,‘،
حقد من نوع آخر يتغلغل في ثنايا ذاك الجسد الموجود وغير موجود في آن واحد .. صحن الالمنيوم وبه الارز .. و قطعة من السمك قد غار نصفها تحت كومة الحبات المتناثر بعضها على تلك الطاولة قصيرة الارجل .. وعلبة " بيبسي" فرغة من سائلها لتنام على الخشب المصقول .. وصحن آخر تقبع فيه بعض قطع الخضروات .. وليمونة قد امتصت بعنف .. لتحال كوجه عجوز كسته التجاعيد .. وهاتف " آيفون" رمي على ذاك الكرسي الوثير بعد ان اخرس منذ الامس عن الكلام .. وقناة "حواس" تصدح بالاغنيات .. اغنية تلو الاخرى .. التي لم تكن تصل لاذنيه حتى يصدها تفكيره فترجع خائبة .. التفت على يساره وهو مستندا بظهره على ذاك الكرسي مريحا باقي جسده على الارض .. هناك سقطت منذ اياما خلت .. تذكرها وهي تمسك بقدميه مترجية .. ايعقل انها اخبرتهم بما حدث .. لعلها فعلت وهذا سبب هيجان والده عليه .. نفض رأسه من تلك الافكار : لا .. ريم ما تسويها ..
وقع نظره على هاتفه سحبه .. واذا به يعيد الحياة اليه .. وهاهي نغمة العودة تصدح في المكان .. انتظر لبرهة . وبعدها اسرع الى سجل الاسماء .. حرف الفاء ها هو يبحث عنها .. فاطمة ..
رن هاتفها واذا بها تبتعد عن الوجوه المجتمعة في تلك الصالة .. التي تسيطر عليها كآبة غريبة .. خرجت الى الحديقة فلا احد سيسمعها وهي تحدثه .. كانت تعاتبه وكانه اجرم بحق .. عاتبته حتى مل من العتاب صارخا : فاطمة ياليت تخبريني شو السالفة .
ادركت بصراخه ذاك انه لا يعلم شيء .. فاذا بها تخبره .. خروج عمته ورجوع والده .. وكلامه عن الاساءة لبناتها .. كانت تلك الاحداث تذوب في مسامعه .. وتذوي رويدا رويدا : افاااااااا بس .. هذي هقوتكم ( ظنكم ) في .. حسافة يا فاطمة .. والله حسافة .
ارادت ان تتكلم فقاطعها : جهزيلي شنطتي .. وبيي فالليل باخذها .. ولا تخبرين اي حد .. خليهم بعماهم .. وبيي يوم يعرفون معدن عبدالله ..
اغلق الاتصال بغضب واضح .. سحب جهاز التحكم ليخرس تلك الافواه التي تتغنى بما يغضب الله .. تمتم : استغفر الله العظيم .. حتى عمتي ما سلمت منكم .. بس منو اللي مسوينها .. بدير .. كان واايد يهتم لعليا – هز رأسه – استغفر الله .
دخل بعنف الى تلك الغرفة .. اغلق الباب .. وادار المفتاح فيه .. كان الاخر خائفا .. فمنذ تلك الساعة التي حدث فيها ما حدث وهو لم يغادر غرفته .. يتوقع حدوث اي شيء .. اندفع صارخا بصوت تخنقه الجدران : الله ياخذك .. الله ياخذك ع هالسواة ..
قام واقفا .. فاذا بالاخر يدفعه ليعيده جالسا الى ذاك السرير : ياليتني قلت لهم .. الله يلعـ .. هذيك الساعة اللي دخلت فيها السيديات لحجرتي .. الله يلعـ..
انهال عليه بوابل من اللعنات المتتالية .. حتى انه اهالها على نفسه .. الاخر لم يتكلم .. يستمع .. واحيانا يترجاه ان يخفض صوته .. ليصر الاخر بالكلام : بقول لابوي واللي فيها فيها ..
امسكه من ذراعه .. فهو يعلم ان بدر لم يعد يأبه بتهديداته التي كانت : الله يخليك يا بدر .. لا تخبره .. الله يخليك ..
