,‘,
الغضب شيطان يتلبسُنا .. يُخسِرُنا .. ويحيلنا الى فوهة ندم لاحقا .. استشعر الغضب لانه اُخذ بجريرة غيره .. هو الانسان العصبي في امور لا عدل فيها انتابته نوبة قوية جعلته ينفجر في شقيقه الاكبر .. وبعد أن هدأ اخذته قدماه اليه .. يقف عند باب دورة المياه ( اكرمكم الله ) المفتوح على مصراعيه .. وذاك يقف يهذب من شعر لحيته المتمرد طولا .. تأخر في الاعتذار يعلم .. حدث ذاك الامر قبل امس .. ومن يومها وهو يحادث زوجته عبر الهاتف يحاول ان يعلم ما جديدها في تلك المناقشات مع والدتها .. عنيدة تلك المرأة .. لم يقوى على البقاء في مواجهتها امسا .. فقط لانه كاد ان ينفجر معلنا طلاق سمية .. فصمت مبتعدا .. ينطق بالدعاء لها عسى ان يشفيها من وصب اصاب عقلها لتردي احدى بناتها الى الفراق المحتم دون وعي منها ..
ابتسم وهو يسند جانبه بجانب الباب : ما تفكر تطولها .. ترى اللي تسويه غلط ..
يقوم بتهذيب اطراف لحيته بعد ان طالت في الايام الماضية .. يحدث شقيقه وقد رفع ذقنه ممسكا بشفرة الحلاقة يرتب الشعر المتعدي على اطراف رقبته : إنه جميل يُحب الجمال ..
يعرف شقيقه جيدا .. يبدأ حديثا وديا يرغب من خلاله بالاعتذار الغير مباشر .. ابتسم وهو يحني جذعه يغدق على وجهه بقبضات من الماء .. وذاك يتحدث : ورسولنا قال " أحفوا الشوارب واعفوا اللحى "
" صدق رسولنا الكريم " .. قالها وهو يجفف وجهه .. يُردف المنشفة مكانها .. ويبتعد مارا من جانب عُمر .. مستطردا : الحكم بهالشيء متفاوت .. بس الحلق التام حرام .. نتشبه بغير المسلمين .. نكون مثل المخنثين والعياذ بالله .. وبعدين شو خانة الريال بدون لحيه ؟ .. قالوها " جمال الريال فلحيته " ..
كان يُخرج له ثوبا ويرميه على سريره .. ومن ثم يبحث عن إزار من بين كومة الملابس .. قطب حاجبيه .. فلا يوجد الا " بلوزاته " هنا .. يشعر بان حياته متلخبطة .. ليتركها بعد ان سحب واحدة متوجها الى جانب آخر من دولابه الكبير .. ليجدها في غير موضعها المعتاد عليه .. ويتمتم بخفوت : منو مرتب الكبت ؟ استغفر الله العظيم ..
في حين كان الاخر يجيبه وهو مستندا بمؤخرته على حافة " التسريحة " .. مكتفا ذراعيه على صدره : بس الرسول والصحابة ما كانوا ياخذون من لحاهم شيء .. فليش ما نكون مثلهم ؟ .. نقتدي فيهم ..
وقف امامه وبيده ملابسه : لكل زمان مقال .. والا ليش كان في الاجماع والقياس من بعد القرآن والسنة .. ورسولك قال " يسروا ولا تعسروا " .. ولا كل من طول لحية فاهم بالدين يا عمر .. والحين صاروا وايدين يظهرون مالا يبطنون ..
راحته تقع على صدر شقيقه : إن ربك ما يشوف صور عباده بقدر ما يشوف اللي فوسط صدورهم ..
تركه ليختفي خلف دورة المياه ( اكرمكم الله ) .. ليبقى هو صامتا .. فارس وهدوءه .. وعقله الذي يحكمه كان دائما المنتصر عليه .. على عصبيته .. وهيجانه السريع .. تحرك ليقبع على طرف السرير .. ينظر للباب الموصد .. سيخرج وسيلقي عليه بما يخفيه صدره .. ربما سيرحم حاله .. ربما سيعود في قراره .. ذاك القرار المشوب بالغموض بالنسبة له ولوالدته ..
