تهادت الشمس باشعتها نحو الغرب .. لتغييب منذ دقائق قد تصل الى الساعة .. ليترجل هو من سيارته .. وقد التقف " شماغه " بيده اليسار .. وسماعة هاتفه قد تدلت على صدره .. ليمشي في ذاك الممر بالقرميد الملون : اسمع لو تقدر بس تنقلني من هالمكان بكون شاكر لك – قهقه – كفو والله .. وهذا العشم يا بوجسيم ..
يده ترتفع لتردف ما بها على كتفه : ما تقصر والله .. بس ضروري خلال هالاسبوع تكفى ..
انتهى الحديث لتنتهي حركة اقدامه عند عتبة الصالة بعد حين .. ينظر الى والده ووالدته التي بدا عليها التوتر من نبرتها : حياك .. ابوك يبيك فموضوع .
رمى بنفسه على الكنب في الجهة المقابلة لوالده .. وتلك تنهدت وهي بين الاثنين على الكنب الطويل في صدر الصالة الواسعة .. ليقف نظرها على بعلها : سلطان .. مب ناوي اطيح اللي فراسك .. البنت ما لها نية فيك .. وتراني مفتشل من بو خالد للحين بسبب سواياك .. الريال ما قصر واحتوى بنت اخوي الله يرحمه فبيته ولا يوم يانا يقول هذي بنتكم وانتوا احق فيها ..
" ياليته قال " .. نطقها وهو يستقيم بجذعه ويردف : ع الاقل بتكون بينا .. بيربيها عمي والا انت .. مب الحين شايفه عمرها علينا ..
- دامها مب عايبتنك شو بلاك ع هالرمسة اللي ما بتنفعك ولا بتنفعها .. انت تباها وهي ما تباك ..
استدار بوجهه ناحية والدته التي نطقت : شوف يا ولدي البنات وايد وكل وحدة احلى من الثانية .. اخت حرمة اخوك اخلاق وجمال واد....
وقف مقاطعا لها : لا ياميه .. غير مها مب ماخذ .. وصبروا شهر او اثنين وصدقوني بتوافق .. بخاطركم .
ترك المكان تحت حوقلات والده : هذا شو بلاه .. حشا مب ولدي سلطان اللي اعرفه .. هكم اخوانه معرسين وعايشين .. ما قالولنا يوم لا .. ولا خالفوا شورنا ..
" هذي بلاد برع واللي تسويه فعيالنا " قالتها لتردف : قلتلك لا توافق يدرس برع بس ما سمعت الشور ..
وقف وقد فاض به الغضب : عيال الناس راحوا وتغربوا بالسنين وردوا ما غيرتهم اراضي الغرب . بس ولدج هذا فيه بطره ( دلع ) .. وانا غسلت ايدي منه .. يسوي اللي يباه ..
ابتعد عنهما وهو يدندن بكلمات احدى الاغنيات الاماراتية .. ويبتسم حين وصلت حوقلات والده الى مسامعه .. كان يصعد السلالم وافكار تجتاحه .. وخطط عليه ان ينفذها كيف يشتهي هو .. لا كيف يشتهي والديه .. فتح باب غرفته ليلج .. زفر وعيونه قد شخصت .. هو ليس سلطان الذي كان .. وهي كسرت الكثير من الخصال الجميلة التي كانت فيه .. منذ الصغر وهو يسمع والدته وزوجات اعمامه يتحدثن عنها .. وحين كبر قل الحديث الا من بضع جمل كانت كفيلة ان تعيد له وجهها الطفولي الذي عرفه .. رمى بثوبه دون اكتراث وهو يسحب له منشفة قد علقت قريبا من الدولاب .. ليطوي المسافة الفاصلة بين وقفته وباب دورة المياه ( اكرمكم الله ) .. تنهد وهو يخلل اصابعه في شعره الطويل الاجعد .. نظر الى انعكاسه في المرآة .. ليعصف بخصلاته بعنف : انا تتفلين فويهي يا بنت عمي ..
تشدق ليردف : مقبوله منج .. مقبولة ..
