ـــــــــــــــــ
,‘,
ـــــــــــــــــــــ
بعض المصائب أو لربما أغلبها تقربنا من خالقنا وجدا .. حتى نبات ندعو ونُصبح وقد أستجاب الدعاء .. ونرسم الحياة في عيوننا جنة نحياها .. إن أصابنا خير شكرناه .. وحمدناه جل في عُلاه .. وإن أصابنا شر أحتسبناه وصبرنا ننتظر الفرج من بعد الضيق ..
بعد مُصابه العظيم تقرب من ربه وجدا .. حتى اصبح الحزن لا يُرى .. شهور مرت على حادثة الاعدام التي تلقاها .. ليحيا من بعدها كجثة تحركها الانفاس .. ونبضات قلب قد أختُرق وأنتزع منه ما أحب سنين طوال .. واليوم هو فارس مختلف .. يشوبه الماضي ولكن ليس كما قبل .. يتنفس الحاضر بفرح يغزوه كُلما أستيقظ بهمة ..
الساعة تجر اكفها لتعانق السابعة صباحا .. يرتب هندامه وهناك ابتسامة تُصر إلا أن ترتسم على شفتيه .. وعقله كطاحونة هواء لا تفتر النسمات من مداعبتها .. هو لا يعلم من أمر الزوجة المُرشحة له شيئا .. جُل ما يعلمه أن والدها صالح .. لا يفكر في دنياه بقدر ما يفكر في آخرته .. إذا فهي كمثله .. نبتت في أرض خصبة بالايمان ..
تنهد ينهي ترتيب " العقال " و" الشماغ " .. يحاول أن يتذكر بعض الاحاديث القديمة بينه وبين كنة عن بنات ذاك الرجل .. ولكن كان يُنهي الحديث دائما بأن لا دخل له في أمور الغير .. ليبقى الصمت من قبل كنة رفيقا في هذه المواضيع ..
سحب مفتاح سيارته ومحفظة نقودة وهاتفه مع سماعته .. وحث الخطى خارجا من غرفته إلى غرفة والدته .. يحول بينه وبينها الباب .. يسحب أنفاسه ويطلقهن براحة .. سيبث إليها بقراره في الزواج للمرة الثالثة .. تبسم وقد مر في عقله إنه طلق مرتين في سنة واحدة وهاهو يسعى للزواج للمرة الثانية في هذه السنة .. نفض رأسه وكأنه يحادث نفسه بِأن لا يستعجل .. سيدع الامور تسير ببطئ ..
بعد طرقتان بمفصل وسطى يمينه ولج .. يراها ترفع جذعها عن الفراش بعيون ناعسة .. لتزداد ابتسامته وهو ينحني يقبل رأسها : وعيتج ؟
لتجيبه بصوت اثقله النوم : لا .. بس منسدحه .. بعدك ما داومت ؟
- الحين رايح .. توها سبع ..
جلس يثني ساقه اسفله .. يمسك كفها ليرفعها مقبلا .. ومن ثم بشيء من تردد : حبيت اخبرج .. اني قررت اعرس .
رمشت مرارا وكأنها تحاول ان تستوعب ما سمعته .. لتبتسم وبفرح أطار ما تبقى من نوم فيها : اليوم بروح ادورلك بنت الحلال ..
ليقاطعها : امي .. البنت مويودة .. ويوم ارد من الدوام بيلس وياج وبخبرج ..
قال ما قاله وارتفع ليدبر .. وتبقى هي مع السكون .. تحاول ان تعرف من تكون الفتاة التي يقصدها .. لتنهض من السرير مسرعة .. ترتدي " شيلتها" الكبيرة .. وتبتعد الى غرفة أبنها الاخر .. تطرق الباب بإزعاج جعل سمية تمتعض وهي تترجل من على السرير .. تفتح الباب رويدا واذا بتلك ناطقة بتبسم : عمر وينه ..
- يتسبح .. خير عموتي صاير شيء ؟
- بترياه فالصالة خبريه .. اريده فسالفة ..
تسربل الى قلبه الخوف حين أخبرته سمية بطلب والدته .. فارتدى ملابسه سريعا .. يكفي أنه تأخر على عمله هذا اليوم .. أسرع بخطواته الوجلة الى الصالة ليراها جالسة فيُلقي عليها السلام مع قبلة بارة على رأسها .. لتمسكه من رسغه تجلسه بجانبها .. فيعود يردف " غترته " البيضاء للخلف : خير يا اميه .. في شيء .. شيء يعورج ؟
قطب حاجبيه وهو يسمعها : فارس خبرني انه موافق ع العرس .. وقالي البنت مويودة .. قولي يا عمر منو هالبنت .. انت دوم وياه واكيد خبرك عنها .. شو اسمها وبنت منو .. اعرفها .. والا من بعيد .. بنت حد يعرفه والا اخت حد من ربعه ....
تابعت طرح الاسئلة عليه حتى اسكتها بقوله : ما ادري عن شيء .. ودامه قرر يعرس شيء حلو .. والبنت بنعرفها الحين والا بعدين ..
ليقف : ان تاخرت ع الدوام .. ولا تحاتين فارس بيخبرج عنها .. والله يتممله ع خير ..
مضت ساعات اليوم وهي تعدها عدا .. تشعر بأن اليوم طال حتى اضحى كأيام لا يوم واحد .. أعدت الغداء مع نورا وهي في شرود .. حتى انها لم تبالي بمزاح أبنتها حين دعت لنفسها بزوجا يخلصها من تعبها الذي تعيشه .. كانت تسترق النظر لوالدتها حين سألتها عن الساعة .. لتجيبها وهي تطفيء النار عن القدر : وحدة ونص ..
واردفت مستفسرة : اميه شو بلاج اليوم .. حتى عند ياراتج ما رحتي .. وكل شوي تسأليني عن الساعة .. حد بيينا ع الغدا والا شو السالفة ..