انظاره ترتفع لذاك المنهمك في تجفيف شعره بالمنشفة الصغيرة .. ليبتسم على مضض ناطقا : سمية حامل ..
قابله الاخر ببتسامة .. يدنو منه .. ينحني يربت على كتفه : بتردلك .. الصبر زين .. ومبرووك .
بعد ذاك الحديث وذاك اللقاء وذاك الامر الذي اشعره بفرحة قديمة اوجعته لاحقا .. وقف امام باب منزلهم .. يبحث عن امل قد يكون ضاع في خضم الحزن .. يعود يبتسم ظاهرا .. يحادث ذاك المبهوت امامه .. ومن ثم وقبل الولوج : امك مويودة ؟
اتبتغي رجاء بعد اختناق .. ام انه الشوق يجرك دون وعي ؟ .. يقبع هناك يحفه التوتر .. وخشية استوطنته .. ان كان لا شيء مما كان .. فكيف سيكونان ؟ .. وان لا فماذا عن قلبه المتشبع بها ؟ ارتفع بصره متنهدا ..تأخرت .. ربما لا رغبة لها بمقابلته .. ابتسم ناظرا الى الساعة في معصمه .. الوقت يمضي .. والظهر يمشي حثيثا ..
تركه مستأذنا لاخبارها .. طرق على بابها وولج .. رآها تطوي سجادتها منهية ركعتي الضحى .. تأخرت اليوم في آدائها .. ولا يعلم الاسباب .. ابتسم يدنو منها مقبلا رأسها .. فتراه بأعين اكتساها الندم : فارس فالميلس يريد يشوفج ؟
هي مجرمة لم تجد الغفران لنفسها .. فكيف بمن اجرمت في حقهم .. تمنعت .. فلا رغبة لها برؤيته .. وكيف عساها تنظر الى وجهه .. ان كانت حتى الساعة لا تستطيع النظر في عيني ابنها مطولا وهو البعيد عما حدث .. فكيف هم المكتوون بنار سرها القديم ..
وأخيرا تنهدت تخطو مع ابنها الى حيث فارس .. القت عليه بالتحية .. واتبعتها بالسؤال عن الحال .. فعن أي حال تسألين يا ام سالم ؟ ..
حفهم الصمت .. وكأن الالسُن خُرست .. سحب انفاسه ناطقا : خالتي .. بغيت اعرف عن السالفة اللي صارت .. من يومين كانت امي تتحدث وييا وحده من ياراتها ع التيلفون .. سمعتها تقول ان كنه كانت ترضع من المرضعه عاادي .. وكل الحريم فذاك الوقت يأكدن هالشيء .. وتقول انها ما تعرف ليش رضعتها ام عبدالله .. واريد اعرف منج .. هي كانت عندج صح ؟
اندست كفها من تحت " برقعها " تطبق على فيها .. يؤلمها ما حدث .. لم تحسب الامور بهذا الشكل .. كانت تحلم ان يكتنف منزلها كنة زوجة لسالم .. ولكن ما كُل ما يتمناه المرء يدركه .. قالت وكأنها تختصر الاحداث الماضية : هيه كانت ترضع من المرضعة ..
ومن ثم صمتت .. تدرك ان الامور لا تُصدق .. وحتى هي كانت تتمنى ان يكون هناك خطأ ما .. حين تحمل كنة في احشاءها طفلا كان يتوشحُها الامل .. لربما لم تكن اختا لفارس .. لربما هناك لغط ما .. وما ان ينتهي الحمل بالفناء حتى تعود الشكوك تتربص بها وجدا .. قاطع وجومها : خالتي قوليلي اللي تعرفينه ..
ينظر اليه .. يتفرس ملامحه .. فارس اخذ الكثير عنه .. اخذ النظر اليها .. احتضانها .. الحديث معها .. اخذها هي .. ساكنة الصدر والفؤاد .. والآن يأتي آملا في الخطأ ..
لا تحلم بعودتها الى احضانك يا فارس .. فلن تعود .. صدقني لن تعود .. حتى وان كان ثمة خطأ فلن اسمح لك باخذها من جديد .. ستجبر على تركها .. سأجبرك على تركها .. آآه .. ليتني اقوى على ذلك .. ليتني احتويها يوما .. اغدق عليها حبي لها .. المترسب سنوات طوال في نفسي ..
