقلب حبات المسبحة في يدها : اكيد وحدة من الخياس اللي يكلمهن ..
لتجحظ عينا جابر وكأنهما ستخرجان من محجريهما .. ويرمش مرارا وهو يتجهم من قولها .. فـ منذر ليس من هذا النوع من الشباب .. ولكن تلك العجوز تقول كلمات تأتي بالريبة للسامع .. تنحنح ليقف : بروح اشوفه .. سمحيلي ..
اقتربت خطواته من ذاك المستتر بالجدار حتى لا تعصفه نسمات الهواء الباردة .. يراه مبتسم .. وعيناه تلتمعان فرحا .. ليغلق الهاتف ناظرا للواقف امامه : قام ..
لتنفجر الشفاة عن اسنانه .. وينطق وهو يعانق كتفي منذر بكفيه : احلف ..
امسكه بيده ليجره معه للخارج : خلنا نروحله ..
ولا تزال الفرحة متمسكة به وهو يقف ليمنع منذر من التقدم : خلنا نبشرهم ..
هز رأسه بمعنى لا .. ليردف : حارب يقول قام .. بس ما يرد عليه .. يكلمه ولا يرد .. عيونه لفوق وبس ..
تحوقل .. ومشى معه يستعجله وما ان وصلا للبوابة الحديدية حتى اصتدم جسدها بجسدجابر .. ليسحبها منذر اليه .. صارخا باسمها .. يضغط على ذراعها وجدا .. ليصرخ : انتي من وين يايه ..
بكاء فقط وحشرجة صوت لا يريد الخروج .. وشهقات وصمت عن الجواب .. لتعانق يده اليمنى ذراعها الاخرى يهزها وهو يكاد يخترق عظامها بانامله الشديدة : تكلمي يا بنت شمسه ..
سقطت " شيلتها " جراء حركة جسدها المتطوح بين كفيه .. ليمسك الاخر برسغيه : خلها .. منذر خلها مب وقته ..
يعرفه حق المعرفة .. فعند الغضب لا يرى امامه قد يضربها .. يركلها .. ويشتمها .. نفضها بعيدا لتجري .. ويلتفت اليها وهي تهرول لداخل : بتشوفين شغلج بعدين يالخايسة .. بتشوفين ..
ليسحبه جابر من ذراعه ليخرج به : خلاص يا منذر .. امشي نشوف شبيب الحين ..
" وين رايحين " نطقتها شمسة وهي تقترب منهما : وشو بلاه شبيب ؟
بابتسامة اجابها : اتصلوا علينا عشان سيارته للحين عندهم ورايحين نييبها .. ما بنطول .. وبنرد وبنتعشا لا تاكلون العشا عنا ..
" زين ".. قالتها واردفت : ديروا بالكم ع اعماركم .. وهاللا هاللا فالشارع .. زلق ولا ينضمن ..
بارد جدا .. قليل الكلام نعم .. ولكنه يستطيع ان يخرج نفسه من اي شيء بسهولة .. وملامحه تلك لن تشكي اي تغير .. بعكس منذر .. الذي لا يزال الغضب مرتسما على وجهه .. ولم يستطع النظر في وجه اخته ففضل المشي تاركا الامر لجابر .. جلس والغيض يفترسه افتراسا .. كيف لها ان تكون خارجا وامها تخبرهم انها نائمة ؟ .. قبضة يده على فخذه وانفاسه الثائرة اجبرتا جابر على الالتفات له لبرهة .. ويرجع نظره لطريق .. ليردف بهدوء : هدي عمرك .. واكييد لها اسبابها .. العصبية والضيجة ما بتييب فايدة ..
لم ينطق وفضل النظر جانبا .. فتلك ستجلب لهم فضيحة ما بما فعلت .. ماذا لو رأوها الجيران ؟ .. وماذا ان حدث لها شيء وهي بالخارج .. انتفض جسده على تلك الفكرة التي راودته .. ليعود له وجهها الباكي .. لم تبكي لوجودهما وكشفهما امرها .. بكاءها كان قبلا .. تمتم بالاستغفار .. ليلتفت له جابر من جديد : ان شاء الله ما يكون فيها شيء ..