" ما في شي " .. نطقتها وخرجت من المطبخ .. تلتقي بأبنتها هند : أمايه صارلي اسبوع اقولكم اريد اروح السوق اتشرى .. ولحد طايع يشلني ..
- أوووه مب وقتج الحين .
بغضب وهي ترقب والدتها المبتعدة : أووووهوو كله مب وقته مب وقته .. عيل متى وقته ..
لتشد هي الاخرى خطواتها بغضب الى المطبخ : نورووه قولي حق عمر يشلنا السوق .. فارس قلتله وقال ما عنده وقت .. والله ناقصني اشياء واايد ..
رفعت تلك حاجبيها مقتربة من شقيقتها الواقفة عن الباب : عنبوج يا هنييد .. انا يوم فعمرج ما اطب السوق الا مرتين قبل العيد الصغير وقبل العيد العود .. وانتي كل شهر تبين تروحين .. وطايحتلي فهالمكياج .. تشترين وتعقين .. والله ما عندج سالفة .
هي الاخرى ابتعدت .. وكأن شحنات التوتر والغضب مرض مُعدي أطاح بهم واحد تلو الاخر .. حتى تلك الـ سمية أصابها التوتر من حديث والدتها لها عبر الهاتف .. لتغلقه وقد عقدت حاجبيها متمتمة والهاتف لا يزال في يدها : شو بلاها أمي تسأل عن فارس بهالشكل ..
لتقف تاركة الهاتف بعنف على السرير .. ناطقة بغضب : وانا شو دراني اذا يبي يعرس او لا ..
خرجت ليستقبلها صوت التلفاز العالي بعض الشيء .. وتلوح لها نورا جالسة .. وبكفها بعض حبات تباع الشمس .. تنظر باهتمام لاحد الافلام .. دنت منها : نورا وين عمتي ؟
دون ان تحرك ساكنا : فحجرتها .. سوت الغدا ودخلت وللحين ما طلعت ..
لتنسحب من المكان حين سمعت صوت فارس .. مع هند في الخارج .. وسرعان ما القى التحية على نورا .. ويغادر لغرفة والدته .. لتقف تلك بتعالي تنظر الى شقيقتها : ما منج فايده .. قلت حق فارس وبيوصلني ..
" متى ؟ " سؤال منها وهي لا تزال مسمرة انظارها على الشاشة .. ليأتيها صوت هند : اليوم فالليل ..
هناك في تلك الغرفة المملوءة بالكثير من الفضول .. تشتت التوتر حين البوح بأسم العروس .. ليسودها الغضب .. تصرخ به : ما لقيت الا عويش .. قلن الحريم يا فارس .. لا وبعد ما تريد حد يتكلم وياك .. وتباني ارضى غصب عني ..
تنهد مقتربا منها زحفا على ركبتيه لتبعده حين اراد تقبيل رأسها : خوز عني .. يالسه ادورلك البنات الزينات الكاملات وانت يايني تقولي عن عويش ..
بشيء من الحدة : لا حول ولا قوة الا بالله .. ياميه شو بلاج شبيتي علي .. شو بلاها البنت .. يكفي انها متربية ع الصلاح والدين ..
وقفت ناظرة اليه أسفل منها : ما تيوزلك يا فارس .. ما تيوزلك ..
تتركه يزفر انفاسه بقوة .. يقطب حاجبيه .. لم يعلم من امر تلك العروس شيء .. لهذا أسماها ذاك الشيخ أمانة .. عليه أن يصونها ويحميها .. بل عليه أن يكون لها أكثر من زوج .. طوح رأسه ونهض ضاربا بأكفه على فخذيه .. سيعود ليفكر في موضوع الزواج مجددا .. لعل الله يهديه إلى خير السبيل ..
,‘,
تشابكت أمورها .. وامتزجت افكارها حتى باتت تأن تحت وطأت حالها .. لا شيء كما كان .. الوحدة تشدها إلى غياهب الجنون .. وتلك القاسية لم تعد ترغب بمحادثتها .. فاغلقت الهاتف من جديد .. وحشة قاتلة من بعد " نيرما " .. وقدميها تخشيان تخطي عتبة الباب للخارج .. يخيفها ما آل إليه مصيرها .. تشعر أن ذاك المتعجرف في حديثه سيوصلها لا محالة إلى كنف عائلة تبرأت منها .. تبرأت من عائلتها ..
تجلس في ظلمة المكان إلا من نور الشارع المتسربل عنوة من الزجاج .. هدوء أقتحمها بقوة .. تغلغل فيها حتى باتت تسمع نبضات قلبها واضحة .. تشكي لها الرهبة أحيانا كثيرة .. لآليء عينيها يكشفها الضوء .. وانفاسها المتضاربة يكشفها السكون ..
تبكي صاحبة صحبتها بالحسنى حتى أوصلتها إلى السلام .. تبكي مر المصاب من بعد المصاب .. وتنتظر قرع الباب واندفاع الرجال .. فذاك المتبجح باختصاصه منذ ايام أمامها سيوصل أمرها الى أبن العم القاسي لا محالة .. سيثور كما ثار منذ سنوات .. ارتجفت تشد بكفيها على ذراعية احتضانا .. يومها كان والدها سندا لها .. واليوم لا سند .. سيقتلوها ..
طأطأت رأسها على ركبتيها .. لتأخذها غفوة للبعيد .. ساعات الفجر الأولى تلوح لها بطمأنينة ترتجيها .. لتجفل فجأة وكأن بأوصالها تطالبها بمناجآة خالقها .. مسحت على وجهها متشهدة .. تترجل عن حضن الكرسي الوثير .. وتسعى لتناشد ربها .. تطلبه الرحمة والغفران وشيء من صبر تحتاجه بشدة ..
لتنام من بعد صلاتها على سريرها ملتحفة .. تمضي ساعات الوقت .. هي هكذا تهرب من الوحدة بالنوم أو مع الافكار الهامسة لها بما قد يحدث في مستقبلها ..