التفت الى والدته حين نطقت : ما شاء الله عليها .. كانت هادية .. شمسة ما تحاتيها لانها مب دوم ترضع من صدرها .. تساعدها بالنيدو .. يومها بيتكم كان متروس من الحريم .. وشمسة وانا كنا نساعد امك فالاكل .. ومخليه بنتها عند الحريم فالميلس .. وموصيه عليها ام جابر الله يرحمها .. تغيب عنها بالساعات وهن عيالهن ما يفكوهن ساعة وحدة ..
رفعت نظرها له مستطردة : والعين حق .. مب بعيده يومها صابنها بعين .. يوم خذتها عندي .. كل ما اقرب منها المرضعة تنفرها .. ما قدرت عليها تسكت .. وبو سالم ما يداني الحشرة .. يومها خذتها لام عبدالله تساعدني .. قلت لها البنت ما ادري شو بلاها مب مقبلة ع المرضعة .. ويزاها الله خير .. دخنتها بشبه ورضعتها من صدرها ..
مسحت دمعة غافلتها.. لتكمل : كنا صغار .. ما بعدنا وصلنا العشرين .. كان خوفنا من الطلاق مثل خوفنا من الموت .. ما نحسب حساب للي نسويه .. دسينا اللي صار بينا .. كان بو سالم يسألني وين البنت .. وكنت اكذب واقوله راقدة .. وام عبدالله ما خبرت حد .. قلت لها لا تخبر حد والا شمسة بتروح فيها .. بقت عند ام عبدالله اليومين اللي تِرَقَد فيهن شبيب فالدختر ..
بعد حين ارتفع واقفا .. مودعا المكان .. هنا انتهى الامل الذي كان .. ابتسم ساحبا انفاسه .. متمتما بالحمد لربه .. يخالجه هدوء غريب .. هل هو الرضا بما قدمه الله ؟ .. لا ينكر انه كان ساخطا .. تحثه نفسه لانهاءها .. ولكن عاد لصواب .. يدرك ان رب العباد اعلم بمصلحة عباده .. وهو يثق بان ربه لن يتركه يوما ما دام متمسك به .
,‘,
ارتفعت من انحناءها على حوض " المغسلة " .. ووجهها غارق بقطرات الماء .. بالامس فقط ادت مناسك العمرة مع شبيب .. كانت متعبة في يومها الاول .. مرهقة وخائفة بعض الشيء .. وهناك فرح استوطنها ليلا في اول يوم لهما في مكة .. ابتسمت وهي ترى وجهها في المرآة .. تذكر حين ارادت تقبيل الحجر الاسود .. عنيدة بفعلها لتجبر شبيب بان يكون لها كدرع حامي من الزحام الذي كان .. تذكر انعقاد حاجبيه كلما دفعه احدهم مزاحما .. مع ان الامر غير واجب وخاصة في وقت تزاحمت به الاجساد .. ولكنها ارادت ونالت ما ارادت ..
خرجت من دورة المياه ( اكرمكم الله ) .. ستقرأ القرآن حتى موعد صلاة العصر .. وبعدها ستخرج مع شبيب للصلاة في الحرم ..
لا تزال صورة وجهها المكتسي بفرحة رؤية الكعبة مطبوعة في عينيه .. حينها شقت الابتسامة وجهه .. رآها مختلفة عن الايام الراحلة في العذاب .. واليوم هو يعلم بان ما في قلبها لن يزول اثره بين ليلة وضحاها .. خرج هو الاخر من دورة المياه ( اكرمكم الله ) وقد نفض عنه كسل قيلولة ما بعد الظهر .. هو ايضا يرى نفسه مختلفا .. اجبر عقله ان لا يفكر في احداث عالقة هناك حيثُ أهله .. هو هُنا لنفسه ولكنة فقط .. ولعبادة تشرح صدريهما .