سحب ذراعه .. وهو ينفث انفاسا حارة حارقة : ما سدك عليا .. دمرت عبدالله .. ويالس ادمرني بهالسيديات اللي عندك .. الله ياخذهن وياخذك يا مايد .. وياخذني وياكم ..
لا تعلم لماذا هي من تشهد تلك النزاعات بينهما دائما .. صاعدة بعد تلك المحادثة مع عبدالله .. فاذا بها تسمع صراخ بدر .. لم تعي ما يقال .. ولكنها تدرك ان السبب هو ما حدث .. لم تهتم .. فهي ليست بحالة تُأهلها لسماع ترهات اخويها .. دخلت غرفتها .. رمت هاتفها بلا مبالاة على السرير : ما لحقتي تفرحين باللي سويتيه ..
وقفت امام المرآة .. سحبت " شيلتها " ليظهر شعرها المختلف عما كان .. مقصوص للكتف.. ولونه تحول تماما من الاسود الى الاشقر المتدرج .. ابتسمت وهي تدخل اصابعها بين خصلاته وتهزه فرحة بالشكل الجديد: لو يشوفونه اكيد ما بيسكتون ..
تركت مكانها لتتربع على سريرها : بعدج تخافين منهم .. انتي كبرتي يا فاطمة .. عمرج بيصير 36 سنة .. وبعدج تحسبين حساب لقراراتج .. تخافيهم ..
نظرت الى مكتبها .. بدأت تشتاق لدفاتر تلميذاتها .. هناك في تلك المدرسة تجد فاطمة مختلفة .. تعشق تلك المهنة بجنون .. وتعشق شيء آخر لا يزال طي الخفاء .
,‘،
قامت من على سريرها لترتدي عباءتها .. سحبتها .. وسحبت " شيلتها " ذات الزخرفة العنابية .. تمعنت في وجهها وهي تزم شفتيها .. التفتت بخوف نحو الباب لتلج منه العنود وبصحبتها سارة .. تقدمتا منها .. صرخت العنود : قمر
لتضربها سارة على كتفها لتصرخ الاخرى متألمة : قولي ما شاء الله .
عادت لتنظر للمرآة وهي تحرك يديها على وجنتيها بلطف : مب المفروض احط مكياج .
لفتها اليها : لا .. خليج طبيعية .. وبعدين انتي حلوة .. والكحال مطلعنج غير ..
قالت بتذمر : انزين خلصن .. ترا نصور يترياج صارله نص ساعة ..
وبعدها تركتهن .. لتضحك سارة : اختج هذي بيني يوم وبذبحها – ضحكت روضة – هيه ضحكي .. وربي يوفقج ..
مشت روضة تتعثر الخطى .. وسارة لا تنفك تتكلم .. وتلقي عليها بالتوصيات .. ان لا ترحم ذياب من الاسئلة .. قهقهاتها تلك كانت تزيد من التوتر في جسد روضة .. اقتربت من المجلس الصغير حيث ينتظرها اخيها ناصر مع ابن عمهما ذياب .. لا تزال تلك الذكرى الطفولية تعبث بين ثنايا دماغها .. طرقت الباب بارتجاف وتوتر طاغي .. لم تدخل مع انها سمعت صوت ناصر يدعوها لدخول .. ابتسم لذياب فلقد ادرك انها خجلة .. ثم قام من مكانه .. ليفاجأها بامساكه لمعصمها الايسر مجبرا قدماها على التقدم .. القت التحية بصوت بالكاد وصل لمسامع ذياب .. الذي كان واقفا مستقبلا لها .. سأل عن حالها .. ثم جلس عندما جلست هي بجوار اخيها .. منذ ساعة كانت تقف امام مرآتها تمثل مشهد اللقاء .. وتعيد الكلام الذي ستقوله مرارا حتى حفظته .. والآن لا تستطيع ان تجد كلمة واحدة من تلك الكلمات .. اراد كسر حاجز الصمت فقال مازحا : شكلها خايفة تنتقم منها ..