,‘,
نقبل بالكثير في حياتنا حتى لو لم يكن هناك قبول بين جنبات روحنا .. شيء ما في داخلها يرفض التحكم الذي تعيشه .. عليها ان تستمع لهم فقط لانهم يعرفون اين مصلحتها .. وهل كانت مصلحتها معه حين عبثوا بعقلها حتى وافقت ؟ .. هل كان في مصلحتها ان يسحبوها متهمة الى حيث لا ترغب ؟ .. هدوء يصيبها بكآبة لا تعيها .. اُجبرت من جديد ان تعود الى هذا الكرسي .. وان تقابل تلك المتبرجة القابعة امامها .. ليست كبيرة في السن .. لربما من عمر حارب .. اذا فهو يعرفها منذ زمن .. فلماذا لم يتزوجها هي وتركني ؟
كان لذلك السؤال الذي باغتها أثر على حاجبيها لينعقدان .. وتلك تبتسم هادئة .. رفعت نظرها لساعة التي تصرخ في المكان بصوت عقاربها .. ربع ساعة وهي صامتة لا ترغب بالحديث .. وهي لن تجبرها على شيء .. ستعطيها خمس دقائق أُخرى ..
تنهدت بخفوت لتقف وقد حشرت جسدها في بلوزة ضيقة وتنورة " جينز " لا تقل ضيقا عنها .. استدارت عن مكتبها لتخطو خطوات نحو تلك المتسمرة.. وتجلس على مقربة منها .. بان الامتعاض على وجه شامة .. لتشد على مسكة كفيها لبعضهما .. ورائحة العطر سببت لها ضيق نفس .. او لعله قرب تلك الطبيبة الشابة منها .. ابتسمت : شامة .. صارلنا ثلث ساعة يالسين بدون ولا كلمة .. وحتى الجلستين اللي قبل ما قلتي فيهن اي شيء .. حبيبتي لازم تثقين فيني ..
" خليني اثق بنفسي بالاول بعدين طالبيني اثق بالغرب " .. ابتسمت وهي تسمعها تنطق بما قالت .. لا يهم ما قد تتفوه به .. ما يهمها هي ان تتحدث .. ان تفضفض بما يعتمل بين اضلعها .. رأت توترها بعد ان قذفت بتلك الجملة دون وعي منها .. لعلها كانت تفضل ان تبقى صامته حتى تمل هي منها .. ولكن لسانها كسر صمودها في حين غفلة من عقلها .. نطقت بهدوء : لهالدرجة حتى ما عندج ثقة بنفسج .. ليش ؟ ..
كُنت صامتا .. اخرس .. فلماذا نطقت يا لساني ؟ لماذا فتحت لي ابواب لا اريدها ان تفتح ؟ كُنت والصمت رفيقان اياما مضت في حضرتها .. فلما الآن تخون عهد الرفقة .. وتدفعني ثمن نقض المعاهدة ؟ .. لا ارغب بالحديث يا هذه .. فانتِ لا تروقين لي .. هيئتك تثير في نفسي رغبة بالتقيء .. تذكريني بالكثير من آهات روحي .. فأنتِ تعرفينه .. وهو قد اشاد بكِ لاكون بين كفيكِ مريضة .. ولكنني لستُ بمجنونة .. لستُ كذلك ؟
لا اجابة منها .. سوى الصمت من جديد .. لتكسر تلك هذا الحاجز مجددا : انزين ليش ما ترتاحين وتعقين عباتج وشيلتج .. ترا المكتب محد بيدخله الين تخلص الساعة .. واذا حد دخله فاكيد ما بيكون ريال ..
شعور بان هناك على صدرها يقبع وزنا كجبل كبير .. يجعلها تتنفس بقسوة .. وكفاها يتعرقان دون هوادة .. تريد ان تبعده .. ان ترميه حتى يتهدم ويتفتت فيتبعثر بهواء زفراتها .. شدت شفتيها بابتسامة سريعة مغتصبة .. وطأطأت نظراها الى تلاحم كفيها .. لتفتح ثغرها بصوت خافت بالكاد تسمعه تلك : من يوم وانا صغيرة مالي راي فشيء .. حتى يوم دخلت الثانوية كنت اسألهم شو اختار .. الكل قالي علمي لاني شاطرة فيه .. ودخلته .. حتى ملابسي ما اقدر اقرر اذا يناسبني او لا .. لازم تكون كنه وياي واسئلها هذا حلو .. هذا بيناسبني .. والا اخذ هذاك .. شو رايج فهذا ..
صمتت تبتلع غصة ماضي تتكالب عليها في هذه اللحظة .. لتردف بحزن عميق : ابويه الله يرحمه كان واايد مدلعني .. وامي كانت تضايق من هالشيء .. حتى خواني كنت احس انهم يتضايقون ..