تحرك نحو هاتفه المعلن عن وصول مكالمة .. يشده من جانب السرير ويردفه على اذنه : وعليكم السلام .. هلا والله بشيوم ؟ اخبارج واخبار اميه العودة واميه .. وهاشل وخالي .. عساكم بخير ؟
ليغرق في ضحكة قصيرة وهو يسمع صوت تلك الصغيرة بجانب شامة : شو بلاها كلثوم ؟
تنهدت وهي تزجر كلثم لتجلس بهدوء : ترا عشانها الاتصال ... والا حد يتصل بحد هالحزة .. وقت رقاد ..
" خبريه " .. قالتها كلثم وهي تترك مكانه على السرير وتقف امام شامة .. لتشد الاخرى شفتيها : شبيب الحين كلثم بالمدرسة والا بالروضة ؟ .. امس خالي خذ هاشل يتشرى للمدرسة ومن شافته كلثوم وهي تقول انا بعد اروح المدرسة .
قطب جبينه دافعا بجذعه للامام قليلا : والله ما عندي خبر ..
سحبت الهاتف من شامة لتجري وتقف بجانب الباب : كلثوم يبي الفون ..
لتنطق الصغيرة بسرعة : شبشب .. والله اروح المدرسة وييا مريوم .. صف اول ..
- كلثوم فديتج .. يمكن روضة مب صف اول .
" لا " .. نطقتها وهي تنظر لشامة المتكتفة امامها : الروضة ما علمونا آي بي سي دي ..
اخذت تهز برأسها وهناك ابتسامة لا تفارقها .. وشامة تنظر اليها .. مؤكد يخبرها بأمور كثيرة كعادته .. عن عودته وعن هدايا سيجلبها لها .. مدت الهاتف : شبشب يباج .
وبعدها خرجت من الغرفة .. لتقف تلك مستندة بظهرها على جدار غرفتها بجانب الباب : هلا شبيب ..
- سالفة كلثم بخلي جابر يتأكد من المدارس القريبة من بيت خالها .. الظاهر احنا مخبصين بعمرها .. ولا اظن انها بتكذب بس عشان تشترون لها مثل هاشل ..
لفها السكون لبرهة ليردد هو اسمها سائلا اياها ان كانت تسمعه : بياخذونها ؟
سحب انفاسه وهو يرى كنة تدخل عليه غرفته وتجلس بمقربة منه على الكنب الطويل .. ابتسم مجيبا الاخرى : احسن دامني بعيد .. المهم بخبر جابر وهو بيعرف كيف يتأكد .. واذا هي صف اول فمحتاية ملابس ...
على مضض رسمت ابتسامة : ولا يهمك بنتكفل بالموضوع .. وبعدين كنون ليش مب ماخذه فونها وياها .. ولا تريد ترد علينا من فونك ؟ شكلها الا تكبرت ..
تبتعد عن موضوع كلثم .. هاربة خلف موضوع آخر .. تثرثر بسخط ليقهقه هو على عصبيتها الزائفة .. ومن ثم تنتهي المحادثة .. لينظر لكنة الناطقة : بيبدا الفصل الثاني ؟
" هيه " .. قالها واردف : عتبانين عليج .. صح ان اخبارج توصلهم مني بس سماع صوتج غير ..
ولتنهي الحديث : ما بقى شيء ع صلاة العصر ..
وقف : صلي هني .. انا عندي مشوار عقب الصلاة ..
- بترياك فالحرم .. بصلي وبيلس اقرا قرآن .. في واايد حريم اشوفهن ايلسن هناك بالساعات .. عاادي بيلس وياهن .. بس لا تخليني هني بروحي .. والله يضيق صدري ..
ارتفع حاجبه .. وانامله تداعب انفها : تراج صايرة دلوعة ..
ابتسمت : شفيها ؟.. اتدلع ع اخوي مب ع حد غريب ..
لتدبر مردفة : بروح البس عباتي ..
تنهد يحرك ساقيه .. ويلتقط هاتفه الاخر .. سيتركه معها في حال احتاجت له .. فلا يستطيع ان يأمن المكان حتى وإن كان في بيت الله ..
يمشي معها و بين الفينة والاخرى يختلس النظر لوجهها .. سبحان الله .. وكأن دعاءها في إناء الليل أُستجيب .. لتتوشحها ملامح الهدوء والسكينة وجدا .. وبوادر فرح وابتسام وضحكات قصيرة تراودها كُل حين ..
,‘,
يــتــبــع |~