,‘،
شاردة بذهنها .. واناملها تداعب سلسال الفضة المتدلي منه حرف الراء تتبعه "يا " ممدودة تعانقه .. تُعيد شريط حياتها تتمنى لو تقوى على قطع ما لا يحلو لها .. لتصفو لها الحياة .. دموع والدتها وهي تقف تودعها تحتضنها تارة .. وتارة أخرى تسألها " ما نسيتي شي ؟ " .. واشقاءها الصغار المتقافزين حول جسدها المشارف على اعتاب الثامنة عشر .. وشقيقتها الكُبرى لا تفارقها ابتسامتها .. ووالدها وابتسامته الفخورة بها .. فتاته كبرت ورفعت رأسه وهاهي تخطو نحو مستقبلها مغتربة .. ولن يتركها حتى يطمئن عليها .. وأعين بعيده ادركت بعد فوات الآوان عشقها لها .. عشق تحول الى حقد وكراهية تطويها وتحيلها الى آهآت لا تنقطع ..
سحبت انفاسها لتحرك راحتها على صدرها وكأنها تحاول اطفاء نار متأججة فيه .. لتقف تاركة الطاولة دائرية الوجه المكتظة ببعض الكتب ودفتر صغير به بعض الاسطر المشطوبة .. وجملة صغيرة " الوحدة ذبحتني يا عزوتي " ..
خطواتها تقف عند الحقيبة الكبيرة المركونة بجانب دولاب الملابس المتوسط .. تعلم بانها خالية من الملابس ولكن بها شيء تحاول ان تبعده .. ولكن شيء ما في داخلها يجرها اليه .. لتقع جالسة على ركبتيها تُسقطها وتنحني تفتحها .. تقذف بالغطاء بعيدا .. وتنظر الى " السحاب" بجانبها .. هُناك يختبيء هاتفها المغلق من بعد وفاة والدها ..
قلبها كقلب فتاة تدخل قاعة امتحان نهائي يحدد مصيرها .. كقلب عروس تُزف فتتلقفها يد رجل غريب .. انتشلته من مرقده لتنظر اليه في كفها مطولاً .. وعُقلة سبابتها تقع على رأسه مترددة .. اتضغط لتنعشه وتعيده للحياة من جديد .. وتواجه اصواتا ربما تتحين فرصة ضعفها ، لتنهال عليها بسياط لاذع الكلام .. ام تتنحى وتعيد دفنه حيث هو .. وتبقى خلف الجدران مختبئة ؟ ..
حسمت امرها لتعيد اليه انفاسه وتدرك انه ميت وسبابتها لن تحيه .. لتزحف على كفيها وركبتيها باتجاه قابس الكهرباء .. وتجلس تسند ظهرها بالجدار وعيناها تنتظران تسرب الحياة إليه .. ثواني مُتعبة مرت وهي تنظر اليه يضيء من بعد عتمة .. وصوت رسالة يقرع اسماعها لتهم تفتحها .. والخوف يؤرجحها .. لتبتسم وهي تقرأ " وينج ؟ ياليت ادقيلي واطمنيني " .. رسالة قصيرة انستها توارد رسالات أُخرى .. لتسحب انفاسها وهاتفها يعانق اذنها .. تنتظر الصوت ان يلج اليها .. يعيدها لحياة افتقدتها .. وإذا بها تبتسم ...
على بعد مسافات طوال كانت الاخرى تتنهد بحنق بعد أن كلت من الاتصال بذاك الساخط .. لتنظر إلى شقيقتها الجالسة على طرف سريرها .. ناطقة : ما يرد ..
لتبتسم كنة متكأة على اكفها مبتعدة بجذعها للوراء : قلتلج ما بيرد .. منذر اذا حط شي فراس ما بيخليه ..
" والحل ؟ " قالتها وهي تجلس بجوار كنة .. وتردف وقد انحنت للامام قليلا : الله يهديها اميه دايم وياه ناقر ونقير .. وهو يطوف ويسكت .. وشكله خلاص تعب من الحنة ..
ما بالكم ؟ .. مختلفون .. حتى احاديثكم أراها مغايرة عما كُنت اعرف .. هل لأني عُدت هُنا ساكنة بعد أن كنتُ ظيفة تُقابل بحفاوة عند كُل حضور .. هل سأخوض كما تخوضون في أيامكم .. شامة تغيرتي كثيراً .. او لعلي أنا من تغير حتى انعكس ما بي على غيري ..
تُحادث نفسها وهي ترقب شامة الغارقة في ارسال رسالة قصيرة لخالها .. وهناك على وجهها ابتسامة خافتة .. لتنطق : لا اتعبين نفسج .. هو متى ما بيهدى بيرد عليج ..
اطلقت انفاسها زافرة : الغريبة ان شبيب ما قال اي شيء .. ولا حتى اهتم .. خلاهم وراح .. متغير واايد ..
وباهتمام اكملت سائلة : صار وياكم شيء فالسفر ؟ .
" لا " .. وقبل ان تتابع جوابها اذا بهاتف شامة يرن .. وترى لهفة ترتسم على محياها .. لتجيب بسرعة : وينج ؟ حرام عليج .. قلتي عقب العيد والعيد راح .. ولا حس ولا خبر منج ..
" سامحيني " .. كلمة القتها لتصمت تلك عن الحديث والاسئلة المعاتبة التي هالتها على ريّا .. وترفع بصرها تنظر للمنسحبة من الغرفة بهدوء .. لتنطق : وينج ؟
سحبت انفاسها وهي تسند رأسها على الجدار : سافرت .. ظروفي اجبرتني اسافر .. شامة اذا محتاية اتابعين العلاج برشحلج دكتورة شاطرة اعرفها .. صح ان اسلوبها غير عـ ....
بشدة قاطعتها : قلت لج قبل ما اريد .. انا مب من الناس اللي تتعود بكل سهولة ع اي حد .. انا بخير والحمد لله احس اني بديت اشوف مكانتي غير وسط اهلي .. حتى علاقتي وييا خالي صارت مختلفة .. فهمته وحطيت نفسي مكانه .. ولو كنت فمكانه صدج كنت سويت اكثر من اللي سواه ..
تحكي .. تضحك .. وتعاتب .. وابتسامة ريّا تزداد مع سكب دموع فرح .. لشخص استطاعت ان تغيره للافضل في ايام قليلة .. ناشدتها ان تبقى مع الله ليبقى معها دوما .. وان تضع الماضي السيء على منصة الاعدام وتقتله .. وتتمسك بالامل دائما .. راحة احتاجتها في الايام الماضية داهمتها بحديث تجاوز النصف ساعة .. وانتهى بالبقاء على اتصال بين حين وحين ..
وضعت الهاتف جانبها وانكبت على ركبتيها .. تُخفي وجهها .. دموع انسكبت لتريحها .. وتمتمات مكتومة بالحمد لخالقها .. تشتاق لممارسة مهنتها .. للاخذ بايدي المريضات وارشادهن لطريق الصواب .. انسدلت اجفانها دون شعور منها .. لتأخذها غفوة قصيرة بعيدا عن حياتها القاسية .. لتعود بسرعة كمغادرتها بسرعة على صوت رنين هاتفها .. رفعت رأسها لتطل به على هاتفها القريب منها .. الرقم غريب فعادت تخفي وجهها تبحث عن حياتها في حلم يقظة تنسجه بإرادتها .. تنهدت على صوت الرنين .. نفس الرقم من جديد .. تجاهلته كاتمة انفاسه .. واقفة تشد جذعها وقد عانق كفيها وسطها .. لتسحب ذرات الاكسجين الى رئتيها .. وسرعان ما عقدت حاجبيها على صوت هاتفها .. انتشلته وانتصبت .. تُمعن النظر في الرقم .. من موطنها ..
اصابعها ارتعشت تردداً .. وفي داخلها قرع طبول لا يهدأ .. لعلها احدى مريضاتها .. أمر فكرت به ليزيل عنها شيء من خوفها .. هدأ الرنين .. وعاد من جديد .. بعد رسالة قصيرة لم تقوى على الوصول اليها بسبب عودة الاتصال .. وما كان منها الا ان تُجيب .. وقبل ان تتفوه باي كلمة .. انهال عليها لسان المتصل صارخاً : يالخايسه .. ياللي ما تستحين .. نزلتي راس عايلة محمد الـ ... لتراب وشردتي .. وينج .. وانا اييج اعلمج ان الله حق يالحقيرة .. ردي .. ليش ساكتة يا بنت عيسى ..
كانت انفاسه تنفث في مسامعها .. لتقسم بانها شعرت بحرارتها كبركان يحرق وجهها .. وداخلها زلزال يتصاعد يهشم عظامها .. يعتصر قلبها .. تستمع للكلمات الجارحة .. ولصوته الاجش الهادر .. يطعنها مئآت المرات مع كل حرف يُسقطه لسانه .. يهينها ويهيل عليها بسخط قديم وسخط جديد : سودتي ويوهنا وقلنا ابوج بيعقلج بياخذ حق سمعة عايلتنا منج .. وطلع هو وانتي واحد .. والحين تشردين عقب ما صارت سمعتنا ع كل لسان والشرطة كل يوم والثاني طابين علينا .. يالخسيسة ردي ..
