قبل ساعات طوال وفي مكان امتزج بالحزن والذكريات .. وبألم قابع خلف الاضلاع .. مستتر تأجج فجأة معلنا الظهور وكأن به مل الركود .. وقفت في ذاك الممر القصير بعد أن رماها خارج أسوار غرفته .. كخطيئة ما يرغب في نفضها دون ان يدرك انها التصقت به .. ظلت على وقفتها تلك دقائق لا شيء يتحرك منها الا ارتجاف خفيف لرأسها وشفتيها الغارقتان بماء عينيها .. لتعتصر بعد حين جانبي فستانها بكفيها المتراقص عليهما الحناء ..
تحركت بهدوء مبتعدة وحذاءها يعلن للاخر الرحيل من المكان .. لتجلس على اول كنبة تصادفها .. كصنم هي في هذه اللحظة .. دموعها السوداء تنزل لتشوه البياض ببقع رمادية باهتة .. كليلتها التي تمنتها شيء ووجدتها شيء آخر .. لم يعد عقلها يستوعبه .. هل هو سلطان ؟ .. ذو كلمات الحب ؟ .. والابتسامة الرائعة منذُ ساعات ؟ ..
هل هو أبن عمها .. الذي ظنت بأنه سيكون عون لها على زمن لم يبقى لها فيه سند ؟ .. مرت الكثير من الامور في رأسها .. تبحث عن سبب ما .. أله حقوق أخرى سيطالب بأن تدفعها له ؟ .. أم هو حق واحد فقط ؟ أخذه وسيرميها بعد ليلة واحدة معه .. هل سيرضى الهوان لابنة عمه ؟
هُناك خلف الباب بعد ان رماها خارجا .. تسمر امام الخشبي مطأطئ الرأس .. تثور انفاسه كمدا .. ربما حقدا .. وربما غضبا من خسارة ما .. ما لبث حتى استدار يسند ظهره به .. ويجلس بعدها يمد ساق ويثني الاخرى .. يشدها بذراعيه الى صدره .. وتمر في رأسه ذكريات ماضية ..
براءة طفلة .. صغيرة بيضاء الوجه عميقة العينين .. وشعرها الحريري القصير لطالما أثار في نفسه وهو ابن الرابعة عشر الشيء الكثير .. بياضها لم يكن له شبيه في عائلتهم الا شقيقها سلطان .. المسمى كأسمه .. فلقد اتخذا من اسم جدهما اسما لهما .. يذكرها حين تبكي بعد صراخه عليها .. فقط لانها لعبت مع الاولاد .. مع ابناء عمومتها وتاركة البنات متعذرة بانها تُحب لعب الكرة وهن لا ..
كثيرا ما كان يعنفها .. هل كانت غيرة من نظرات اترابه لها .. حتى حضته لان يوغر في صدر شقيقها الكثير من الامور ليكون له داعما في ردعها عن طيشها الطفولي .. كانت كملاك طاهر لا يتمنى لاحد ان يلمسه او ان ينظر اليه .. وتركه ذاك الملاك مرتحلا بعد ان رحل الجميع وبقيت وحدها .. ففضلت خالتها عليه .. عليه هو .. هذا ما كان يشعر به حين فقدانها .. هجرته ملاكه الصغير .. فهجر المرح من بعدها.. طامسا جُل وقته في دراسته ليغادر البلاد لعله يعود ويعود ما كان ..
سمع تحركها من صوت حذاءها العالي ..فتحرك يلصق اذنه على الباب .. لا شيء يصل اليه .. سحب انفاسه وزفرهن .. وقام ليرمي بجسده على السرير ويغط في نوم يتمنى ان يصحو منه وما كان لم يكن .
هي لم تتحرك بعدها .. جامدة تحاول ان تجد حلول لتلك المسألة الصعبة التي واجهتها .. تسمع صوت اذان الفجر يصل خفيفا وجدا .. الهدوء الذي هي فيه يحمل لها حتى صوت نبضات قلبها الثائر .. وعيونها هدأت متسمرة على نقطة امامها بعد ان سحت الكثير من ماءها .. وجهها المشوه كوجه ميت شاحب ..
أخيرا تحرك رأسها تنظر في المكان .. لم تشعر انه مضاء الا الآن .. سحبت نفس عميقا وزفرته .. إن كان هو غامضا بالنسبة لها فهي ستكون غامضة بالنسبة له .. هذا ما كان يجول في خاطرها ..
انحنت تنزع حذاءها الذي اتعب قدميها .. وقامت بعدها واقفة تبحث عن دورة مياه ( اكرمكم الله ) ستصلي الفجر ببياض فستانها الذي دنسه بفعله .. ستطلب من الله العون .. وبعدها ستتوشح بالهدوء ..
وقفت لتفتح الباب في آخر الممر لربما هو ما تنشده .. فالباب الاخر المقابل لباب غرفته هو لغرفة اخرى صغيرة .. فتحت الباب لتجد مطلبها .. تشعر بالتعب من الثقل الذي ترتديه .. وما إن خرجت حتى بحثت عن شيء تستر به عري رأسها وذراعيها .. لم تجد في تلك الغرفة الا بعض " شراشف" سرير بيضاء وأخرى ملونة .. سحبت احدها وتدثرت به .. وتوجهت لربها مصلية .
