,‘,
الجو غائم .. فهناك بعض السحب السوداء التي تبشر بهطول زخات من الامطار .. سوداء بسواد الاجواء التي تحيط بعيسى بعد سماعه من ايمان بوجود خولة في المنزل .. تذمر وهو يحتسي كوب شاي .. بعد وجبة الغداء الدسمة التي تناولها .. استنكرها في باديء الامر .. فايمان لا تجيد الطهو بمثل هذه الجودة ..وحين سأل لم تجبه عن من قام بالطهو .. مع انه تمنى لو تعود خولة معهم ليتذوق الطعام الذي كانت تعده باتقان تام .. كالطعام الذي كان بين يديه .. وبعد ان القت على مسامعه وجود خولة في المنزل .. ايقن بان تلك الوجبة التي تناولها بمعية اخته ايمان من صنع يديها ..
كانت تنظر اليه بتوتر وهو يرشف من ذاك الكأس الشفاف الذي لم يتبقى في جوفه الا القليل من الشاي الاحمر قليل السكر .. كانت ملامحه ساكنه برغم غضبه الذي كان حين سماع الخبر .. ارتشف آخر قطرة .. وهو يضع الكوب من يده تحت انظار ايمان : ما اريد اشوفها خير شر .
بعدها قام واقفا .. فقامت هي معه ..حتى اضحت امامه .. وبنبرة يشوبها التوتر : بس اذا عرفت ؟
نظر اليها وبحزم قاطع : واذا عرفت .. انتي ما سويتي شيء غلط .. ولا انا سويت شيء غلط .
سحب " طاقيته " عن رأسه وهو متوجها لغرفته .. احس باغلاق الباب .. فادرك انها كانت تستمع لهم .. ولعلها كانت تنظر اليه .. يعلم بانها تحبه كما يحبها .. فطيبتها احتوته سنوات طوال .. ولكنه عنيد .. فتلك الصفة ورثها من جده والد والده .. كان عنيدا لا يثنيه شيئا عن قرار اتخذه .. دخل الى غرفته الصغيرة .. حث الخطى نحو دولابه الصغير ذو البابين .. لينتزع له ثوب نوم مريح .. لعله يغفو قليلا بعد عناء يوم شاق في العمل ..
القى بجسده البدين بعض الشيء على ذاك السرير .. واضعا ذراعه اليمين على جبهته قريبا من عينيه ..يوقن اشد الايقان بانها لن تخرج .. لانه يعلم بانها تحترم قراراته حتى لو كانت ضدها هي .. جفونه لا تريد ان تحتظن عينيه .. فعقله ذاك يسلطهم على عدم النوم .. هو مشتاق لها .. يتمنى ان تدخل عليه .. فتخيلها تفتح الباب على مصراعيه هاجمة عليه .. تصرخ في وجهه بان ما يفعله خطأ .. وبأن حياتها مع جاسم كما كانت تتمنى .. ابتسم على خياله ذاك .. فهو مستحيل ..
انقلب على يساره لعله يجد النوم الذي يطلبه .. اما هي فتداركت دمعة قبل ان تجرح وجنتها .. مسحتها بسبابتها .. ثم مدت ذراعها للوراء حيث تقبع " الكوميدينة " على الجهة الاخرى من السرير .. فهاتفها ذاك قد يكون المنقذ لها .. الهاتف مغلق او خارج نطاق الخدمة .. ترددت كثيرا على مسامعها ..فاحتظنته بكفيها بين فخذيها .. تشد عليه وكأنها بذاك الفعل تشد على قلبها .. لا تشعر بالراحة .. فهي في سجن .. وعيسى هو السجان ..
مرت الدقائق وهي على حالها من الجلوس .. تتساءل عن ذاك الحديث الذي سمعته .. ماذا يقصدان ؟ وعن اي خطأ يتحدثان ؟..