هل جربت الاستيقاظ على صوت طرقات باب مرعبة .. وصوت جرس لا يفتر ؟ .. هكذا نهضت من فراشها .. وطبول قلبها تضرب عظام صدرها وكأنها تبحث عن الفرار .. سحبت غطاء الصلاة الذي القته آنفا على جانب السرير .. وهرولت بخوف .. لتهدأ خطواتها حين لاح لها الباب على بعد متريين .. فتمشي الهوينة .. تسترق النظر عبر العين السحرية .. و ترتفع كفها تسد فيها .. وتتنفس بخفوت باحثة عن هدوء نفس .. لتفتح الباب مبتعدة بخطوتان للخلف .. ناظرة لوجهه البشوش .. عيني والدها .. ملامح الوقار كذاك الفاني .. وحنان دفين في عالم تسوده قسوة الرجل .. القى التحية مُردفا : شحالج يابنتي ؟
صوته أعادها الى واقعها لتتقدم نحوه تحني رأسه بكفها مقبلة له : بخير .. حياك ؟
تنحت تشير بيدها إلى الداخل .. لتفاجأ من بعد عمها بذاك يدخل .. ويقف ينظر إليها بشموخ كبرياء .. وغل قرأته من أنفاسه وصمته .. سارعت إلى ترتيب غطاء رأسها .. وكأن بها تشعر بالعري في حضرته .. ليتعداها يلحق بعمه والصمت يرافقه .. أمر لم تعهده على فهد ..
وقفت بعيدا ترقب عمها الجالس وجانبه الايسر لها .. وذاك يوليها ظهره على الكنب الطويل : شو تشربون ؟
هكذا خرجت من بين شفتيها .. بإرتجاف طفيف .. وكأن بسؤالها تحاول كسر حاجز التوتر .. لتختلي بنفسها بعيدا في مطبخها الصغير .. ولكن هيهات أن تنال مطلبها في إستقدام الراحة .. يأتيها صوته : مانبي شيء .. يهزي شنطتج .. ثلاث ساعات وبنرد الامارات .
كان يعتصر كفه دون أن تراه .. يرص على أسنانه يخفي غضبه .. ثورة بركانه .. لو بيده لاطلق لاذع الكلم في وجهها .. لدفنها في مكانها .. لسولت له روحه بضربها حد الموت .. ولكن أقسم لجده أن لا يمسها وأن لا يرفع صوته في وجهها .. وأن يأتي بها بالحسنى ..
" بس أنا ما أريد أرد " .. كان صوتها قد اتضح فيه الخوف .. ليقطع هو صوت عمه بصوته الهادر : بتروحين غصبا عنج .. وياللا روحي يهزي شنطتج ..
تنظر لعمها الهاديء .. ترآه يوميء برأسه أن إذهبي ..لتتحرك بهدوء خلاف الضجيج الذي يعبث بكيانها .. كُل ما كان يتبادر إلى ذهنها هو الموت خنقا على يد أحد أعمامها .. أو على يدي ذاك الكاتم غيضه في الخارج .. سحبت حقيبتها برعشة في أكفها .. ترمي بملابسها فيها .. لا تقوى على الترتيب .. فعقلها أضحى يضرب أخماسا في أسداس .. حتى ما أنتهت .. مشت خارجة .. تسمع عمها يحاول أن يذكر ذاك بقسمه لجدها .. تصل إليها كلمات فهد : لو بيدي يا عمي ما رديتها الا جثة ..
" عمي " .. نطقتها وهي تقف بخوف بعيدا .. تستتر بجدار الممر القصير .. ليأتيها صوت محمد الهاديء : خير يا بنتي ؟
بلعت ريقها وهي ترى جانب وجه فهد المتحرك بغيض يختلجه .. أجابت عمها : ابيك شوي ؟
ليقف ذاك ناطقا : يا الله ..
لتتحرك تسبقه إلى غرفتها .. وما أن دخل حتى أغلقت الباب لتقع على يديه مقبلة : عمي ما اريد أموت .. الله يخليك ..
ليحاول سحب يده .. ويرفعها من كتفها بيمينه : استهدي بالله .. ما بيصيبج شيء ..
بكفها تمسح دوعها : عطني الامان يا عمي .. أنا مب قد اعمامي ويدي .. و و .. وفهد .. بيذبحني فهد ..
" أستغفر الله العظيم " .. قالها ليمسك بكتفيها يجلسها على طرف سريرها ويجلس بجوارها .. يسوءه ضعفها وقلة حيلتها .. ليشد على كتفها بحنو : ريا محد بيضرج .. يدج موصينا كلنا ما نقربلج بشيء .. لا تخافين ..
طأطأت رأسها : كلام فهد يخوف .. سكوته يخوف .. كله يخوفني ..
تستدير نصف استدارة .. تشد على كفي عمها .. تنظر إلى عينيه برجاء : تعبت بروحي .. الله يخليك عمي خذني عندك .. لا تخليني عندهم .. لا تخليني عند يدي وفهد .. الله يخليك ..
ألا تعلمين بأني أقطن حيثُ هم .. يجمعنا البيت الكبير .. وأن غضبهم مني قد تلاشى ولم يعد شيئا .. أين انتِ منا .. بل أين نحنُ منكِ .. كيف للارحام أن تقطع حتى أصبحنا لا نعرف بعضنا ..
مسحت بقايا دمعها .. تقرأ في عينيه حديثا مبتورا .. بل أنه مكبل بأصفاد لا يقواها .. عادت تمسك بكفه : عمي .. عندك كلام مب قادر تقوله ..
ومن بعد صمته .. نطقت بخوف : وليد فيه شيء ؟
ليربت على كفها الممسكة بكفه : ما ندري عنه .. ووين أراضيه .. السالفة تخصج .. يوم نوصل لبلاد بتعرفينها ..