الساعة تشير الى العاشرة صباحا .. ترك الهاتف من يده بعد ان سحبه ليتفقد الوقت .. وفجأة نفض لحافه جالسا .. تذكر ان بالامس كان زواجه .. تشدق ساخرا .. وقام وهو يحك فروة رأسه بأنامله بقسوة .. لتعترضه حقائبها الكثيرة .. يبعد أحدها بقدمه متابعا سيره نحو دولاب ملابسه ..
كيف أنتِ الآن يا مها ؟ هل تبكين ؟ أنهرتي ساقطة من قسوتي .. ليتك تعلمين أن قسوتي لم تكن شيء أمام قسوتك .. أتزالين هُنا .. أم سولت لك نفسك الخروج نصف عارية وفي منتصف الليل ؟ ..
تشدق مجددا ساخرا وهو ينهي الاستحمام لافا على عورته بمنشفة بيضاء .. تعج في عقله الافكار بشأنها .. وكيف عساها تكون .. ليخرج بعد أن ارتدى ملابسه متوجسا .. لربما فعلت شيء ما بنفسها .. او لعلها منهارة على الارض ..
جال بنظره في الصالة .. لم يلحظ العيون الناظرة له .. والابتسامة المرتسمة على شفتيها .. ليأتيه صوتها من المطبخ المفتوح على تلك الصالة : لا تخاف ما مت .
جالسة وامامها على الطاولة كوب قهوة .. كيف لم يشتم تلك الرائحة حين ولوجه للصالة ؟ .. مشى بخطوات واثقة نحوها .. ليقف مستندا بكفيه على الطاولة : ما شاء الله لهالدرجة عايبنج فستانج ..
تبسمت : هيه .. من فرحتي فيه ما هان علي اعقه ..
قطب حاجبيه .. وبانفعال : تطنزين حضرتج ..
لتقف محدثة صوت بالكرسي .. ناطقة بحدة : مادري عنك ..
وخطت مارة من جانبه لتتلقف ذراعها كفه الغليظة .. يوقفها عن السير .. ناطقا من بين اسنانه في اذنها : لا تعانديني يا مهوي .. وخبري اهلج انّا ما سافرنا لاني ما لقيت حجز ..
نفضت ذراعها .. ناظرة اليه بتحدي غريب هي نفسها لا تعلم من اين اتى : ما بكذب يا سلطان .. واذا انت تبي تكذب اكذب .. ترا الكذب والنفاق مب غريب عنك ..
رفع كفه وقبضها ليطرحها بجانبه .. لتبلع هي ريقها بخوف .. ليرفعها من جديد يشد على ذقنها حتى تأوهت .. يقرب وجهه من وجهها .. ويلفحها بانفاسه : لا تعاندين .. ترى ديونج وايد .. وما اريد ادفعج اياها مرة وحدة .
بهدوء ظاهري خلاف ما يجتاح صميم ذاتها غادرت المكان .. لتسمع غضبه في احدى الكراسي .. وتبتسم لعلها ابتسامة نصر لم تتوقعه ..
أُقسم أني سأخرج ما في صدرك رويدا رويدا .. او دفعة واحدة .. لن اكون الضعيفة التي تُداس وتصمت .. ولكنني سأصمت بإرادتي .. وسأنتظر إلى أين سيقودُني عقلك المريض يا أبن عمي .
,‘,
هاتفها يقبع امامها على الطاولة قصيرة الارجل .. وهي قد سحبت ساقيها اسفلها وتدثرت بشال صوفي غطى نصف جسدها .. تراه يعلن عن رسالة واتصال .. ولكنها فقط تبتسم .. وتتابع التلفاز .. برنامج ديني يستهويها الانصات له .. لذاك الداعية البشوش .. تُعيد معه السيرة النبوية وقصص تحاول جاهدة ان لا تنسى اصحابها .. وكم هو جميل ذاك الزمان .. برغم الالم .. وبرغم الاضطهاد .. الا ان فيه قلوب لا يسكنها الا الله ونبيه .. وكفى بذلك قوة لا تعادلها قوة ..
خطوات تلك الاجنبية قصيرة الشعر .. ممشوقة القوام تقترب منها .. وقد توشحتها ابتسامة .. وفي كفيها قدحا قهوة .. لتمد ما في يمينها لريا .. وتتخذ لها مقعدا في جوف الكرسي الصوفي المنفرد ..تشد عليه ساقيها .. وتحتضن ما في يدها وجدا .. برودة المكان تحاول ان تعدمها بحرارة كأس لا يتجاوز من سعته الا كفيها ونيف ..
ترتشف وعينيها تقعان على الاخرى المرتشفة قهوتها بهدوء .. يثيرها صوت الهاتف فتحاول ان تبصره بمد جذعها .. ذاك الرقم تقسم انها ستحفظه عما قريب لكثرة تكراره على تلك الشاشة .. نطقت بخفوت : لما لا تُجيبي ؟ الا يساورك الفضول لمعرفة ما يريد ؟.