اعتقت الهاتف من كفيها .. واذا بها تجلس على ركبتيها .. وتلك حقيبتها لا تزال الملابس مطوية فيها .. فتحتها واذا بها تبحث عن مستودع مشاعرها .. عن ذاك الدفتر الذي هجرته مدة لا بأس بها .. وهاهي تعود إليه .. تتصفح الاوراق .. تضحك على اول كتاباتها فيه .. وتبتسم على ذكرى ايام تلك السطور .. اصابعها تقلب تلك الاوراق الملطخة بالحبر .. حتى صارت قاب قوسين من آخر ما خطه قلمها :
ولكن الاكيد انني اصبحت اشتاق له .
اشعر انه يحبني ..وكم اتمنى ان ادخل الى قلبه واتأكد .
اتمنى معرفة سبب ذاك التحول .. هل اخطأت بحقه دون قصد مني ..
ام ان هذه شخصيته التي لا اعرفها .
اغلقت الدفتر بعد تأملها تلك الحروف .. واذا بها تحتظنه لتترك لتلك الليلة ان تعبث بها .. وتبعدها عن المكان .. تلك الليلة المغايرة في حياتها .. كانت يومها سعيدة .. تعرفت على بعض النسوة هناك .. يبدو انهن من اهل جاسم .. ابتسامتها لم تكد تفارقها حتى تعود اليها .. الجو مليء بالاغاني .. وفتيات يرقصن .. والكثير من الفاتنات في تلك الحفلة التي كانت عالما مختلفا لها .. متوترة لان هناك من يرقبها بنظرات قاسية .. على تلك الطاولة القريبة من منصة العرسان .. ترفع نظرها دقائق اذا بها تحدق بها .. امرأة بفستان راقي جدا .. ذا لون احمر .. كدماءها التي باتت تغلي في عروقها .. هل هي اخت جاسم .. ام لعلها قريبته .. رن هاتفها .. سحبته من على الطاولة .. فهناك من سيريح قلبها .. جاسم يتصل بها .. الاصوات عاليه وبالكاد تستطيع سماعه .. قامت على عجل تحمل حقيبتها الصغيرة مستطيلة الشكل بكفها مع هاتفها .. ولا تزال تلك النظرات تتبعها ..
كان هناك ينتظرها .. سيعودان الى المنزل .. يلفها استغراب.. ووجه جاسم المتغير يثير في نفسها الخوف .. لم تتكلم بعد ذاك السؤال الذي طرحته .. ولم تجد عليه جوابا : ليش تبانا نرد والعرس بعده باوله ؟
ترجلا .. فمشى ومشت خلفه .. هدوء قاتل يسيطر على المكان .. دلفا الى المنزل .. وما هي الا لحظات حتى انقض عليهم بكلامه .. توقفت هي قبل ان تصعد السلالم .. اما جاسم فقد هب من على مقعده بفزع : انت لاحقني لهني ؟
اقترب منه بغيض : اسمع يا جويسم .. تعرس .. تطلق ما يعنيني .. بس انك تزفها وياك لحفلة بنتي ما ارضى .. عمرك ما سويتها مع وحدة من حريمك .. ليش هذي
وهو يؤشر لها بسبابته .. حتى احست بتلك الاصبع تخترقها .. ازدردت ريقها ونظرت لجاسم بخوف .. الذي تقدم اكثر لوالده .. ومن بين اسنانه : سمعتني كلام فالعرس وسكتت .. بس انك اتي هني وتزيد فما اسمحلك .
- وتسمح لها هي .. اللي لا من ثوبنا ولا من مستوانا تخالطنا ..
شدت قبضتها اليمنى حتى غارت اظافرها في باطنها .. لم تشعر بالالم .. فهناك الم اكبر ينساب اليها عبر آذانها .. سياط يجلدها بها من يقال عنه عمها .. ارادت الانسحاب ولكن قدماها تسمرت حتى باتت لا تقوى على تحريك ساقيها .. صرخة منه قبل ان يخرج : اذا تحبها يا جاسم .. فتحمل كل اللي بييك وبيها ..