لم ينفعها الالحاح المستميت في معرفة الامر .. لترافقهما على خوف إلى مصيرها المجهول .. ترقب ذاك الذي عاد للسكون .. لا ينبس ببنت شفه .. يقبع على أحد كراسي المنتصف في طائرة العودة .. وهي وعمها خلفه في الكراسي الجانبية .. تنظر تارة من النافذة .. وتارة أخرى إليه .. وتعود تنظر لعمها المسترسل في قراءة بعض آيات القرآن من مصحفه الصغير .
تنهدت وروحها تنتحب رهبة .. تزلزل أركانها .. يُخيل إليها وصولها .. وأعمامها يستقبلونها بالنظرات القاتلة .. بالاكف الضاربة .. هل تمشي إلى المنية ؟ أم إلى عذاب الجحيم ؟ .
" الاميرة ديانا تبي حد يفتحلها الباب " .. كان صوته الساخر منها .. من سكونها على كرسيها خلف عمها الذي ترجل قبلهما .. هي لم تدرك الوصول .. ولا كيف مضت ساعات السفر .. وساعات الطريق من المطار الى ساحة المنزل الكبير .. كانت في عالم مخيف تحياه .. يضيق معه تنفسها .. وتتحجر الدموع حتى آلمت عينيها .. فتحت الباب تحت نظراته المزدريئة لها .. تلتصق بعمها هامسة : عمي خذني بيتك ..
- هذا بيتي .. لي قسم هني وحق يدج وولد عمج قسم .. وحق عمج علي قسم ..
- أنزين خذني قسمك .
جاءهما صوته : حياكم ما تبا عزومه يا عمي .. والا الليدي عندها راي ثاني .
رمقته بسخط من تحت غشاء وجهها .. تحمد الله أنه لا يستطيع رؤية نظراتها له .. تحاذي عمها بالمسير حتى ما دخلوا .. نطق بعجرفته المعهودة : مبروك يا بنت العم .. عرسج عقب كم اسبوع ..
هُنا تجهم وجهها .. بل إن شياطين الارض تقافزت امامها .. لتصرخ متسائلة : شو ؟ عرس شو ؟
- أووه .. سوري سوري .. نسيت انه ما عندج خبر ..
- بس يا فهد ..
قالها محمد يخرسه .. ليثور أكثر : ليش بس .. خلها تدري أن في واحد رضا يستر عليها .. يايه ومسويه فيها شريفة مكة .. مب كنّ رياييل العايلة شايفينها مثل أي مومس من شوارع الكفر ..
" بس " .. صرخت به .. مردفة بغضب : ما يصير أعرس .. لاني معرسة ..
قهقه بمليء فمه .. وعمه يحاول أن يسكته دون جدوى : هذي يديدة يا بنت عيسى .. تبين ادارين ع سواتج بالجذب ( الكذب ) .. واذا معرسة ع قولتج وينه عريس الغفلة .. مخلينج دايرة ع حل شعرج فبلاد برع ..
صمت لبرهة واستطرد : لعبي غيرها يا .... بنت عمي .
ببكاء : كله منه .. لعب بعقولكم وصدقتوه .. ما تدرون انه يالس ينتقم مني ..
اسكتها بضحكاته العالية : ينتقم منج ؟
عاود الضحك .. وأكمل بسخرية لاذعة : ليش ان شاء الله .. بغاج وما عطيتيه ..
" جب " .. صرخت بها في وجهه .. ورددتها بهدوء : جب .. جب .. بسكم حرام عليكم ..
" وينها بنت ****** " .. صرخة من غانم وهو يلج الى المنزل .. أوقفتها بخوف .. تختبيء خلف عمها .. تشد ثوبه بكفيها .. مشهد تكرر واختلف فيه الشخص الماثل أمامها يحميها .. تسمع محمد يمنعه منها .. يذكره بكلام جدها .. ومن ثم يصرخ مناديا زوجته .. تلك المرأة الطيبة التي لطالما احبتها من بين زوجات أعمامها .. لتخرج ملبية له من بعيد .. ويأمرها أن تتركه وتذهب مع زوجته ..
تبتعد بمعيتها وتسمع اصواتهم .. وصوت عمها يسكتهم مرارا .. حتى ما ولجت إلى أحدى الغرف : خالتي اللي بيسونه ما ايوز (يجوز) .. خبريهم ان اللي بيسونه حرام ..
لتدنو منها وهي لا تزال تقف عند عتبة الباب وتجيبها : ما اقدر اتدخل .. تدرين أن يدج مانعنا حنا الحريم ندخل بسوالفهم ..
- أريد أشوف يدي .. أنا بكلمه وبفهمه .
- ما يبا يشوفج .. سامحيني .
غادرت مغلقة الباب .. ليأيها صوت إدارة المفتاح ليُقفل عليها .. ستسجن هنا حتى تزف إلى الحرام .. أنسكبت دموعها تجرح خديها .. متسمرة دون حراك .. حقيبتها في الخارج .. وهاتفها أيضا .. تحركت بأنكسار .. تجلس على الارض وتستند بظهرها على السرير الصغير ..
,‘,
,‘,
طرقات خفيفة تتسربل إلى أسماعها وهي متكئة على ظهر سريرها .. تأخذها الافكار بعيدا .. وبيدها هاتفها .. لتتركه جانبا مُجيبة لطارق .. لتطل عليها كنة بإبتسامة تداعب شفتيها .. وتبتسم هي لها : تعالي ..
تحركت لتعتدل في جلستها .. تنظر إلى شقيقتها التي يغزوها ألف أستفهام بسبب انقلاب حالها .. تجلس قبالتها على السرير .. مبعدة تلك ساقيها : من يوم اليمعة .. يعني من عقب ما يلس وياج شبيب بالساعات وانتي متغيرة .. في شيء بينكم .. لا هو حاب يقوله ولا انتي تبين تتكلمين .. حتى هو تغير .. احسه فرحان ومب فرحان ..
كانت تلك تحرك مقلتيها للاعلى مرارا .. وتزم شفتيها تداري ضحكة تداعبها .. لتستطرد كنة : ما بتخبريني ؟
" أممممم " .. مدتها قليلا .. ومن ثم بسرعة خاطفة وبشيء من الخجل : أنخطبت .