شلال دمعها لا يأبى التوقف .. وزلزلة روحها لا تخمد .. ولكن هناك قسوة نبتت من مكان الضعف لتصرخ به : مالكم حق تتكلمون .. مالكم اي حق اتون وتحاسبوني .. وينكم يوم طاح ابوي .. وينكم يوم ماتوا امي واخواني .. وينكم يوم رقد فالمستشفى سبع شهور .. لا تحاسبوني .. انتوا اللي لازم تتحاسبون ..
" جب " .. صرخ بها لتعيد الصراخ في اذنه : انت جب .. انت واهلك .. اهلك اللي ما شفتهم فعزى ولدهم .. الناس تسألني وين اهله .. وما اعرف شو ارد عليهم .. لا تقولون لكم حق .. ولا تسألون ليش .. لانكم انتوا اللي لازم تجاوبوني .. انتوا اللي صدقتوا واحد خسيس وكلب .. ولا عطيتوني اي فرصة ادافع عن عمري .. ياي الحين تقول بتسوي وبتسوي ..
صمتت تتدارك انفاسها المنقطعة .. لتهز رأسها بنفي : مالكم حق .. وينكم عن وليد وانتوا تدرون بحالته .. وينكم عنه وهو يدخل ربعه البيت ولا مسوي اي حساب لاخته .. لو يهمكم الشرف واسم العايلة ما غبتوا وانكرتوا ابوي وانكرتونا ..
زلزل مسامعها بصوته الغاضب : انتي اخر وحده تتكلم عن الشرف سامعه .. خبريني وينج .. وينج يا بـ......
اقفلت في وجهه .. لا ترغب بسماع المزيد .. لا ترغب بان تسكب المعاناة على جروح لم تُشفى بعد .. ضغطت على هاتفها بقبضتها .. وكأنها تحاول ان تخرس رناته المتوالية بين اتصال ورسالة .. سقط من يدها على الارض .. وكأن بها ترتحل خلف وجوه احبتها وارتحلت عنها .. تشعر برجفة تهز وجدانها دون رحمة .. ولا تعلم كم بقيت واقفة .. ليأتيها صوت نيرما من عند الباب : ما الذي حدث ؟
اقتربت بحذر منها .. مطأطأة الرأس تنظر للفراغ .. ووجهها قد تبلل حتى تعدى بطوفانه رقبتها مُغرقاً قميصها الحريري .. هالها منظرها .. بل انه اخافها لتعيد السؤال بشكل مختلف : فتحتي هاتفك ؟ من كان المتصل ؟
ارخت اجفانها لتسكب باقي الدمع من مقلتيها ..وتنشق سيلان انفها .. لتنظر الى نيرما وبصوت قد بُح : لستُ ضعيفة .. ولستُ خائفة .. يحملوني الذنوب والاخطاء ويطهرون انفسهم .. وهم ..
ارتجف فكها مكبل لسانها عن النطق : ما فقلبهم رحمه ..
لم تعي تلك الاجنبية تتمة الحديث .. ونظرها يرقب ريّا المبتعدة بخطواتها الى دروة المياه ( اكرمكم الله ) .. كُل ما تعيه أنها لا تعلم من أين تستمد تلك القوة .. كيف تقع وفجأة تقف وكأن الوقعة لم تكن .. متأكدة هي بان تلك المختفيه عن انظارها ستخرج بعد حين ضاحكة .. متناسية ما حدث ..
,‘،
نعمة النسيان تثير الحسد في نفوس من لم يجدوها .. ليتقاذفهم الوجع مع وجع آخر .. يرسم ملامح باهتة على وجوههم .. وضحكات ناقصة .. مبتورة .. منافقة .. كضحكاته هو .. تلك الضحكات التي قُتلت ودُفنت على يد أخته .. يقود سيارته دون هُدى .. غادر المنزل بالامس .. ورحمته مناوبته الليلة حينها .. والآن يجوب الشوارع من غير هُدى .. والشمس تزحف لتعانق كبد السماء .. ليزفر مرار تعب التفكير .. لتداهمه ابتسامة .. ويتخذ الرجوع طريقا لعجلات سيارته .. لا إلى منزل شبيب .. بل إلى منزل قريب ..
يصدح بوق سيارته في الارجاء .. وسرعان ما يدخل الى فناء المنزل .. يترجل ويصافح عبد الغفور متسائلا عن الجرار أين هي ؟ .. ليشرح له ذاك الرجل ما حدث بحماسة زائدة .. يحرك كفيه مع الكلمات الناطق بها .. وبعدها يترك منذر واقفا يستوعب ما قيل .. أحارب اجتاحته نوبة غضب .. فهاج وحطم ثم قرر ؟ .. ثم تراجع بعد أن هدأ ؟ وهو الهادئ .. قليل الكلام ؟ ..
ابتسم وهو يُنزل حقيبته .. سيحل ضيفا على ذاك الذي انقلب من حال الى حال .. جرها خلفه .. حتى ما وقف امام الباب رن الجرس بازعاج .. ومع فعله كانت تتقافز في داخلة ضحكات وكأنه يتخيل وجه حارب .. لم يفتأ ولم يفتر عما يفعل ..
تقلب الاخر في سريره .. ينكب على بطنه .. يدس رأسه اسفل وسادته .. يسد اذنيه .. ولكن لا فائدة .. ليقف على ركبتيه صارخا : شو هالازعاج ع الصبح ؟
حرك يده في شعره بغضب .. ونزل يهرول خوفا من خبر سيء .. ليفتح الباب .. ويتفاجأ بقهقة تخرج من فيه منذر .. ضاحكا على وجه ذاك وشعره المنفوش .. ونظرة عينيه التي تُنذر باحتراق ستلوح رائحته ..
ليتنحى جانبا حين ابعده منذر بذراعه .. مارا من امامه ومن خلفه حقيبته : ياي بيلس عندك كم يوم ..
وكأنه يبرر المجيء إليه هو دون سواه .. اردف : ربعي اللي معرس واللي وييا اهله واللي مسافر .. وما خطر فبالي الا انت ... وعاد انت تدري البيت القديم مسكون .
رمى بنفسه على الكنب المتوسط الصالة .. ناظرا لذاك المربع ذراعيه على صدره .. ورافعا حاجبيه .. صامتاً .. لينطق وهو يعتدل في جلسته : شو بلاك ؟
ليقع نظره على حقيبة مهملة في الزاوية : بتسافر ؟
" وانت شدخلك ؟ " قالها واردف وقد ولى منذر ظهره : تعرف البيت .. اختار وحده من الحجر اللي تحت .. وخلني ارقد .
وقف الاخر ينظر الى حارب .. ليسأله ويستوقفه عن المُضي : والحجرة اللي فوق شو بلاها ؟
التفت : والله اذا بتعيبك الرقدة وييا الكراكيب حياك ..
تنهد منذر وخرج لعله ينقي رئتيه بهواء الحديقة .. اما الاخر فحاول العودة للنوم ولم يقوى .. ليجلس منحني الظهر على طرف سريره .. مر عليه الوقت ساكناً .. وكأن به يخوض معارك مع افكاره .. حرك انامل يساره على صدعه .. واذا به يسحب احد اوراقه الساقطة على الارض .. تفترش ارضية الغرفة .. تعيده الى حالته ليلا .. ليصب جام غضبه على الورق ناثراً اياها .. ليتركها ويحتضن وسادته .. وهاهو يستيقظ .. وها هي لا تزل تنتظره .. وكأنها تخبره انها لن تتركه وإن تركها ..
سحب أخرى وأخرى .. حتى سحبته البقية ليقع على ركبتيه ينتشلها الواحدة تلو الاخرى .. ويجلس مربع ساقيه ينحني على احداهن كاتباً :
إني زمن
لم يخلق إلا فيكِ
وفيكِ تسامرني أزماني
تكتبني دهراً
يملأ كف الصبحِ
كالأنشودةِ
كالغيمِ
المولود في
شبقِ الأمطارِ .....
وسكن الحرف .. ليضع القلم ويقف .. يضعها على سريره راميا القلم في احضانها .. ويبتعد .. لعل الماء سيطفيء لهيب استعر في جوفه منذ ايام .. ومر الوقت .. الدقائق تجر خلفها اخواتها .. حتى ما اتم العشرون منها خرج .. ليصدمه ذاك المتوسط غرفته .. وفي يده اوراقه .. ناطقاً : بعدك تكتب هالخرابيط ..
يقلب الاوراق وذاك تحرك ينتشل له ملابس من دولابه الغير مرتب .. يرمي بمنشفته الصغيرة على الارض حتى انه لم يجفف شعره جيداً .. واذا به من خلف جدران دورة المياه ( اكرمكم الله ) يستمع لصوت ذاك ناطقاً :
تستحلين اركان جسدي الضعيف .