وبعدها غادر .. كلام كثير قيل لم تعيه .. بل انها لم تسمعه .. وذاك المتسمر امامها يبدو عليه الغضب .. فانفاسه تكاد تصل اليها .. اغمض عينيه ليرفع رأسه قليلا .. زافرا انفاسه دون رحمة .. ليلتفت بعدها لتلك الواقفة دون حراك .. وذاك السائل الثخين مل المكوث في راحتها لينزلق على عباءتها مختفيا في سوادها .. اقترب منها ماسكا رسغها .. نافضا قبضتها : مينونه .
واذا به يجرها .. يجلسها هناك كدمية بلا روح .. كانت تنظر لكفها المضرجة بالدماء في راحة كفه .. يطببها .. ويتمتم بكلمات احست بهن حبه : ما عليج من كلامه .. ولا اريدج تكونين ضعيفه .. انتي دخلتي عالم جاسم اللي ما يرحم – رفع نظره لها بعد ان ضمد جرحها – لازم ما تتأثرين بكم كلمة تنقال .. فعبد العزيز واهله اللي يقولون انهم اهلي ما يرحمون .
الله اكبر .. الله اكبر .. ايقضها اذان العصر من تلك الذكرى .. تريد ان تستوعب ما حدث .. او تتذكر ما قيل بين الكلام .. لكنها لا تستطيع ..وكأن ذاكرتها مسحت .. لا تذكر الا اول الكلام وآخره .. وكلام جاسم الذي لم تفهمه حتى الساعة .. كل ما تدركه ان جاسم تغير بعدها .. ابتسمت وهي تضع دفترها على الارض لتحمل تلك العلبة الصغيرة .. هناك تقبع هديته لها .. هنا روحه .. لا تزال معها ..
,‘,
كما لا تزال تلك الاوراق في حوزة فاطمة حتى اليوم .. كان بالامس واقفا امامها يرمي بها في يدها .. ويبتعد .. تتأمل رقم هاتفه .. سهل الحفظ .. اربعة ارقام تكرربعضها بشكل لا ينسى .. رمت بكل شيء من يدها .. وقامت لتخرج من غرفتها .. لكن سرعان ما عادت لتجلس على السرير وتسحب هاتفها .. الوقت مبكر .. ولكن لا بأس من الاتصال به .. بلعت ريقها وقلبها يقرع طبول قلق اتضحت في انفاسها .. عليها ان تنهي كل شيء .. كومت الارقام امامها على تلك الشاشة واذا بها تضغط على زر الاتصال .. يرن ..
مر الوقت ولكن لا من مجيب .. فزفرت بخيبة امل : يا ربي .. يعني لازم هالمواقف المحرجة .. امس ياللا ياللا قدرت اسيطر ع عمري وانا مقابلتنه .. بس الحمد لله كل شيء صار اوكي – نظرت لهاتفها واعادت الاتصال – والحين لازم انهي هالموضوع .
هناك كان واقفا في خارج تلك الغرفة التي يصرخ فيها جهاز القلب بصرخات منتظمة .. وهاتفه يحتظنه ذاك الكرسي الذي تعب من اهتزازه المستمر في حجره ..يبدو عليه التعب .. فمنذ الامس لم يبارح المستشفى دقيقة واحدة .. لا يزال ابنه في حالة غير مستقرة .. فقلبه ضعيف لا يتحمل ما تدفق اليه من دواء .. مستندا على الجدار ومربعا ذراعيه على صدره .. يتحدث مع حمد صديقه القريب جدا منه : الحمد لله انها يت على جذي .
- الحمد لله .. وبعد لا تلومها الدوا يديد .. وكتابة الدخاتر الصراحة ما تنقرا تقول تنبير دياي ( حركة ارجل الدجاج على الارض عندما تبحث عن الطعام)
ضحك على كلام حمد .. ليردف الاخر : هيه جذي اضحك .. ومحمد ان شاء الله ما عليه الا العافية .. انزين شو رايك تروح البيت تتسبح وترتاح .