التفت له بجزع .. منذ المراهقة وهو يستطيع ان يقرأ ما يدور في رؤوسهم .. هو وخالد .. اما شبيب فلم يكن يوما يستطيع معرفة ما يفكر به .. زفر بعنف : يا ويلها مني اذا صارلها شيء فهاليل .. والله ما اخليها وانا ولد ابوي ..
,‘,
نظره كان متسمرا في السقف .. وذاك يسأله عن حاله .. وسرعان ما تركه ليخرج خلفها ويقف عند باب الغرفة من الخارج .. ينظر اليها لتختفي بعدها .. لا يفهمها .. كيف بمقدورها ان تتهمه بذاك الاتهام .. الأنه فقط صديق شقيقها منذ ايام طوال .. منذ ايام اللعب بين بيوت " شعبيتهم " القديمة .. منذ ايام " الدكان " الذي جمعتهم عتبته مرارا ..اقترب منه من جديد .. يحدثه .. ويقيس نبضه .. نظره شاخص للبعيد .. ايعقل ان يكون سمع كل شيء .. سمعها تتهمه وسمعه يعنفها .. مصيبة ان فعل .. فالا اخواته لا يرضا ان يمسن بسوء .. تنهد ليقترب منه ينحني بجذعه .. قريبا من وجهه : شبيب انت بخير ..
وانامله المرتجفة تمسك رسغه لتسري رجفته لشبيب .. وينطق بهدوء : منو كان هني ؟
بلع ريقه .. لينظر ذاك اليه ويعيد سؤاله بهدوء : منو كان هني يا حارب ؟
ابتسم .. ليردف بكذبة : محد .. بشو حاس ؟
اغلق عينيه ليسحب الهواء بوجع ارتسم على حاجبيه القريبان من بعضهما بشعيرات ارتسمت كجسر واصل .. ويفتحهما بتعب : احس جسمي مكسر .. آآه
تأوه .. واردف : ريلي تعورني .. احسها متيبسه ..
- شيء عاادي .. صارلك اسبوعين ع الفراش .. لا تخاف جسمك ما فيه اي شيء .. ونبضك الحمد لله اوكي .. يبالك بس تتحرك شوي شوي وبترد مثل قبل . .
ابتسامة ساخرة ارتسمت على محياه .. لم يفهمها حارب .. ليمتعض منه .. ويعقد حاجبيه اكثر .. فذاك يحاول الجلوس بارهاق جم .. اسنده وساعده : لازم ما تتعب عمرك .. صح ما فيك شيء والحمد لله .. وكل الفحوصات تأكد هالشيء بس لازم نحسب حساب انتكاسة يمكن تصـ
قاطعه : شخبار عمي ؟ وعيال عمي ؟ - بلع غصة استوطنته ليردف – وام خالد ؟
" بخير .. كلهم بخير " .. ما ان انهى جملته حتى ولج منذر يتبعه جابر .. وسلام حار .. واحضان شوق من خال لابن اخت ورفيق درب .. وسلام آخر من شقيق روح واخ رضاعة .. ليمسك معصمه تحت حديث منذر الصاخب لحارب : خوفتنا يا ريال .. تقول ما يتكلم .. وعيونه فوق .. هذوا مثل التيس قدامنا ..
ليغرق بعدها في ضحكة وكانها تخبر شبيب عن الشوق القابع في صدر ذاك المنذر .. ويتمتم بعدها : بخبرك بعدين سالفة التيس ..
وعاد يضحك مع مناوشات صغيرة لابن اخته .. وذاك يبتسم وهو يشعر بقبضة شبيب على رسغه تحاول ان تشتد ولا تقوى .. ليربت عليها بيده الحرة .. ويبتسم أكثر .. لينطق منذر : اموت واعرف شو اللي بينكم ..
اعتق يد جابر ليضحك بتعب ضحكة قصيرة : ما بينا الا كل خير ..