أندهاش أرتسم على ملامح وجه الاخرى : شو .. لحظة لحظة .. خليني استوعب .. كيف يعني أنخطبتي .. ومنو المعرس .. وغريبة انج فرحانه .. وين اللي تشل البيت شلل يوم تسمع طاري العرس والخطاطيب ..
- شو بلاج كليتيني .. خلاص ما بخبرج شيء دامج بتطنزين .
تضرب بأناملها على فيها .. وبعدها تنزل كفها : بسكت .. ياللا خبريني .. شو استوى بينج وبين شبيب ومنو المعرس .
دست ساقيها أسفلها : ما بخبرج كل شيء .. لان في شيء يخص شبيب وقالي ما اخبر .. اما منو المعرس ..
بتردد صمتت .. وتلك بنظراتها تستحثها لتقول .. لتكسر الخجل : بطي ولد عمي .
- بطي ما غيره .. أخو أخونا يبور .. لا ما اصدق .. كيف ؟
بجدية يشوبها شيء من قلق : لا تخبرين امي كنون .. قلت لشبيب اريد وقت افكر اكثر .. خبرني انه مب مستعيل ومستعد يترياني الين احس عمري مستعدة للعرس .. للحين ما قلت رايي .. والحلو حتى لو رفضت ما بيصير شيء .. هو اكد ع شبيب ان كل شيء بايدي .. وبنبقى عيال عم لو شو اللي بيصير ..
ربتت على يدها : فكري زين شيوم .. انتي تعرفين منو بطي .. وتعرفين الكلام اللي كان ينقال يوم كان مسافر ..
ابتسمت بفتور : أنتي يا كنون تقولين هالكلام .. وانا منو ؟ انسانه كانت مريضة بمخاوف ما تدري من وين يتها .. مطلقة قبل لا تنزف ..
بشيء من السخط : لا تقولين هالرمسة عن عمرج .. لا تقللين من نفسج لو شو ما صار وياج .. خلج دوم رافعة راسج وواثقة من عمرج .. اللي صار ما كان بايدج .. وانتي الحين تغيرتي .. خذي كل وقتج فالتفكير ..
وقفت : بروح ارقد تعبت اليوم فتنظيف البيت وانتي ولا حتى فكرتي تساعديني .
امسكت بيدها : رقدي وياي .. الحجرة بدون كلثوم مب حلوة .. شكلها اليلسة فبيت يدودها طابتلها هالمرة ..
- لا حبيبتي خليني اروح حجرتي .. ما اعرف ارقد وياج
- تعالي بس .
قالتها وهي تسحب كنة لتقع بجوارها .. وتضحك معها .. تتخذ من جانب السرير مكانا .. ترفع الغطاء لشقيقتها : ياللا اندسي ..
لتقهقه كنة : اوكي .. ويا ويلج اذا تحركتي والا سحبتي الحاف عني .. بتييج عضة بتخلي صوتج يوصل لاخر بيت فالشعبية .
- الله يستر .. ياللا ما عليه انا اللي يبته لعمري .
ولتها ظهرها تدس احدى الوسائد اسفل رأسها : ياللا قومي سكري الليت وخليني ارقد بتوصل الساعة وحدة .
" طرار ويتشرط " .. لتترجل مستطردة وهي تسير نحو قابس النور : صدق المثل اللي قال .. يا من شراره من حلاله عله ..
لتأتيها الوسادة في وجهها ردا على كلامها : تراني اخليج ؟
تهددها والنعاس بدأ يداعب أجفانها .. لتكتم شامة ضحكتها .. وتخطو نحو سريرها تندس مع شقيقتها تحت الغطاء .. تشعر بها وهي ترتحل عن الواقع الى عالم النوم .. وظلت هي ساعة أخرى تهيم بها الافكار حتى أوصلتها إلى عالم شقيقتها .
,‘,
المواجهة حتى وإن كانت قاسية أحيانا إلا إنها تجر من خلفها راحة تتغلغل في الانفس طاردة التذبذب منها .. قرارات قد توصلنا إلى أبواب مقفلة فنفتحها .. وهو قرر أن يضع النقاط على حروف الاجوبة على التساؤلات العقيمة .. ليدحض نظرات الشك به .. يبدأ بصفاء حياة من جديد .. سيصنع ميلاده بنفسه ..
يحفهما الصمت وهما يتناولان الغداء معا في مجلس الرجال .. بطي يخوض في معمعة أفكاره .. يدرك أن ذاك الجالس قبالته يأكل في سكون تراوده العديد من الافكار بشأنه هو .. نفض يده من حبات الارز .. ليأتيه صوت جابر دون أن يرفع رأسه له : رد عليك شبيب ؟
هل ما حدث منه ابعد جابر عن أخيه وصاحبه .. حتى صار لا يعلم من أمره شيء .. هذا ما دار في خلده قبل أن يجيب بـ : لا .. للحين ما رد علي ..
يقف حامدا ربه .. يخطو بضع خطوات ويقف ناظرا لشقيقه : جابر يوم تخلص غدا تعال اريدك فسالفة .
هناك في الصالة الملاصقة لغرفته كان يمشي ذهابا وأيابا .. لا يعرف من أين يبدأ الحديث ليذيب الجليد المترسب بينه وبين شقيقه بسبب أقدامه على خطبة شامة بتلك الطريقة المفاجئة .. وجليد آخر رسبته سنون الاغتراب .. توقف ناظرا لمقتحم المكان دون حديث .. ليجلس مستندا على النمرقة .. يحدق في بطي الواقف : شو بغيت ؟
- أنت من شو خايف ؟
- الحين طالبني عشان تسألني هالسؤال ؟
تنهد و لا يزال على وقفته .. وذاك ينظر إليه : خايف ع اللي بينك وبين شبيب يروح .. والا خايف ع شامة مني .. والا يمكن خايف علي .. مع اني استبعد الاخيرة ..