فاسقط صريعاً الفا تلو الف .
وتظهرين وتغيبين الف والف .
ليقهقه بعدها ناطقا : حشا .. كم الف والف كتبت ..
لم يشعر الا بيد ذاك الغاضب تختطف الورقة .. يسحب باقي الاوراق ويدسها بعيداً .. لا يحكي .. ولا يرغب بحديث يوصله لاحاديث لا يرتضيها .. حاله ذاك اثار الريبة في قلب منذر .. شيء ما استحل حارب بين ليلة واختها .. ليس حارب الذي يتقبل المزاح بصرخة غاضبة وبعدها يصمت مبتسما .. ليس هذا حارب الذي يعرفه .. قال : ليش ما سافرت ؟ دامك مجهز الشنطة ..
ظهره له ووجهه للنافذة المفتوحة .. ونسمات هواء تداعب خصلاته المبتلة .. تُسقِط قطرات الماء الباقية : ما لقيت حجز ... منذر ياليت تخليني بروحي .. واعتبر البيت بيتك فوجودي وعدمه .
,‘،
,‘،
قلبها ليس اقل من قلبه احتراقا .. بدأت تشعر بوحدة غريبة تكتنفها .. تجلس معهم تستمع لهم .. تضحك على حديث جدتها مع والدتها .. وعلى غضب والدتها من كلمات تلقيها جدتها .. وتشعر بالم لبُعد شبيب عنهم .. ليس بجسده بل بعقله .. وعودته للعمل سريعا وكأنه يهرب من شيء ما .. لم ترغب باقحام نفسها الا اذا استمر الوضع فلا بد منها ان تتحرك .. ان تسأل وأن تعرف ..
تحركت بخطواتها خارجة من المطبخ .. تُلهي نفسها بالطبخ احيانا والتلفاز احيانا اخرى .. وبكتاب الله كثيرا .. التفتت لترى جدتها تستظل بشجرة الزيتون .. وقد افترشت حصير من النايلون .. لتقترب تقبل رأسها وتجلس بجوارها .. وتمتد اكفها تدلك ساق جدتها المتعب : يدوه بعدج زعلانه ع امايه ؟
- خليها تستاهل .. والا حد لها غير اخوها فهالزمن .. هكوه صارله كمن يوم لا حس ولا خبر .. وهي حتى ما تريد تتصل فيه وترمسه .
بشيء من التردد قالت : انزين كلميه انتي ... هو يسمع منج يدوه .. والله البيت من دونه مب حلو ..
وفجأة اذا بجسد هاشل يسقط بجانبها لتهلع : بسم الله الرحمن الرحيم ..
يلهث ووجهه يتصبب عرقا .. لتصرخ به العجوز : ها بسك هياته ولعب؟ .. قوم شوف دفاترك وواجباتك وخلك من هالكورة ..
سقط مستلقيا على ظهره .. وصدره لا يزال في هبوط وارتفاع .. لتلكزه كنه بيدها بجانب كتفه : اسمع كلام يدتك .. وقوم قابل دروسك .
- ما عندي واجبات .. اصلا ما عندنا مدرس ..
وقف وجرى مسرعا وهو يقول : بروح اشل ماي حقهم ..
يقصد من يلعب معهم .. ليُسمع بعد صوته صوت والدته : هشوول .. تراك ما خليت ماي فالثلاجة .. بسك لعب الشمس بتغرب وانت بعدك هايت ..
لتتابع سيرها وتجلس معهما دون ان تنطق .. لتتحوقل الجدة وتردف : ما بطيحين اللي فراسج؟ .. ويوم يصيبه شيء تعالي صيحي عندي – ترفع عصاها الغليظة في وجهها – ما بتشوفين الا هذي .
كتمت كنه ضحكتها وهي تسمع والدتها : ياميه حالته مب حاله .. وانا ما ارضى ع عيالي .. يغلطون وبيصلحون غلطهم شو له ييلس يعايرهم ..
" السلام عليكم " .. ارتفعت انظارهن للملقي السلام .. ليقع على رأس جدته مقبلا ومن ثم على رأس والدته .. بردائه العسكري يقف سائلا : شخبارج كنون ؟
- الحمد لله فديتك .
لينصرف بعدها .. يخبرهن بانه سيذهب ليغسل عنه تعب يومه ويستعد لصلاة المغرب في المسجد ..لتقف كنة مستأذنة لاحقة به .. وتنظر شمسة لوالدتها متسائلة : ما كلمج ؟ ما قالج شو فيه ؟ من يوم ما رد من السفر وهذا حاله .. وزاده الزود اللي صار حق كلثوم ..
اكفه تقع على وجهه وتنسل ماسحة على شعره القصير وجدا .. ليسحب انفاسه ويزفرهن .. وما حدث معه اليوم يعود اليه ... حديث عوض وهو يُجيب على الاسئلة المطروحة عليه .. ابتسامته الخبيثة .. وخالد .. يعود اليه مع كل كلمة يلقيها ذاك المجرم ..
ساكنا على الكرسي .. يجيب باختصار على الاستجواب الذي مل منه .. متأففاً حينا .. وحين آخر يبتسم مُجيب بكل صراحة ناطقاً : عاادي ما بخسر شيء .
يبتسم جابر ليطرح عليه سؤال آخر : يعني معترف بكل شيء ..
تنهد : اللي لقيتوه ما بقدر انكره .. البيت لي .. والخمر كان فبيتي .. والقوارب قالوا لي .. بس وين الدليل ؟
يمكر بخبث .. يماطل بين اجابة وأخرى .. لينطق جابر وشبيب صامت وشرطي يجلس يدون ما يُقال : اعوانك اعترفوا .. والمكالمات اللي بينك وبين ربعك مسجلة .. يعني لا تنكر .. وان نكرت ما بتستفيد شيء .
- دامكم عارفين كل شيء ليش يايبيني هني .. كان خليتوني فمركزنا .
- لان قضيتك وقضية خلفان واللي وياه وحده ..
نظر جابر لشبيب ومن ثم اعتدل على كرسيه : تعترف بالابتزاز .
" هااا " .. بدهشة نطقها واردف : انا ما ابتزيت حد .. ولاني محتاي ابتز حد .
" وعيد ؟ " ... صمت وتبعه صمت .. ومن ثم ضحكة مجلجلة من عوض .. ليسقط في اسماعهم ما الجمهم : عيد هو اللي ابتزني .. وزوجني اخته بالقوة .. وفوق هذا هو اللي خبرني عنكم يوم بغيتوا تخدعونا .
لم يقل شيء آخر .. رغبوا بالمزيد ولكن لم يبح بشيء .. ليعتليهم شك .. كيف تسربت معلومات سرية بهذا الشكل .. حتى دفع خالد حياته ثمنا لها ..
عاد من الماضي القريب ليمسح وجهه بكفيه من جديد مستشهدا .. الكثير من الاشياء تجوب سماءه .. يبحث عن تفسير واجابات لها ولا يجد .. ارتفع نظره لطرق على الباب .. لتلج بهدوء .. تراه يبتسم يحتضنه طرف سريره .. تدنو منه : شو بلاك ؟ في شيء مستوي فالشغل ؟ كلثم فيها شيء ؟
هز رأسه : ما فيها الا العافية .. بيرخصونها باكر او عقبه .. وشامة دايره بالها عليها .
تجرأت لتبعد ترددها الذي بدأ يرافقها منذ ايام .. وجلست بجانبه الايسر .. تضع يمينها على كتفه : عيل شو بلاك ؟ من قبل ما نرد وانت مختبص .. وردينا وصرت اردى عن قبل .. اذا ساكتين عنك ولا يسألون مب معناته انهم مب شايفين انك متغير .. بس يدرون انك ما بتقول .. يمكن تقول لامايه العودة ويمكن بعد ما تقولها .
تنهد لتدرك ان ما به شيء اكبر .. اعظم من ان تأتي به عقولهم ظنا .. وفضل الصمت طويلاً .. ليقف بعدها ينهي الاجتماع : بتسبح وعقبها بطلع اصلي ..
امسكت بكفه ولا تزال جالسة .. تنظر اليه : بعده وقت .. شبيب لا تكتم ..
التف بجسده ليحتضن وجهها بكفيه ويقبل جبينها : لا تحاتين ..انا بخير .. وان شاء الله غيمة وبتزول .
تمتمت وهي تراه يتركها : ان شاء الله .
لتترك هي المكان .. تلمح دخول جدتها لغرفتها .. لتسير في طريقها .. وتحويها بعد حين جدران غرفتها .. ترغب هي الاخرى بان تغسل جسدها .. لعل افكارها القلقة تعتقها .. لتخرج بعد حين ترخي شعرها الذي رفعته لتجنبه الماء .. وتخطو نحو هاتفها المعلن عن رسالة قصيرة .. لتتلقفه ولا تزال واقفة .. تلجمها الاحرف امام عينيها .. لتقع اناملها على فيها .. ويقع جسدها تقعده الكلمات بجانب السرير .. ماذا عساه تفعل .. اتجيب ام لا تعر تلك الرسالة اهتماما ..