" عن اذنكم " اطلقها حارب ليغادر بعدها .. يشعر بنظرات شبيب تخترق جسده .. لا يقوى على الكذب امامه .. مائة بالمئة سيكتشف تلك الكذبة التي قالها عليه سابقا .. وقف خارج الغرفة وهو يسمع ضحكات منذر وحديث خافت من جابر .. سيتعبونه بالحديث .. انعقد حاجبيه .. فقد ينتكس وهو لم يحذرهما .. هو لا يقوى على الرجوع .. اطلق قدماه للمسير .. عدنان كفيل بافهامهم ما يتوجب عليهم فعله .. سيتعذر باي شيء .. ربما بمريض يحتاج مراقبة اكثر .. او بحالة طارئة .. لا يهم ما نوع العذر .. المهم ان لا يبقى مع شبيب هذه الليلة ..
دخل عليهم وهو يتحمد له بالسلامة .. ويقترب منه يقوم بعمله .. لينطق جابر : دكتور عدنان .. وين حارب .. معقوله يخلي مريضه اللي يشرف عليه من اول ما انصاب ويروح ..
اجاب وهو يرفع جذعه : مشغول شوي .. عندو كم مريض .. معافاي باذن الله ..
- الله يعافيك ..
خرج ليحرك ذاك جسده ليتبعه .. ويمنعه شبيب : جابر .. خلك ..
يشعر بانه في موقف حرج جدا .. لا يريد ان يترك منذر لوحده فان عاد الى منزله بمفرده سيحدث ما لا يحمد عقباه .. ولا يرغب بترك شبيب لان هناك رجاء منه للبقاء معه .. محاصر جدا .. الرنين المتواصل لهاتف منذر اخرجه من تلك الحيرة .. لينظرا له وهو يتحدث بكلام مبتور : انزين اهدي .. كنه لا تصيحين .. الحين بكون عندج ..
بخوف الشقيق نطق : كنه شفيها ..
- فارس تعبان .. تقول مب قارد يقوم من الفراش .. بروحلهم ..
اسرع واذا به يعود : جابر السويج ( مفتاح السيارة) – التفت لشبيب - شبيب ترا للحين محد يعرف انك قمت .. فلا تتهور وتتصل بامك فهالليل .. والله ما ترقد للصبح ..
التقف المفتاح الذي رماه له جابر .. وخرج وهو يضحك .. هو هكذا يعشق الضحك امام الجميع حتى وان كان صدره مليء بغصة ما .. كفعلة شامة التي لن يغفرها لها ..
سحب كرسي وجلس عن يمينه : لا تفكر بشيء . توك قايم خل كل شيء لوقته ..
هز رأسه بالايجاب : حاس بوهن ..
" ارقد " .. قالها وصمت .. صمت موحش مع دفء الغرفة البيضاء .. يراقبه بصمت وهو يغلق عينيه ويتنهد .. خلف ذاك الرجل اسرار كصاحبه الذي توفاه الاجل .. والاسرار على كاهل القابع امامه اضحت اثقل واثقل .. بحجم جبل " حفيت " .. او اكبر .. لا يحق لاحد ان يلوم عقله ان فكر الابتعاد .. الابتعاد للراحة .. والعودة من جديد ..
حفيت: جبل في مدينة العين يحتل المركز الاول في الارتفاع في امارة ابوظبي والمركز الثاني في دولة الامارات ككل .
سحب نفسه للامام ليسند ظهره ويربع ذراعيه على صدره ..يحمد الله بان ما حدث لفارس قد يكون سببا لتهدأت منذر .. قدر جميل حدث .. ابتسم.. يتخيلها فيغمض عينيه .. اسبوعان واكثر هي بعيدة عنه مع اهلها .. لم يكن يعلم حين اقترن بها بانه سيعشق تفاصيلها بهذا الشكل .. الغياب جعله يدرك ما معنى رائحة عطرها في غرفته وعلى السرير و في كل مكان .. وجعله يدرك انها تحب ترتيب المناشف باتقان في دورة المياه ( اكرمكم الله ) .. وايضا جعله يعلم بأن ذراعه خفيفة جدا في لياليه الطويلة .. ابتسم لتنتظم انفاسه بعدها ..ويغفو ..
,‘,
يـتـبـع |~