اردف بسؤالا اخر : أنت وشبيب مب مثل قبل صح ؟
بهدوء ممتزجا ببعض سخرية : عاادي .. لان اللي انت سويته عادي .. ما خلاني اتينب شبيب .. ولا خلاني مب قادر أكلمه مثل قبل .. والا اجتمع وياه فبيته مثل ما كنا ..
ابتسم مبعدا وجهه ونظره عن جابر .. ليعود ينظر إليه : جابر .. ترى بطي اللي قدامك الحين مب بطي اللي لقيته يدوخ زقاير وهو ولد اربعطعش .. و لا بطي اللي ياما اشتكوا منه اليران لانه يفشش تواير سياراتهم .. مب بطي اللي توه فالاعدادية .. اللي قدامك الحين واحد جرب الحياة .. عاش الغربة ومر الغربة ..
زفر أنفاسه بعد صمت دقيقة : تبي تعرف شو صار وياي .. اللي صار هو اللي انت خايف منه .
قطب حاجبيه .. يرمق بطي بنظرة قسوة .. وظل صامتا .. يستمع لبطي يسرد تفاصيل عذاب مر به .. تفاصيل كفاح عاشها مع يد كانت كُل شيء واضحت لا شيء .. غدر اصدقاء .. وتعاون اعداء .. وخوف لم يتوقعه يوما .. خوف منه هو .. من شقيقه الاكبر ..
تنهد : هذي قصتي اللي تبون تعرفونها .. والا الاحسن أقول اللي كتبتوها ع كيفكم .. وصدقتوها .. وصدقتوا كلام الناس عني .. مب مهم شو تشوفوني .. المهم أني عارف نفسي .. واذا ما مصدقني اسأل ربيّع .. هو اللي بقالي من شلة الربع .. غريبة الدنيا صح .. تظن ان كلهم ربعك ويوم الشدة ما تلقى الا من رحم ربي .
صمت يرى السكون على تعابير وجه جابر .. هدوء يعم المكان .. ومن ثم تحرك واقفا دون أن ينبس بحرف .. يبتعد تحت أنظار الاخر .. صدمه ذاك الحديث .. لأول مرة يشعر بأن احساسه قد خانه .. وفي من ؟ .. في أقرب الناس له .. ولج إلى غرفته في وقت خروج ليلى من دورة المياه ( اكرمكم الله ) .. تراه واجما .. تقترب منه حين جلس على " الاريكة " الصوفية تتقدمها بطنها البارزة : اكيد بطي قالك شيء .. مب معقوله تنقلب بهالشكل .. قبل الغدا ما كان فيك شيء .
لم يأتيها أي رد .. لتجلس بجانبه بجزع تلبسها .. تعانق كفها كتفه : جبور حبيبي شو بلاك ؟ مستوي شيء .. اهلي فيهم شيء ؟
هز رأسه .. وصمت .. ليأتيه صوتها من جديد : عيل شو بلاك؟ أنت من زمان وانت متغير .. صاير ما تطلع من البيت الا للشغل .. حتى بيت عمي ما صرت تروحله .. متزاعل وييا شبيب ؟
نظر إليها ناطقا : مب صاير شيء .. وبسج أسئله .. حشا بالعه رادو ..
عانقت وسطها بكفيها واقفة .. لا يعلم لماذا انتابته رغبة بالضحك على شكل جسدها : انا بالعة رادو يا جابر ؟
لتلمح كتمانه لضحكته : اضحك اضحك .. الحق علي احاتيك ..
حشرجة بكاء اتضحت في نبرتها .. ليقف يحتضن رأسها مقبلا لجبينها : كله ولا زعل ام خلود ..
أشاحت بوجهها : عيل شو فيك ؟
طوح برأسه .. لترمقه بطرف عينيها وهو يقول : حريم .. لازم يعرفن الديايه منو يابها والبيضة منو باضها ..
ليتركها ويغادر المكان .. يعود أدراجه حيث كان آنفا .. ينادي شقيقه ولا من مجيب .. ليزفر أنفاسه .. لاول مرة لا يعلم ما عليه فعله .. ولاول مرة يشعر بانه ظالم وقاسي .
,‘,
يتناثر الفرح في مكان آخر .. تزفه ضحات صغيرة .. وهرولات سريعة .. تترجل من سيارة جدها تُسرع إلى الداخل يتبعها مبارك ومن خلفهم مطر وحمد .. تدخل على حفصة في الصالة .. بلهفة تنطق وهي تقع جالسة على ركبتيها أمام جدتها التي كانت تشاهد التلفاز : شربت حليب من العنز ..
كانت جدتها تستمع لها بأنصات .. لترفع كفيها معبرة عن كبر ما تتحدث عنه : ركبت الناقة .. كبييييييييييره .. بس ابويه العود ما خلاها تمشي .. ونزلني بسرعه ..
تأتيها اصواتهم متفرقة بالسلام .. لترده .. وبغضب : حمد شقايل تركبها ع الناقة .. واذا تعورت ؟
ضحك مطر : مثل القردة ما صارلها شيء .. لا وبعد تقوله خلها تمشي ..
لتجيبه ناهرة له : قول ما شاء الله .. وبعدين خليتها تروح وياكم بروحها عبالي بديرون بالكم عليها ..
تنظر إليها : وليش كلها رمل .. ناسين ان صدرها يضيق عليها .
تحوقل حمد .. لتنطق الصغيرة بنفس السعادة التي دخلت بها : امايه ما صار شيء .. وابويه العود قال بيخليني اركب الناقة مرة ثانية و بيخليها تمشي – تلتفت له حيث جلس – صح ؟
انسحب مطر ومبارك من المكان وتبعتهم كلثم .. تقترب حفصة من حمد : من صدقك بتركبها الناقة مرة ثانية .. حمد خاف الله فيها .. إن سويتها شبر ما بخليها تزر ( تذهب ) وياك .