عادت تقرأها ودموعها تتسابق .. كُتب هُناك : السلام عليكم .شحالج ؟ والحمد لله ع السلامة وعمره مقبوله ان شاء الله .حبيت اتطمن عليج .
هل يقف الزمن هُنا .. حتى لم تعد اجفانها ترف .. ولا تقوى اناملها على الهروب .. كُل شيء توقف .. حتى ذاكرتها استوقفتها ملامحه .. ابتسامته .. روحه التي عشقتها ايام وايام حتى تشبع قلبها بالحب .. واضحى متناقضا ولا يرتوي .. اخيراً دقت اجراس الوقت لتعلن ان الوقت يمضي .. وان الحياة تسير .. وان العمر لا يقف .. اعلنت تلك الاجراس القارعة في زوايا روحها ان المواجهة نصر .. وان الهروب فشل وخسارة وسقوط لا يتبعه وقوف ..
تنهدت .. ومسحت بلل وجهها بكفيها .. وتمسح كفيها بجانبي ثوبها .. وعادت تلتقف الهاتف الذي اندس في حجرها .. تزدرد ريقها .. تقاوم خوف اناملها .. لتسكب الحرف كاتبة : وعليكم السلام .. بخير وانت ؟ ربي يسلمك واللهم آمين .
أجوبة بقدر الاسئلة المطروحة .. لن تزيد كلمة ولا حرفاً .. تركته على السرير وسحبت هواء لتطرد اخر من رئتيها .. أيقنت ان تعب قلبها لن يختفي بسهولة .. لن يحمل اشواقه وايامه الماضية ويردفها على كتفه ويمضي .. بل سيبقى يرتبها امامها رويدا رويدا حتى موعد الرحيل .. اليوم .. غداً .. بعد غد .. لا يهم .. ولكن ذاك اليوم سيأتي لا محالة ..
جلست طويلا على سجادتها .. رافعة كفيها .. مُغرقة وجهها بدموع الرجاء .. تطلبه هو من لا يرد لسان دعاه .. تخبره بأن القلب أتلفه الألم .. وأن الروح اعدمها الحال .. وأن بين الاثنين آهات لا تنضب .. فليغدق عليها براحة من حيثُ لا تحتسب .. وليمسح برحمته على فؤادها ليستفق ..
مسحت وجهها مستشهدة .. تطوي سجادتها .. وتخرج تحتاج للحديث .. تحتاج للفظ ما بها .. وقادتها قدميها الى غرفة جدتها .. تُدخل رأسها بهدوء بعد طرقات خفيفة على الباب .. لتراها تنحت عن سجادة الصلاة قليلا وبيدها مسبحتها .. ولسانها يلهج بالذكر .. رفعت نظرها : تعالي ..
واردفت حين جلست تلك قريباً منها : عرفتي شو بلاه اخوج ؟
لتهز رأسها بلا .. وهي من ظنت ان الاسرار قد رماها في جعبة جدتها .. قالت : يدوه .. امي تزعل منا يوم انييج ؟
تنهدت تلك العجوز : الواحد لِتعبته الهموم ما يباله حد يزيده فوق اللي فيه زود .. وامج اذا شافت النار بتزيدها حطب .. يوم انها صغيرة كانت فالعناد مثل ابوها .. ويوم انه قال بعرس شلت الارض شلل .. وكل ما نقول لها شيء قالت شيء .. يومين ولقيتها يالسه وياه الله يرحمه تقوله كيف شكل حرمتك اليديدة ..
ضحكت وما لبثت تلك الضحكات حتى تحولت دموع تحرقها .. لتنكب على فخذ جدتها .. تُسمي عليها .. تحاول ان تدرك وجهها فتبعد " شيلتها " دون قصد ارادته : لا حول ولا قوة الا بالله .
بصوت مكتوم .. تحتله الشهقات : يدوه مب قادرة انسى .. مب قادرة اشوف حياتي ..
ثرثرة لجدتها الكثير .. حتى تلك الرسالة تطرقت اليها بغضب .. بحنق من تصرف منه اوجعها .. هدأت من نوبة بكاءها ليستحلها صمت ودموع صماء تنسكب جارحة وجهها .. لتمتد انامل جدتها تجمع خصل شعرها .. وتحيك منهن ظفيرة وهي تترنم قائلة : يقول المتوصف
سباني حب بو عقص تثنا
حسين اللون وضاح الجبينا
وصدر يشبه ابروق المزنا
زهى بالنهد كنه شوب تينا
خصوره من ردوف يتعبنا
يلي منه مشى عوده يلينا؟
أبيات من التراث الشعري
ضحكت كنة : شو الطاري يدوه .. اقولج مب قادرة انسى .. شو دخل هالقصيدة الحين ؟
كانت سترفع رأسها الا انها زجرتها : صبري خليني اعقصج مثل اول ..لول الواحد يحب والكل يدري من قصيده .. وان كان له نصيب خذاله المحبوبة .. واليوم يحبون بالدس والعيب يسونه ولا يستحون .. ولول يوم انه الواحد طاح من الهم شلوه ربعه واهله وما تلقينه الا مثل الخيل السبوق .. والحين الواحد يدور على الصاحب اللي يشله ولا يحصله .
" من تقصدين يدوه ؟ " سؤال طرحته كنة وهي لا تعلم بمن احتل باب الغرفة واقفا بصمت .. ليرن هاتفه يُعلن عن وجوده .. وتبتسم حين رفعت رأسها لتراه وقد شقت الابتسامة محياه ..
آه يأ أخي لو أعلم مُصاب روحك .. لعل مصابي حينها يخبو ويتلاشى .. هل لي أن أحمل بعضا منه كما حملت جُل ما اصابني .. أما آن لدين أن يُرد .. أم انك دائن لا يضع موعدا لسداد .. أيحق لك أن تحمل الكثير دون مُعين ؟
سارحة بذهنها .. ليأتيها صوت جدتها : ما تخافين عليه .. ريال لو ما شدت عليه الحياة ما عاش .
,‘،
الحياة .. هل نستطيع أن نُلقي عليها باللوم .. وبالذنب لايام سوداء اجتاحتنا .. أيحق لنا أن نعيب زماننا .. ونشتمه ونصلبه ونرشقه بالظروف ؟ .. أوليس قول الشاعر " نعيب زماننا والعيب فينا .. وما لزماننا عيباً سوانا " صادقاً .. لو نطق الزمان ماذا كان عساه سيقول ؟ سيهاجمنا .. وسيصفنا بالضعفاء .. بالتعساء المتخاذلون .. بالساكتون عن الحق بداعي اسباب واهية ..
هي كانت من أولئك الاشخاص .. ضعيفة مستندة على أخ استحل بيعها بداعي الزواج ليُسكت طمعه الذي لا يسكته شيء .. وهي اليوم تشعر بنشوة النصر .. ولا تخفي وجود بعض من جُرعات الخوف المنسكبة على قلبها .. الخوف من القادم .. من حياة تحياها الآن .. أو لعله خوف مختلف لا تعلم له ملامح بعد ..
صوت ماكينة الحياكة يضج في ارجاء الغرفة .. اشترتها بالامس .. وهاهي تزاول عليها أول اعمالها بعد انقطاع .. ثوب لابنتها مريم ستلحقه بثوب آخر لطفلتها البعيدة .. وهناك تعلو ابتسامة كُلما خُيل لها طيف أبنتها .. كلثم الصغيرة التي تشبه والدها كثيراً .. وفي وسط انهماكها كان قلبها يدعو الله أن يضع الخير في طريقها وأن يُجنبها وابنتيها كُل مكروه .
وفجأة داهمها أنقباض في صدرها .. وكأن بها ترى عيد أمامها .. لعله سيعلم بما حدث وان عوض سيواريه السجن اعوام واعوام .. وسيعود يمسك بها ويجبرها على الطلاق ومن ثم يُعيد في حياتها جحيم الخوف والترقب .. هل سيبقى مصيرها هكذا .. تتنقل بين زوج وآخر .. أغمضت عينيها بتعب .. لتتمتم : يا رب مالي غيرك .. يا رب لا تكلني الى احد سواك وابعد عني عيد ومصايبه ..
جسدها المكتنز يتحرك بثقل وهي تجر حقيبتها المدرسية خلفها .. والشمس حقنت الدماء في وجهها الممتليء ليخضبه الاحمرار .. لتتخطى العتبة ترفع حقيبتها بتعب .. وتجرها من جديد الى حيثُ ذاك الصوت المزعج .. لتزفر وهي تقف تاركة حقيبتها جانباً : أمايه قولي للباص يوقف عند الباب .. ليش يوقف عند الشارع .. بعيد .. وحر .