التفتت قليلا لها .. ثم انتشلت هاتفها . تمر على تلك الرسائل تحذفها دون ان تفتحها .. ومن ثم ترميه جانبها : اعلم ما كتب .. واعلم بان حديثه لن يجلب لي سوى الغضب والدموع .. فلما ادع ذلك يحدث ؟ فقط لارضي فضولي ؟
عادت ابصارها على شاشة التلفاز .. وتلك بقيت ترتشف في صمت .. لا تعي الحديث العربي جيدا .. عادت تخاطبها بهدوء سائلة : الا تشتاقي للعودة ؟
هزت رأسها متبسمة .. ودون ان تغير انظارها : ليس لي احد هُناك .. أجل اشتاق .. ولكن – التفت لها مستطردة – يعتريني الخوف من التفكير بما سيحدث .. فما بالك ان نفذت الامر ..
يعود الصمت لدقائق .. لتتحول دفة الاسئلة لِـ ريّا : وانتِ ؟ لما لا تعودي ؟ أشعر بالذنب حين افكر ان بقاءكِ بعيدة عن اهلك بسببي أنا ؟
انطلقت منها ضحكة ساخرة .. وبنبرة يشوبها شيء من وجع : لمن أعود ؟ لأمي ال***** .. التي لا تستغني عن الرجال .. أم لابي الذي لا اعلم من يكون ..
اسقطت ساقيها لتلامس قدميها ارضية المكان لتدسهما سريعا في حذاءها المنزلي الدافيء : هكذا مرتاحة ..
صمت ونظرات حدقت في الشاشة .. ومن ثم حديث مرتجف : أجل مرتاحة .. أنا حقا مرتاحة .
سحبت جهاز التحكم لتطفيء التلفاز فنهرتها تلك : دعيه .. لا اريد ان اكون احد مرضاكِ واحكي .. لا اريد ان اكون في خانة المرضى الذين توليهم جُل اهتمامك كتلك ..
كانت تقصد شامة .. ثم اردفت : لستُ بخير .. هناك شيء ما في داخلي لا اعرف ما هو ..
رفعت نظرها أخيرا لريا الصامتة والناظرة اليها بدورها : أخبريني أمرا .. تلك القصة في ذاك البرنامج المترجم بالانجليزية الذي تتابعينه كُل خميس ..
باستفهام وهي ترى تلك تحاول ان تغالب بعض من دمعها : أية قصة يا نيرما ؟
تحملق في قهوتها وتجيب : المرأة التي ارتكبت الخطيئة .. وذهبت الى الرسول تخبره بما فعلت .. ثم اعادها لانها حامل ..
رفعت نظرها من جديد : لماذا كانت تعود ؟ .. لماذا لم تصمت وتنجب طفلها وتربيه ؟ .. لماذا ارادت الموت بتلك الطريقة الوحشية ؟
سحبت ريا انفاسها وزفرتهن : لانها لا ترغب بان تقابل ربها وهي نجسة .. أرادت ان تُطهر من ذنبها وان تقف بين يدي خالقها وهي نظيفة .. كان جُل تفكيرها هو ارضاء ربها والتوبة له .. حتى وان كان الثمن حياتها .
" ولماذا الآن المرأة تفعل الخطأ ولا تُعاقب ؟ " .. سؤال طرحته ليبقى السكوت مسيطرا لدقائق .. وتقطعه هي متسائلة من جديد : لماذا نولد دون أب ؟ .. لماذا لا يوجد عقاب كالعقاب في الاسلام .. ؟ .. لماذا لا يوجد خوف من الموت ؟ وما بعد الموت ؟
" نيرما " .. نطقت باسمها وهي تغلق التلفاز : ماذا بكِ ؟ .. لما هذه الاسئلة فجأة ؟
- إنها في عقلي منذ مدة طويلة .. منذ ان رأيتك تفعلين اشياء كثيرة .. اهتمامك بوالدك .. صلاتك .. معاملتك لي ولغيري .. ابتسامتك الدائمة .. وامور أخرى كثيرة ..
باهتمام طرحت سؤال آخر : كيف الحياة بعد الموت ؟
ابتسمت وهي تنزل ساقيها .. وتنحني تضع ما في يدها على الطاولة : بعد الموت إما جنة ونعيم .. او نار وجحيم .. بعد الموت وحشة قبر قد يكون روضة وراحة وقد يكون ضيقا وعذاب .. وكُل ذلك مرهون بيد الانسان .. مسلم او كافر .
قامت تلك واقفة : لقد بردت قهوتي .. هل ترغبين بكوب آخر ..
هزت رأسها نافية .. تنظر الى نيرما مدبرة .. يبدو انها تضايقت من الحديث .. ولكنها هي من ارادت المعرفة .. وقفت هي الاخرى .. عليها أن تحادث شامة .. عليها أن تحكي لها الكثير .. هي بحاجة ان تضع لحياتها مسار آخر ..