اعتق الجدار من ظهره .. كما اعتق صدره من ذراعيه : لا يا حمد .. ما اقدر اخليه .. انت تدري انه ما يحب يشوف حد غريب .. وجودي يمه مهم .. فاي وقت بيقوم – وضع يده على كتف صاحبه – اريدك تخطف ع البيت وتيبلي ملابس .. لي ولمحمد .. انا كلمت الوالده وقلت لها تجهزهن .
تركه حمد .. ليعود الى محمد .. يتحسس جبينه بيده .. ويطبع قبلة ابوية حانية على جبينه .. الهاتف تعب من الرنين وعاد ليرن من جديد .. دون صوت سوى صوت ذاك الاهتزاز .. الذي جعل سعود يخطفه بسرعة ويخرج من الغرفة .. الرقم ليس معروفا .. رد .. واذا بصوتها المرتجف يلقي التحية على مسامعه .. وبعدها تتلوه بالسؤال ان كان من معها هو سعود .. ليجيبها : هيه نعم .. منو وياي ..
بتوتر واضح قالت .. وهي تلف سماعة هاتفها على اصبعها وتعيد فكها مرارا : انا اللي صدمتها امس .. شوف اخوي انا للحين ما علمت اهلي .. والصراحة مالي خلق سين وجيم منهم .. والسيارة مب طايعين يصلحوها الا بورقة من الشرطة ..
وتتابع التذمر من قبلها .. شد اعلى انفه باصبعيه .. وهي لا تزال تتحدث .. تخرج من موضوع السيارة لموضوع ما يخصه وكيف ستعيده له .. وترجع وتسأل ماذا عليها ان تفعل .. حتى بدى الانزعاج منها على ملامحه .. فكلما هم بالكلام قاطعته .. حتى فاض به الغضب صارخا : ممكن تسمعيني .
وضعت اطراف اصابعها على فيها .. وكأنها استوعبت اخيرا انها كالراديو اذا تحدث لا يخرس ..ليأتيها صوته مطمأنا لهواجسها .. وبأنه سيتدبر كل شيء .. اما عن ما يخصه فلا بد للقاء .. وانتهت المكالمة على اتفاق الطرفين بالاتصال مرة اخرى لتحديد موعدا بينهما وانهاء كل شيء ..
في خضم كل ما حدث معه .. نسى امر زوجة المستقبل التي كان اللقاء بها بالامس ليلا .. فعقله تبرمج فقط ليكون مع محمد لا غير .. وتلك التي انتظرته حتى الساعة العاشرة ليلا بتوتر مستفحل .. لم يتذكرها .. حتى والدته نست امرها وامر ذاك اللقاء الذي شرعه الله ..
قامت بكسل عند الساعة الحادية عشر .. فهي لم تنم .. فلعلهم لا يرغبون بها ويتهربون من اتمام كل شيء .. فما كان منها الا البكاء حتى اصبحت عيناها حمراء منتفخة .. وقفت امام مرآتها .. تنظر لملامح وجهها .. وهناك نظرة كره قد استوطنتها .. وكان لا بد من الكلام .. خرجت لتنفجر في وجه والدتها واخواتها الصغار .. بعد ان اخبرتها والدتها سبب عدم مجيئهم .. لتنفجر بغضب : مب قاتله عمري عليه .. اول قلتوا انه راح دوره .. والحين ييا دور ولده .. من زينه يعني ايلس اترياه .. خلوه يولي ..
- استغفر الله العظيم شو بلاج .. الريال معذور ..
- لا مب معذور .. انا مب لعبة فايدهم .. خاطبيني وللحين حتى ما شفته ولا شافني .. وبعدين .. يعني كل مرة بيطلعلي بعذر ..
- ابوج يمدحهم .. والريال والنعم فيه ..
-ما يهمني – وعادت ادراجها ثم التفتت لتردف – ولا باخذه الا بشروطي .. خبري ابوي ان عندي شروط .. والا النسب يتعذرهم .. مب مجبورة اعرس واخذه .
,‘,
Continue