كان صوتها متهدجاً وكأن نوبة بكاء تعلن قدومها .. لتنظر اليها وتقف تمسح بيدها على وجنتيها : فديتج الباص ما يقدر يدخل بين البيوت .
" أأوووف " .. زفرت بها وهي تضرب بقدمها الارض تاركة والدتها تطوح برأسها .. وما هي الا ثواني حتى عادت لتقف عند الباب ناطقة : عمو عوض خلاص ما بيرد صح ؟
تبسمت لها : هيه .
وفي سرها تتبعها بـ " إن شاء الله ما يرد " .. لتتقدم مريم تقف امامها : يعني كلثوم بترد تعيش ويانا صح ؟
اقتربت منها تعانق كتفيها كفيها .. لترفع هي نظرها تلمح نظرة غريبة في عيني والدتها التي قالت : ان شاء الله من تخلص المدرسة بنروح نيبها .. وبنعيش وييا بعض مثل قبل ..
وبنبرة صوت حادة : بس ما نريد نعيش فبيت خالي عيد .. خلينا نعيش بروحنا مثل يوم كان عمي خالد ويانا .. كان ايينا شوي ويروح ..
قبل ان تنطق اخرسها صوت جرس الباب .. لتشد اليها " شيلتها " الكبيرة وتتوشح بها ولسانها يردد : يا رب خير .
أهو الخوف يقودها في هذه اللحظة ؟ أم أنه الرجاء ؟ لا تعلم الا ان جسدها خارجه صلابة وداخله حطام تهزة خشية لا تعيها .. وقفت ترجو ان يكون من خلف الباب شخص لا تعرفه : منو ؟
" السلام عليج أختي " . كان صوت رجل لاول مرة يقع في مسامعها .. لترد السلام مُردفة : خير اخوي بغيت شيء .
- ياينج أمر عشان تحضرين لمركز الشرطة فاقرب وقت .. وياليت توقعين ع الاستلام .
تمد يدها بعد ان واربت الباب لتختطف ورقة تُعلمها إن الغد قد يكون اسوء .. وقد يكون أفضل .. وقد وقد .. ويبقى علمه عند علام الغيوب ..
,‘،
بخلاف نظرتها للمستقبل كانت نظراته هو تنظر للوراء لايام كالحة عاشها .. وازدادت سوادا وظلمة بعد الافتراء الذي لاقاه .. يجلس على احد الكراسي الخشبية في حديقة منزل حارب .. فكره يبتعد .. يعود حيثُ تُحسب الغلطات الصغيرة وكأنها ذنب لا يكافأه الا الاعدام .. اعدام روحه .. وذاك الـ ناصر كان يتصيد الاخطاء الاحقه للفعل المُفترى حتى يكيل عليه صرخات التجريح ..
يقف امامه وهو شاب لا يبعده عن الثامنة عشر الا اشهر قِلال .. يوبخه وكأنه أبن التاسعة .. والذنب سقوط مدللته الصغيرة عن الارجوحة حين كان معها .. هي من ارادت التأرجح بقوة فحاولت دفع نفسها فسقطت .. وهو ظل صامتاً يعلم إن كلمة ستؤدي به إلى خارج اسوار منزل ذاك الكاره لوجوده .. أعلى الكرامة أن تُمسح عند الحاجة ؟
مطأطئ الرأس تسترق عينيه النظر الى الباب الموارب و الصغيرة الاخرى تطل بخوف ناظرة إلى خالها .. كنة الرقيقة منذ الصغر .. القريبة منه دائما .. ليريها ابتسامته فقط لتطمئن انه بخير ..
تنهد وهو يسمع صوت ناصر من جديد .. صوته في نبرة إبنه شبيب .. وشتان بين الصراخ القديم والصراخ الجديد الذي لا يعي منه الا بضع كلمات لا تُسمن من جوع ..
" يا بيه " .. نطقها عبد الغفور من خلفه .. لينفث دُخان ما كان يتجرعه .. مكملاً ذاك حديثه : قوم شوفهم .. خايف ع الدكتور دا الاستاز شبيب ما شاء الله .
ليغرق منذر في ضحكته وهو يدوس على تلك القاتلة : متخفش ..
وعاد يضحك والاخر يتحوقل يضرب يمناه بيسراه .. لينطق منذر من جديد : ما يقولون اللي داخل بين البيضة وقشرتها ...
بحنق رد الاخر : بيضة إييه .. بيقولو البصلة ..
" هي .. هي " .. اجابة مع ضحكات ووقوف من قبل منذر .. ليقف عبد الغفور امامه : يا بيه دا الدكتور ما يجيش حاجه قدام الاستاز شبيب .
كفه تقع على كتف عبد الغفور رابتاً : لا تخاف ..
وادبر مردفاً : المصارين فالبطن بتتخانق يا عم عبد الغفور ..
هناك في الاعلى حيثُ النافذة الخائنة، المسربة للاحاديث الساخطة والاعترافات المدفونة .. بعد اتصال من منذر يبث فيه حال ذاك العاشق الذي لا يخرج من غرفته ولا ينبس الا بكلمات قليلة حين السؤال .. وكأن به ميت يمشي على الارض .. لم يجد شبيب نفسه الا واقفا على ارض غرفة صاحبه .. ساخطاً .. بل انه غاضباً وناقماً .. ليفجر جُل ما يعتريه على مسامع الواقف ومسنداً ظهره بالجدار .. كتلميذ يؤنبه استاذه ..
يعقد حاجبيه يحرك ذراعيه مع كلامه الغاضب : شو هذا اللي يالس تسويه بعمرك .. كل ما تشابكت خيوطك هديتها ورحت .. بدال ما تحلها قبل لا تتعقد .. وين حارب اللي كان كل ما صابه شيء يوقف ع ريوله حتى لو ضعف .. يرد اقوى عن قبل ..
اشاح بوجهه زافرا انفاسه مرارا .. ليغمض عينيه وبهدوء يحاول ان يرجعه الى روحه : قلت اخلي كل واحد ع كيفه .. ما بتدخل .. كل واحد عنده عقل يقدر يفكر فيه ..
التفت له .. لا يزال منكساً عنقه .. ناظراً امام قدميه .. وذراعيه تكاتفا خلفه .. وبنفس النبرة اكمل : خالي طلع من البيت قلت يومين .. ثلاثه .. اسبوع .. وبيرد من كيفه .. ريال عود وحر .. وانت ...
صمت لبرهة .. تحثه خطواته ليقف امام ذاك الهارب بانظاره .. ليمسكه من ذراعيه يهزه .. يحاول ان يرى وجهه : انت وينك يا حارب .. ليش صاير بهالضعف ..
لينفض الاخر جسده مبتعداً رافعا وجهه متحاشياً النظر في عيني شبيب .. وبنبرة عالية متوجعة : لان يومها كان شبيب وياي يسندني اذا طحت .. يومها كانت اذا ضاقت علي اعرف طريقي .. اعرف ان لي صاحب اذا قلتله محتايك فزعلي ..
وبهدوء : بس اليوم مب قادر احط عيني فعينه .. لو كنت ادري اني مب قد قراراي بالهجرة كان ما كتبت لك .. كان ما اعترفتلك ..
ليصرخ الاخر : ليش ما تكلمت يومها .. ليش ما قلت ما اريد شامة لابوي .. ليش سكتت ؟
وبنفس حدة الصراخ : لان يومها ما كنت ادري ان فارس ياكم وطلب ايدها .. يومها يوم اني قلت لابوك اريد القرب منكم .. وقالي تم ما ظنيت انه يقصد شامة .. يومها يوم انه قال اليوم ما في مثله بناتي الثنتين انخطبن .. كنة لفارس وشامة لحارب حسيت سكين انغرزت فقلبي .. وشفت الفرحة فعيونك .. فعيون الانسان اللي لو عشت فوق عمري اعمار ما بوفيه حق وقفته وياي .. وتباني اقول لا .. وهو ربيعي وهي ..
- ياليتك قلت لا .. ياليتك تكلمت .. بس من يفوت الفوت ما ينفع الصوت يا حارب .. ما ينفع .. واختي ما بعطيها لانسان ضعيف ..
آخر الكلمات ضربة في صميم ذاته .. ليدبر الاخر موليا .. ويبقى هو واقفاً متوجعاً .. يشعر بان البوح استهلك قوته .. ليترنح ساقطاً على سريره .. وبهمس وكأن به يُحدِث شبيب : لو قلت لا ما بنولها يا شبيب .. ما بنولها ..
,‘،
,‘،
تلملم الايام ذاتها .. ترتحل مخلفة وراءها ذكرى في عقول من عاشوها .. وربما تُنسى كأيام كثيرة فانية .. وهي ستخلد هذا اليوم في الذاكرة .. وربما تذكر بعضه وتنسى ما تريد ان تنسى .. لم ترغب بحفلة صاخبة .. او هذا ما رغب فيه هو احتراما لمشاعر زوجة عاش معها سنوات طوال .. ولعله أمر من والدته التي لم تعجبها يوما .. منذُ ذاك اليوم وفي قلبها لها ذرة من كُره ..