ليضحك : شو بلاج معصبة ؟ .. شوفيها كيف مستانسة .. ولو شفتيها شو سوت بالدياي .. ما خلت ديايه فحالها .. كل ما تشوفهن ركضت وراهن ..
ليعود يضحك وتضرب هي كفيها ببعضهما واقفة : بروح اسبحها ابركلي .
وفجأة تعود أدراجها تجلس حيثُ كانت : حمد قول حق شبيب يخليها عندنا .. يومين ما يسدني منها .. والله تارسه علي البيت ..
تنهد : قولي الحمد لله انها بدت تتعود علينا .. وشوي شوي بناخذها عندنا وبتربينها وبتكبرينها وبتزوجينها بعد ..
هناك بعد أن غسلت عنها أتربة " العزبة " .. جلست تمشط شعرها : استانستي فالعزبة .
- واااايد .. شبشب ما عنده مثلكم .. عنده مزرعه كبييييره بس ما فيها ناقة ولا فيها عنز ..
لتسألها : تبين تعيشين ويانا .
" لا " .. قالتها بسرعة لينقبض قلب حفصة معها .. وتردف تلك الصغيرة الجالسة أمام جدتها وهي تصنع لها جديلة : بعدين شبشب يزعل .. هناك أمي ومريوم أيون .. والعب وييا مريوم .. أمي قالتلي ايلس عند شبشب عشان هي اتيني دوم .. وبعد احب العب وييا هاشل بالسيارات مبارك ما يعرف يلعب زين .
ضيق تملك من صدرها وهي تستمع لثرثرة كلثم .. لتحاول أقناعها بالبقاء معهم : أنزين شرايج تيلسين ويانا .. ويوم اتي أمج عند شبيب يوديج مطر وتيلسين عندهم ..
" لا " .. من جديد قالتها وهي تحرك رأسها .. وتبتعد عن جدتها لتنسل الجديلة من بين كفي حفصة .. تنظر إلى جدتها : هني محد يدرسني .. هناك شامة وخالوه كنه .. وانا احبهم ما اريد ابقى عندكم .
ترقب وجهها .. تفاصيله الصغيرة .. وتتذكره هو .. عينيه وانقطاب جبينه عند الغضب .. حتى شعرها الذي لم تكمل جديلته .. لتبتسم : خلاص .. تعالي اكمل شعرج .
لتبتسم الصغيرة وتعود لتجلس امام جدتها .. تقص عليها مغامرة اليوم مع الدجاج والماعز والجِمال ..وتخرج من تلك المغامرة بالحديث عن شبيب وعن مدى حبها له وحبه لها .. تثرثر كثيرا وتلك تستمع بصمت .. تغالبها الدموع فتمسحها .. كم تشتاق لذاك الذي واراه التراب ..
,‘,
صاحبه يجلس خلف مكتبه .. يتذكر حديثه مع شامة .. وصفها لريا .. لتعاملها وخصالها .. ذاك الحديث الذي فجر حرب بين ما قيل له وما قالته له شقيقته .. ليبقى معلقا لا يطال السعادة ولا يطال الحزن .. أيصدق كلمات المديح أم يصدق بعثرات الذم .. تنهد وصوت طرق الباب يخرجه من معمعة أفكاره .. يدخل شرطي برتبة نقيب ضاربا له التحية ..
ليسأله بأستفسار : شو صار وياك ؟
- الصالون اللي باسم عيد واسم حرمته انباع بالوكالة ..
- شو .. منو الريال اللي تكفل بالبيع ؟
- والله يا سيدي ما اعرف .. باكر ان شاء الله بيبلك اسمه بالكامل .. ولو تبيه هني بعد حاضرين .
يبحث عن ذاك المختفي .. فبيده دلائل تدين عوض وقد تدينه هو ايضا .. لا يزال يبحث عن كل من له صلة بموت خالد .. لن يهدأ حتى يراهم خلف القضبان .. اسقط رأسه على الكرسي .. يرفع معصمه ناظرا إلى ساعته لا تزال هناك نصف ساعة لينتهي من عمله هذا المساء .. سيعود إلى منزله وقد قرر أن يكون عشاءه عند ذاك الـ جابر .. الذي بدأ يضع الحواجز بينهما .. لسبب لم يعره هو ذاك الاهتمام .. فسيبقى جابر الاخ والصاحب .
لم يكن يعلم أن خططه سيقابلها أمرا يمنعها .. فهناك في منزله يجلس فارس بمعية منذر .. يتحدثان قليلا .. ويصمتان كثيرا .. لتتجمد أوصال منذر في لحظة .. حين باغته فارس قائلا : منذر اريد اشوف كنة ..
وكأن البلاهة قد حلت عليه .. ينظر إلى فارس بوجوم .. ويسأله : شو قلت ؟
ليبتسم : اقولك اريد اشوف كنه .. اريدها فسالفة .. ومحتاي رايها ..
ليردف بعد أن استشعر صعوبة طلبه : خبرها .. والله محتاي اسولف وياها فموضوع .. اريد شورها .. هي تعرفني زين وبتساعدني .
تنهد منذر .. ووقف بعدها : بشوفها .. بس ما بجبرها ..
وافقه على ما قال .. وتتبعه ببصره حتى خرج .. لا يعلم كيف يخبرها بالامر .. يناديها حين ولج الى المنزل .. لتأتيه مسرعة : لبيه ..
ليتلفت وتتلفت معه : شو فيك ؟ لا تخوفني .. قول محد هني .
" فارس يبا يشوفج " .. جمود أجتاحها إلا من ارتفاع صدرها وحركة اجفانها .. لتنطق : شو ؟
تنهد : فارس فالميلس يباج فسالفة .. يقول انه محتاينج .. اذا ما تقدرين بقوله ما تبا تشوفك ..
لا جواب من قبلها .. ليزم شفتيه ناطقا : اوكي ..
ويدبر .. ويستوقفه صوتها عن المضي : بشوفه .