تتعثر في حديثها .. عن اشياء لا تعرف الرابط بينها .. فقط انها هي كانت هناك .. في خضم تلك الايام المولية : يوم تقدم لي حارب .. ما قلت رايي .. كانوا يمدحون فيه كلهم .. قالولي ما بتحصلين ريال احسن عنه ..
تقوست شفتيها معلنة لدموعها الانسكاب : ما احبهم .. خالي منذر وحارب وحتى شبيب ما احبهم ..
- معقولة ما تحبين اخوج .. وحتى خالج ؟
التفتت اليها وكأنها افاقت من سُكرٍ اصابها : حتى انتي ما احبج .. لانج تسوين اللي تسويه عشان مصلحتج .. كلكم تدورون مصلحتكم .. محد يفكر فمصلحتي ..
انحنت تسحب لها مناديل ورقية من الصندوق المزين بالكرستال القابع على تلك الطاولة امامها .. لتمسح دموعها وانفها المحمر .. وتعود للصمت من جديد .. حتى في سيارته كانت صامتة .. يسمع تنفسها المضطرب و شهقات خافتة تباغتها بين الفينة والفينة .. ادار " الراديو " على احد البرامج .. واغنيات تحت الطلب تعود بين فترة واخرى .. وهي فقط صامتة .. تنهد ليغلقه .. الهدوء افضل .. ليبتسم وهو يلتفت على يساره يتأكد من خلو الاتجاه من السيارات ..وينطلق وهو يسألها : كيف كانت اليلسه اليوم ؟ ..
- الشيء اللي تنجبر عليه ما يكون له طعم .
عدوانية في حديثها معه .. يدرك انها لا تزال غاضبة رغم اعتذاره لها .. لن يلقي باللوم والعتب عليها .. بل سيحمل كل ذلك وسيلقيه على عاتقه .. هي لم تكن هكذا .. وبهذا الانكسار .. أيعقل ان كل ما فيها بسبب ذاك الطلاق .. وبسبب ذاك الكف الذي تلقته منه في لحظة غضب ؟ ..
توقفت السيارة اخيرا في ساحة منزلهما .. لم تتحرك .. وكأن هناك كلمات متمردة تحاول تثبيطها ولا تقوى .. ينظر اليها بتساءل : وصلنا فديتج .
بلعت ريقها وهي تشد بقبضتيها على عباءتها .. كطفلة صغيرة ستنفجر باكية بعد ثوان .. ريقها جاف يجرحها حين تجرُعه : خالي يوم صار اللي صار ..
لا تعلم لماذا تريد ان تقول له .. لترغب بان ياخذ حقها من ذاك المنذر ؟ ام انها تود انتقام لا تعيه ؟ .. اردفت وهي تنظر الى وجهه المتجهم : خذني العيادة عشان يكشفون علي ..
اهتز فكها .. لتشهق بألم لروحه : حسسني اني رخيصة ..
مسحت انفها بظاهر كفها .. لترفع نظرها الذي تخاذل عن النظر لوجهه لثواني .. هادئ .. لم تتوقع هذا الهدوء الغريب منه .. ابتسمت .. فمن تكون هي ليهتاج غضبا لاجلها .. يدها تعانق مقبض الباب .. تفتحه وتنطق : ظنيت انك بتهتم ..
وقبل ان تترجل اذا بقبضته تمسك رسغها : ليش ما خبرتيني فوقتها ؟ ليش الحين يايه تقولين هالشيء ..
أتسألني لماذا تأخرت ؟ لما لا تطرح السؤال على نفسك ؟ .. التفتت له : لان محد اهتم .. وعمركم ما بتهتمون ..
سحبت نفسها بعنف منه .. لتترجل وتهرول لداخل المنزل .. وخلفها باب لم يوصد .. وقلب يغلي بدماءه .. فذاك المنذر بفعلته اهان تربية والده .. اهانه هو .. حين ظن السوء بشقيقته .. ترجل اغلق بابه وتوجه لبابها .. ليبتعد بخطواته الى المنزل .. بالاحرى الى غرفة خاله .. ليطرق الباب ويلج حين لم يجد ردا .. ويقبع بعدها على ذاك الكرسي الخشبي ذو القاعدة الاسفنجية .. وتبدأ ساقه باهتزاز يحاول به ان يسطر افكاره ويرتبها .. حتى وان كان اخطأ سيبقى خاله الذي يكبره ببضع سنوات .. ويبقى الاحترام من حقه عليه ..