يتقدمها ليفتح الباب مسمياً .. لتبعد عن وجهها غطاءه .. وتدخل بيمينها على طلب منه .. مطلقة ضحكة قصيرة .. لتقف تنظر الى بهو المنزل الكبير يتوسطه درجات حلزونية متراقصة .. بهُرت به .. حتى باتت مقلتيها تدوران هُنا وهناك .. تعلم ان لديه مال ولكن لم تتصور جمال منزله هذا .
جاءها صوته : مبروك .. ان شاء الله عيبج البيت ..
مُدعية اللامبالاة ناطقة بخجل لعلها تتصنعه : الله يبارك فيك ولك .. البيت حلو ما فيه شيء .
كفه السمراء تمسك بكفها لتجفل قليلا .. يمشي لتمشي بمعيته : محد فالبيت ؟
سؤال طرحته وهي تصعد من خلفه الدرجات .. رافعة عباءتها لتطلق لخطواتها الحرية .. التفت لها وابتسامة تعلوه : لا محد .. بدور عند اهلها قالت بتخلينا ع راحتنا ..
مؤكد انها تحترق الآن .. بل أقسم ان دموعها لم تجف منذ ايام .. ولربما والدتك الكريهة تساندها .. ولكن لن يطول الامر حتى ادع تلك العجوز في صفي واقفة .. وانت تبقى لي .. حتى وان كُنت لك مشروع انجاب لا غير .. فلن اكون نوال ان لم اغيرك واغير افكارك .
تحادث نفسها بابتسامة ساخرة .. حتى ما وجلت الغرفة : هذي حجرتنا .. ان شاء الله يعيبج ذوقي ..
تلفتت .. تناظر الاثاث لتنزع عباءتها بعد ان انتزعت " شيلتها " .. لتسير الى دولاب الملابس دون ان تجيب على سؤاله .. تلتفت لتراه جالسا على طرف السرير .. ينتزع ما على رأسه ليبان اضمحلال الشعر في مقدمته واعلاه .. وتسمعه يتنهد .. لتتمتم لنفسها : اكيد مب قادر ع غيابها ..
وبصوت يسمعه : انزين قلت البيت بينقسم صح ؟
يقف يخلع ثوبه ليبقى بملابسه الداخلية .. ومجيباً عليها: هيه .. الطابق هذا لج .. واللي تحت لبدور ..
كفها تعانق وسطها .. ناطقة بتبرم : يا سلام .. وليش ان شاء الله ليها اللي تحت ..
نظر اليها بنظرة جعلتها تتلعثم .. تُسقط كفها الى جانبها .. وبصوت صارم : لج ثلاث حجر وصالة عودة .. وهي مالها الا حجرتين وصالة ما اتيي نص الصالة اللي فوق ..
زمت شفتيها : هيه بس هي عندها المطبخ .. وانا الصراحة ما اريد حد يتحكم فيّ يا يمعه ..
- محد بيتحكم فيج .. المطبخ لكن بثنتيكن .. وصدعة راس ما اريد يا نوال .. وخلي ليلتنا تعدي ع خير ..
ادبر يسير نحو دورة المياه ( اكرمكم الله ) .. مردفا قبل ان تنطق : بتسبح ويهزي عمرج .. ملابسج كلها مرتبة فالكبت .
متشدقة .. مُعيدة بعض حديثه : يهزي عمرج ..
اردفت وهي تجلس ع طرف السرير : اووف .. شو اللي بلاني بهالبلوة .. الله يسامحج ياميه .. كل شوي ما بدوملج وما بدوملج ..
بعد صمت لا يقضه الا صوت الماء من خلف الباب الخشبي .. قامت مبتسمة .. تبحث بين ملابسها .. تحدث نفسها : لا يا نوال خلج عاقلة .. وكسبيه دام القديمة بعيد .. نسيه اياها .. ولعبيها صح دامج دخلتي اللعبة ..
ازدادت ابتسامتها وهي تُخرج لها ثوب نوم به من الاغراء الكثير .. ستمارس عليه طغيان الانثى .. فالخجل ان كانت تعرفه قليلا فاليوم ستقتله لاجل مبتغاها ..
,‘،
هل كُل ما نتمناه ندركه ؟ .. وما لا ندركه هل نرميه خلف ظهورنا ونمضي ؟.. تمر ساعاتنا مهرولة حين وحين آخر تتوكأ على عصا .. وتبقى ندبات الجروح القاسية علامة فارقة في صفحة القلب .. نمسح عليها لنخفيها عن أعين من نحب .. فحياتنا ليست ملك لنا وحدنا .. فهناك من يقاسمنا السعادة .. ويقاسمنا الالم والمعاناة .. فهل يستحقون الوجع لاننا نتوجع ؟ ام يجب علينا ان ندوس على جرحنا لتبقى البسمة مرتسمة على وجوه من نُحب ..
هذه هي تناست الكثير .. كنة المعروفة بين اهلها بطيبة قلبها .. تصرخ عليها والدتها كثيرا في الاونة الاخيرة .. والسبب رفضها لاربعة شباب تقدموا لها .. وتهيل بعض من الغضب على شبيب الممسك بكفها يؤيد قرارات شقيقته .. تنهدت وهي تُنهي عمل الشاي .. الوقت ما بعد الظهر وقبيل العصر .. الجميع يجتمع في تلك الصالة .. حتى ذاك المنذر عاد بعد سخط اسابيع يمر فيهن دقائق يُلقي التحية على تلك العجوز ويسأل عن حالها .. ويضحك مع حبيبته كنة لبعض الوقت .
ولجت على صوته الناطق وقد استند بجزء من جسده على النمرقة القاسية وبيده جهاز تحكم لتلك اللعبة .. ويجلس على يمينه هاشل .. يصرخ حين يغلبه ذاك بركلة في مرماه : هيه تراني ما رديت الا لعيون ناس .. والا انتي يا شموس كلامج يسم البدن .. بس ما ينشره عليج .. خرفتي ..
لتصرخ به : انا خرفت يالهيس ..
جالسا صارخاً بذاك المتقافز فرحاً لهدف احرزه : يالكلب يا هشول .. منو قالك تلعب وتتحرفن وانا اسولف ..
ليمد له لسانه : غلبتك .. غلبتك ..
لتضحك تلك الصغيرة التي نسيت الكثير كأي طفل تُنسية البكاء هدية صغيرة .. ليصرخ بها ايضا : جب انتي بعد ..
تطلق لسانها مقلدة هاشل : انت جب .
وتجري بعدها تندس بجانب تلك العجوز .. وبيدها دميتها الصغيرة : يدووه سويلها مثل اللي تسوينه فشعري ..
لتجيبها : بعدين .
لتقف كلثم مبتعدة .. ستلوذ في غرفة شامة لاعبة .. تداعب الدمى وتحدثها ..
اما ذام فبعد الصراخ والغضب جلس باعتدال : الحين بتشوف اللعب .. وانتن لا ترمسني ..
" الحمد لله والشكر " .. قالتها شمسة واردفت وهي تأخذ كأس الشاي من ابنتها : الريال من رد وهو مستخف ..
لتتمت تلك العجوز المتمنعة عن شرب الشاي : والله اللي يعيش وياج بيستخف ..
لتكتم كنه ضحكتها وهي تقف تقترب من خالها تمد له بكأس شاي : منذر ..
لتزجرها والدتها على دخول شامة بعد ان غادرتهم دقائق : كنوه الين متى بتمين تزقرينه منذر .. هذا خالج .. شبيب اللي هو اكبر منج يقوله خالي .. وانتي ع راسج ريشه .
" هاتي فديتج " .. قالها هو وهمس لها : طوفي طوفي ..
لتنطلق منها ضحكة مكتومة .. وتسمع والدتها تتحوقل .. وبغيض ترتشف الشاي .. لتلكزها والدتها سائلة : انتي شو بلاج ع البنية ؟
لتنحني وكأن بها لا تريد لاحد ان يسمع حديثها .. تهمس : كم واحد ياها وردته .. تراها مب بنت والفرصة يوم تروح ما بترد .
" لا حول ولا قوة الا بالله " .. قالتها الجدة لتردف : توها طالعة من عدتها .. شبلاهن الحريم ما شايفات خير .. البنت بعدها ما تداوت من اللي صابها .. وانتي تكبين الملح فوق اليرح .
في حين كان الحديث الخافت يتشعب بين الام وابنتها .. كان حديث آخر يدور بين كنة وشامة .. حين اقبلت على شقيقتها الممسكة بـ آنية الشاي تسكب لها .. لتجلس بجوارها : عيل وين شبيب .. هو اللي طلب الشاهي .