بعد دقائق تسمرت قريبا من باب المجلس .. تشعر بالدماء تغلي في عروقها حتى أشعلت حرارة جسدها .. وألم أجتاح صدرها حتى أمست انفاسها كسكين غير مسنونه تقطع ريئتيها .. كان ذاك يرقبها من بعيد .. يرى الدقائق تمضي وهي في مكانها .. ليست مستعدة لهذا الامر هو يعلم ذلك .. ولكن لابد منه ..
أخيرا تحركت ليبتسم هو على مضض .. تلج ملقية السلام بخفوت .. ترتب " شيلتها " بارتعاشة اناملها .. ويقف هو يتأملها .. ليسرع بالسؤال عن حالها .. وتجيبه تغتصب ابتسامة على الشفاة : بخير ..
وتردف وهي لا تزال على وقفتها : اخبار عمتي ونورا وهند ..
" بخير " .. ومن ثم : حياج كنه .. اريدج فسالفة ..
لا تجزعي .. فأني أسمع دقات قلبك .. وأشعر باختناق انفاسك .. لا تجزعي فلستُ هنا الا كأخ لكِ .. أعلم بصعوبة طلبي .. أعلم بأنكِ لا تزالين تحت وطأة الآه .. ولكن علينا أن نقفز سياج الماضي .. نمضي دون النظر إليه .. ندونه في الذاكرة على ورقة سوداء بحبر اسود ..
جلست بعيدا عنه .. ليجلس هو .. يسود الهدوء بينهما هُنيهة .. ليبعثره : السالفة أني أنخطبت ..
حملقت في وجهه .. تعتريها ضحكة مما قال : شو ؟
لتضحك ضحكة صغيرة وتردف : شو يعني انخطبت ؟
كان يبتسم لضحكتها القصيرة .. يعرف كيف يخرجها من توترها .. فهي عشرة سنوات .. تبسم : واحد خطبني لبنته .. وامي مقومه الدنيا علي .. صارلي ايام احاول اقنعها ما في فايده .. ما قدرت ..
تستمع له .. تراقب تفاصيل وجهه .. يسكنه الفرح .. وشيء من أمل .. يخبرها عن لقاءه مع الشيخ .. وعن الامانة .. وعن ردة فعل والدته .. ومن ثم يسألها : شو أسوي ؟ دعيت ربي واستخرت مب مرة ولا ثلاث ولا عشر .. من عقب ما عرفت عنها .. وحاس ان ربي مقدر لي هالبنت .. خبريني شو اسوي ؟
ابتسمت : تعرف كم عمرها ؟ البنت صغيرة .. بينك وبينها يمكن عشر سنين .. ومحتاية رعاية .. والا ما كان ابوها خطبك لها ..
لتضحك من جديد .. تردع ضحكتها باناملها : اسفه .. بس سالفة الخطبة تضحك ..
- ولا يهمج .. انتي شو رايج فيها ..
- عايشة بنت طيبة .. قلبها ابيض . لو تيلس وياها بتحب رمستها .. ينخاف عليها فبيتكم .. السموحه بس ..
تنهد : ادري .. امي صعبة شوي .. بس اريد حل .
ابتسمت له : قول لامك انك بتشترط ع اهلها انك متى ما تبا تعرس عليها بتعرس ولا لهم حق يعترضون .
اخترقها بنظراته .. يحاول ان يدرك معنى ما قالت .. لتردف : اذا بتاخذها شفقه الاحسن تنسى الموضوع .
- من متى فارس يعرس بهالشكل .. انتي تقولين هالشي عني؟ ..
تلمست الغضب في نبرته .. لتدحره بابتسامة رقيقة : لاني اعرفك عطيتك هالحل .. وادري انك مستحيل تكسرها وهي أمانة فرقبتك .. عيل كيف وهي بهالحال .. خبر امك بهالشرط وصدقني بتوافق ..
لتقف : الله يوفقك .. عواش تستاهل واحد مثلك .. وانت تستاهل وحدة بطيبة قلبها ..
ابتعدت متعذرة بان لديها أعمال تقوم بها .. هناك شيء في داخلها بدأ يؤلمها .. لم تستطع المكابرة فهربت .. لتلتقي بشبيب عند عتبة باب المنزل .. تقف ويقف ينظر إليها .. الى دمعة تمردت على خدها : شو بلاج فديتج ؟
كان لا يزال بلباسه العسكري .. عانق كفيه كتفيها .. لتنطق : فارس فالميلس .. بيعرس .
هزت رأسها : مب زعلانه .. فرحانه .. الحمد لله تعدى اللي صار ..
يمسح دموعها بأنامله : لا تصيحين .. وخليني اروح ابدل وايلس وياه ..
دقائق مرت ليصدح صوته بالسلام في المجلس .. ويتبعها بكلمات التهنئة .. ويضحك فارس : الله يبارك فحياتك .. بعده ما صار شيء ..
يصافحه ويجلس بجانبه : قول أن شاء الله ..
ما إن أتمها إذا بـ منذر ومعه سالم يقتحمان المكان .. يتبادلوا السلام والسؤال عن الاحوال .. لف الاستغراب الثلاثة من مجيئه .. فليس بالعادة أن يزورهم .. ينزل الفنجان بعد ان هزه مكتفيا .. ويضع شبيب " الدلة" من يده : حيالله بو غنيم .. زين شفناك عندنا ..
- تحيا وادوم يا ابو ناصر .. والله ما ييت اليوم الا وانا عندي طلب .
نظر فارس لشبيب ومن ثم نظر لسالم .. وبعدها لمنذر .. ليأتيهم طلب سالم : طالب القرب منكم فاختك كنة .
تسربل السكون في المكان .. والانظار تتبعثر لتحط على الوجوه تباعا .. فهو رجل متزوج وله ابناء .. وكنة لا تزال في معركة المُضي قُدما .. ليبتسم فارس .. يحسم الامر قائلا : السموحة .. بس طلبك مب عندنا .
,‘,
نلتقي باذن الله مع الزفرة 39
تحياتي |~