لترد الاخرى وهي تزحف بجسدها للوراء لتتكيء بظهرها : برع يتكلم فون .
" وانتي وين كنتي ؟ " .. سؤال طرحته كنة لتجيبها : اتكلم فون .
لترفع حاجبها : ما شاء الله فوناتكم ما يسكتن .
لتنطلق من شامة ضحكة لفتت اليها الانظار .. لتبتلع ريقها وتبتسم وتحادث شقيقتها بهمس لا يُسمع : كنت اكلم الدكتورة .. تصدقين وجودها فحياتي حلو .. بس حسيت فيها شي .. حديثها متغير وكنها تريد تقولي شي ومستحية ..
- كيف يعني ؟
- مادري .. بقولج شيء بس لا تضحكين علي ..
لتردف بعد ان طمأنتها بانها لن تضحك : مرات احس انها هي اللي محتاية تسولف وياي مب انا .. يعني احس انها تتصل عشان تتكلم .. ومع هذا ما تقول شيء .. وصايرة تسألني واايد عنكم ..
في الخارج يخطو بخطوات قصيرة ما تلبث حتى تتوقف .. وسرعان ما تعود ساقيه للتحرك يتحادث مع ابن عمه جابر .. يتهلل وجهه فرحا كلما نطق الاخر .. شيء اراده منذ مدة وها هو يحصل عليه .. ينطق من بين فرحه : شو اللي تقوله يا جابر ؟
الاخر يسترق النظر الى زوجته الداخلة عليه .. تقطع خلوة حديثه .. تتوجه لدولاب ملابسها للمرة الالف خلال اسبوع واحد .. لتقيس فستانها .. وتنظر بعدها لنفسها في المرآة تتحسس بطنها البارزة .. وتعقد حاجبيها متأففة .. مستاءة من وضع جسدها الممتليء .. متذمرة في وجهه .. تنطق بانها لن تذهب الى حفل الزفاف .. حفظ تلك الاسطوانة منها .. يزجرها احيانا واحيانا أُخر يضحك حتى يفر الدمع من عينيه ..
ما إن دخلت وقف تاركاً المكان لها .. الحديث لا يجب ان يسمعه الا شبيب .. مبتعداً عن المنزل الى حديقته .. وذاك ينتظر على احر من الجمر .. ليأتيه صوته : من كم يوم عمي تذكر ان لهم مزرعة قريبة من مزرعتنا القديمة .. وتذكر ان ابوك الله يرحمه تعرف ع هالريال فذاك المكان .. بس عمي حمد ما كان ذاك الزود وياه .. كان دايم وييا ابوي الله يرحمه .. بعكس ابوك اللي صار وياه مثل الاخوان واكثر .. يوم سألت عمي ليش ما كان عمي ناصر يخبرنا عن هالريال .. قالي يمكن انشغل .. وخاصة ان فاخر السنين ابتعدوا عن بعض .. وما قاموا يشوفون بعض مثل أول .
نطق الاخر بلهفة وكأنه يستعجل مراده : أنزين دليتوا بيتهم ؟
ليقهقه جابر : هيه .. خذت العنوان من سعد ورحت وتأكدت بنفسي أمس .. ما شاء الله باين ان عندهم خير .. والصراحة سعد ما قصر ويانا عليه بياض الويه ..
- راعي اوله .. ما بظهر من يميله ..
لينتهي الحديث بفرح يتقافز من نظرات عينيه .. يعود الى الصالة الضاجة بصراخ خاله مع هاشل .. وكأن به طفل لا رجل على مشارف الثلاثين .. متبسما يجلس بالقرب من والدته .. طالبا من شامة ان تسكب له كأس شاي .. لتبتسم والدته ناطقة : باكر فالعرس بدورلكم حريم ..
التفت اليها : حق منو ؟
- حقك وحق خالك .. بعد حق منو ..
وكأن بأذنيه لا تلتقطان الا ما لا يحبه .. ليرفع حاجبيه ونظره على شاشة التلفاز : شموس خلج بعيد عني .. بدورين حرمة دوري لولدج .. انا مب قاتل عمري ع الهم .
يرتشف من كأسه بهدوء .. وتربت هي على فخذه : خلك من خالك .. ما منه رجا .. ان شاء الله بالقالك بنت الحسب والنسب والجمال ..
" شميس خلي الولد ع راحته متى ما يبي العرس بيقول " .. جملة نطقت بها والدتها لتنادي بعدها على كنة لتدلك لها ساقها المتعبة .. ويشدهم الحديث الدائر .. ولا يزال ذاك مبتسما .. وما إن انهي كأسه نطق : أميه العروس مويوده .. ومب محتاي الا روحتج لاهلها وشوفتها ..
القى بحديثه ذاك .. ووقف مستأذناً .. تنشد اليه الانظار .. ليترك منذر ما في يده ويقف .. يخطو خلف ابن أخته .. وكأن به يحاول أن يتبين ما قيل .. ويتأكد بأن ما سمعه ليس محض اسكات لالحاح شمسة ..
,‘،
تُلح عليها دموعها لتغرق وجهها .. تردعها وتردعها .. هناك في داخلها فجوة تؤلمها .. تُصيبها برعب يفتت عظامها وخلاياها .. حتى أمست ترجف بخلاف تماسكها الظاهر .. لم تعد تقوى على اسكات دمعها اكثر .. لتنهمر دموعها وتقف تلك عن عملها مبعدة فرشاة " البلاشر " : لشو بتبكي هلأ .. ضاع كل اللي عملتو ..
انفجرت باكية على دخول ليلى المرافقة لها في هذا المكان .. والتي انهت تزيين وجهها بمساحيق التجميل .. ولم يبقى الا تسريحة لشعرها الطويل .. دنت منها بهلع وهي تسمع تأفف المزينة اللبنانية : ما في وأت يا روحي .. صارلنا ساعة بنمكيجك وخرب كل شي .
لتقف ليلى بجانبها تشدها من كتفيها الى صدرها : فديتج مهوي شو بلاج ؟
لتطلب من تلك ان تتركهما لوحدهما بعض الوقت .. تعيد عليها السؤال من جديد .. لتجيب الاخرى وهي تمسح دموعها ليتشوه وجهها : خايفة ليول .. ما اعرفه .. كنت اظن اني بعرفه فالشهور اللي راحت .. بس ولا مرة يلس وياي بروحنا .. ولا مرة حسسني اني حرمته ..
تشد ملابسها من ناحية صدرها بقبضتها : حاسه بغصة هني .. كل ما قرب هاليوم وانا اقنع نفسي بوايد اسباب .. بس خلاص مب قادرة امثل الفرح .. مب قادرة اضحك .. وربي حاسه انكم بتزفوني لموتي ..
" بسم الله الرحمن الرحيم " .. قالتها ليلى بخوف .. لتردف : هذي رهبة العرس بس .. وبعدين هو ما كان ييلس وياج يمكن لانه يستحي من اهلي واخواني .. وادري بمطر واقفله ع الوحدة .. وبعدين ما كان يرمسج فون؟ .. ما كنتي دايم تقطعين كلامنا وتقوليلي سلطون ع الخط؟ .
هزت رأسها بنعم .. لتحاول ان تهدئ من روعها .. وتستسلم بعد دقائق لايدي تلك المتلاعبة بالالوان على وجهها .. تخبرها بانها تريده خفيفاً .. فوجهها جميل ولا داعي لان يكتنز بالالوان حتى تختفي ملامحه .. تنفست بعمق .. لا يفصلها عن حياتها الجديدة الا ساعات .. ساعات تهرول وكأن بها تحاول ان تنتشلها من اوهامها بالحقيقة .
آه يا ليلى .. لو تعلمين إن اتصالته لم تكن الا كلمات متسائلة .. هل ينقصني شيئا ما أم لا .. ليتكِ تعلمين إن الحديث معه لا يتعدى الدقائق .. وكأن به يهرب مني .. ومن سماع صوت .. ومن رؤية وجهي .. حتى عينيه ونظرتهما التي كانت تخيفني صارت تحمل في طياتها ضياع لا اعلم ماهيته .. لو تعلمين إن صمتي عن تتمة الحديث معكِ ما هو الا خوفاً من أن يصل الحديث لآذآن خالتي .. اللهم إني استودعك نفسي .. اللهم إني استودعك نفسي .
يقف بجوار ابن عمه ينظر بغضب الى ذاك المتأنق .. يردف على ذراعه بشتاً اسود .. يتبسم للحضور .. فرحاً .. لينطق شبيب الواقف يرى ردات فعله الغاضبة : مطر شبلاك .. كل شوي أوف وأوف .. مب فرحان لبنت خالتك ؟
- تبي الصدج .. لا .. سلطان منافق .. لا وبعد يالس يتبوسم .
ضحك عليه وعلى امتعاضه : بس والله ابوه مافي مثله .. ريال سمح ..
نظر اليه شزراً : ابوه مب هو ..
وبعدها نطق وهو يرى وجه والده من بعيد .. مبتسماً .. فرحاً وكأن به يزوج ابنته لا إبنة شقيقة زوجته : شبيب .. شو صار ع علي ؟
- خذ يزاه .. بيتأدب وبيطلع .. وأنت بعد هالنسبة اللي ترفع الراس وين العزم .
- الجوية .
جواب استغربه شبيب الذي يعلم جيدا رفض حفصة لهذا القرار .. وفضل الصمت وهو يرى جابر مقبلا عليهما .. متأخر ولكنه حضر أخيراً .. يبتسمان له .. ويتبادلون الحديث معاً ..
صوت غناء لا يهدأ .. وضجيج احاديث نسوة كطنين النحل لا يفتر .. هُنا وهُناك .. وصغيرات يتقافزن مع اشقاءهن على منصة العرسان .. وطاولة اجتمع عليها حديثا التقطته اسماع ليلى .. لتقف تاركة مكانها حيثُ أمها وزوجة عمها وبعض القريبات .. لتصل الى طاولة تجلس عليها كنة مع شقيقتها .. تبدو فارغة ومنعزلة .. لتضرب كنة على كتفها .. ليصيبها جزع وينطلق لسانها باسم الله .. وتضحك ليلى وهي تشد الكرسي لتجلس : ليش يالسات هني بروحكن ..
واردفت دون ان تنتظر الجواب : في ناس يتشاورون عليكن .. شكلهن من اهل المعرس ..
وضحكت بعدها لترد كنة : عن نفسي معيفة من العرس .. كان يبون شامة تراها مويودة .
ردت الاخرى : لا والله .. ومن قالج اريد العرس .. الحرية زينة ..
بعيداً عن العيون تُمسك بكوب ماء ترتشف منه قطرات تبل به ريقها الجاف .. وتقف معها احدى صديقاتها في الجامعة .. تشعر بأن الوقت ثقيل .. وإن بجسدها رجفة لا تهدأ .. نظرت اليها لتمسك بكفها : فاتن ما اريد .. قولي لهم ما اريد اتصور ..
تلح بتلك الرغبة مطولا .. حتى اضطرت فاتن ان تتركها لتخبر ليلى عن امرها .. وما هي الا دقائق حتى ولجت هي وكنة تلك الغرفة المنزوية في ركن القاعة الكبيرة .. تجلس على الكرسي بفستانها الابيض المرصغ بالاحجار الامعة .. وبيدها باقة ورد تكسر الابيضاض .. ترفع نظرها للجالسة بجوارها .. لاول مرة لا تضع عدسات تلون عينيها في مناسبة .. تنطق ليلى وهي تمسك بكف مها الباردة : مهوي شو الرمسة اللي قالتها فاتن .. يعني خليناج شوي ورديتي لعنادج ..
- انزين ما اريد اتصور .
تبتسم كنة لها وهي لا تزال واقفة : حبيبتي تراه كل هالخوف الحين باكر ما بيبقى منه شيء ..
نطقت ليلى : هيه والله وكنون الصادقة .. وبعدين الا دقايق وبتعدي .. بتاخذون كم صورة وبس ..
تتسمر الانظار على صوت المرأة الداخلة .. بدينة وفي وجهها بشاشة يخفي معظمها برقعها الامع .. تدنو من مها تقبلها وتبارك لها .. ومن ثم تحثها على الاستعداد لدخول سلطان .. وتبقى هي بمعية والدته تختفي ليلى بمعية ابنة عمها .. وتبدأ طبول تقرع انغاما مختلفة في صدرها ..
تبتسم وهي تراه يدخل بمعية والده .. تشعر بالوحدة فمن سيمسك بيدها يزفها ؟ لا والد ولا شقيق .. استحلتها غيرة من رؤية والديّ سلطان يتحدثان معه ويضحكان .. ويقبلانه قبل خروجهما وبعد التقاط عدة صور معه ومعها .. لربما في هذه اللحظة ترغب بالبكاء وجداً .. ولكن تشعر بان دموعها تعصيها ..
ترتجف من لمساته .. تهتز يدها حين تُجبرها تلك المصورة بأن تلامس كفيه او وجهه .. او حتى كتفه .. تغتصب ابتساماتها بخلافه هو .. تشعر بانه مرتاح .. يطوقها بهدوء .. كهدوء انفاسه على كتفها العاري .. لتنتهي تلك اللحظات بعد ان اضرمت فيها ناراً تصببت كفيها لها عرقاً .. وتُفاجأ بعدها بدقائق معدودة بدخول عمها .. يدنو منها لتقف بعد ان جلست لاعياء اصاب ساقيها .. يقبل رأسها : مبروك يا مها .. وتراج بنت المرحوم الغالي .. ويا بختي يوم ازف بنته عروس لولدي .. وتراني اقولج اذا ابوج مات عمج مويود .. وان ضامج سلطان باخذلج حقج منه ..
أتبكي ؟ .. أتفرح ؟ .. أم ماذا عساها تفعل ؟ .. فضلت ان تقبل رأسه وباناملها المرتجفه تعانق ذراعه .. تمشي معه على انغام اختارتها لها ليلى بعد مجادلات كثيرة .. تصعد الدرجات ومن خلفها شقيقة زوجها الكبرى ترفع ذيل فستانها كلما اعاقها .. لاول مرة في هذا اليوم تشعر براحة تتسلل اليها .. لربما بسبب الرجل الوقور على يسارها وبسبب كلماته التي احست بانها نابعة من قلبه .
,‘،
بكعبها العالي تقف عند مدخل القاعة .. متأنقة وعباءتها الشفافة تُظهر فستانها المزركش .. وفي كفها حقيبة صغيرة .. تقدمت تجول بانظارها على الحضور .. وتبتسم .. ترى نظرات فاتن وبعض الزميلات لها .. لما هي هُنا ؟ .. لم تكترث لهن .. واستمرت بالسير تصعد الدرجات .. تحجب النساء عن ابصارها تلك العروس المزدانة .. حتى ما وصلت وبطرف كفها ربتت على كتف احداهن لتتنحى .. وتفتح لها الطريق .. ترى نظرة مها المندهشة لها .. تنحني تقبل وجنتيها وترتفع ناطقة : مبروك .. بس زعلانه منج .. دعيتي ربايعنا ونسيتيني .. بعدج زعلانه مني ؟
ابتسمت تلك : الله يبارك فيج .. قلتلج الله يسامحج .. وبعدين ظنيت انج سافرتي .. سمعت ان اقامة ابوج التغت .. وانج بتسافرين عقب التخرج ..
تبسمت سوسن .. لترفع كفها اليسار .. تُري مها ظاهره الذي يزين خنصره خاتم الماسي : تملكت .. ع واحد مواطن .. قدر ايدد الاقامة لابوي .. وعرسنا قريب وان شاء الله بدعيج .. ما بسوي شراتج .
ساعات مرت كأنها دهر في بعضها .. وكأنها لمحة بصر في بعضها الاخر .. يلملم الضجيج ذاته .. تخلو الكراسي والطاولات من الاحاديث .. والزوايا شواهد على بقايا صخب .. بقايا حفل مزدحم ... بقايا ضحكات وأمنيات .. وأحاديث مؤجلة .. وهو معها هاديء .. حتى ضحكاته اختفت .. وكأن به ولج الى غرفة يملؤها التوتر .. لا صوت منه يطبطب على قلبها المتوجسس .. ولا نظرة لها تبعد شحنات القلق عنها ..
وأخيراً تتخطى بقدميها عتبة باب غرفتهما .. تقف في منتصفها وظهرها له .. تنزع عنها عباءتها الساترة لعُري فستانها الابيض .. لتلتفت تكلل وجهها ابتسامة يملؤها شيء من خجل .. وشيء من خوف .. وشيء من أمل ..
ليزيد خجلها حين ارتسمت على محياه ابتسامته .. ودنى منها .. يقف قريباً منها لا تفصل بينهما الا خطوة او اقل .. فيزداد تراقص قلبها .. وتزداد تدفق انفاسها .. لينطق : رفعي راسج ..
صوته الاجش الهاديء أرغمها على رفع وجهها .. ويا ليتها لم ترفعه .. تلقاه بصفعة على خدها الايسر .. لتتسمر ناظرة على جانبها اليمين تسمع صوت غير الصوت الذي كان .. وكأنه فحيح وحش ما : سلطان يا مها ما يسكت عن حقه .. ولا ينهان ويقول عادي ..
ليصرخ بها بعدها : طلعي برع الحجرة ..
وبصوت اقل حدة اكمل : اريد ارقد ولا اريدج فيها ..
حين لم يجد منها رداً .. شدها من ذراعها .. ليرمي بها خارجاً .. مغلقاً الباب من خلفها .
,‘،
هُنا اقف واتمنى ان تكون الاحداث بقدر انتظاركم لها ..
نلتقي في الاسبوع القادم إن شاء الله ..
لن احدد يوماً فاعذروني |~