اكمل حديثه متطرقا لتلك الذكرى .. لم يدرك ان بكلامه ذاك اعاد لها خوفا واحتقارا لذاتها التي كانت .. شدت بقبضتها حتى كادت اظافرها ان تنغرس في باطن يدها .. تدارك ذياب الامر حين احس ان كلام ناصر لم يكن وقعه كما اراد عليها .. فضحك ثم اتبع ضحكته قائلا : كانت احلى ايام .. يكفي انها غيرت ذياب للاحسن .
ناصر : هيه والله .. وانا اشهد يابو سلطان .. والا مب ناوي تسمي ع ابوك الله يرحمة .
- الله يرحمه – اكمل – روضة .. اعرف انج مستحية .. بس بسأل سؤال واحد واريد الجواب هني .. ولا تخافين من حد .
شدها كلامه .. ومع هذا لم ترفع نظرها نحوه .. كان يتكلم وهي تستمع .. حتى قال : اذا مغصوبة على الموافقة فانا اعفيج منها ..
تحدث ناصر بغضب واضح : انت شو اللي يالس تقوله .. وليش يالس تقلل من عمرك .. تحمد ربها ان انسان مثلك بيـ ...
قاطعه ذياب : ناصر .. اريد اسمعها .. وكلامي مب تقليل من شخصي .. بس اللي سمعته كفيل انه يخليني احسب حساب لرضا البنت اللي برتبط فيها .. وهذي مب اي بنت .. هذي بنت عمي يا ناصر ..
صامتة لا تعرف ماذا تقول .. فقط تستمع له .. وهو يواصل الحديث : تصدقون ان مرة سمعت البنت وهي طالعة من بعد النظرة وهي تصرخ .. وع شو هالشكل .. – ضحك على مضض – هذا شكلي اسمر واضروسي بارزات ..
عاد ناصر ليتكلم : بس يا ذياب انت تغيرت .. وبعدين ما ارضا اشوفك متخاذل بهالشكل .
قال بشيء من الجدة : انا مب متخاذل يا ناصر .. انا اريد اعرف راي اختك .. اللي للحين ما رفعت راسها .. روضة ..
عاد ينادي اسمها .. ومع كل نداء تشعر بضيق انفاسها : رفعي راسج وطالعيني ..
رفعت رأسها لتبان عيونها الغارقة .. صمت غريب .. تنظر اليه ليس كما قال .. هو اسمر لكن سمارا عاديا .. اسنانه بانت بعد تلك الابتسامة التي رسمها حين رأى دموعها .. لم تكن بارزة .. وذاك السلك اعطاه ابتسامة مختلفة .. قام واقفا .. فدموعها دليلا واضحا له : وصلني الجواب .
وقفت هي الاخرى صارخة : ما يحقلها تقول عن ولد عمي شين .. وانا موافقة ومحد غصبني ..
لتجري بعدها من ذاك المكان .. تسمر مكانه .. هل ما قالته حقيقة .. ام انه يحلم .. ام ان كلامه ذاك كان له اثر بالغ عليها .. لا يزال غير مصدق بما قاله له عمه وما اكده ناصر عن موافقتها .. لكنه منذ دقائق فقط سمعها باذنيه صارخة بالموافقة ..
,‘،
مرت ايام العزاء صعبة على تلك العائلة .. ولكن لا بد من النسيان مع مرور الوقت .. فالانسان وجد من النسيان .. ولولا هذه النعمة لما عاش بشر بعد مصيبة .. مستندة على زوجها تمشي بمهل .. وبجانبها الايسر اختها رنيم .. تسندها معه .. تشعر انها ميتة .. فخبر موت جنينها لم تبالي به بقدر موت والدها .. اجلساها في تلك الصالة الواسعة .. جلس بجانبها وبحنان زائد : ما تبيني اوصلج حجرتج .
هزت رأسها بلا : خلوني هني شوية ..
تركتهما رنيم لترى والدتها .. اما الاخرى وضعت يدها على بطنها .. ليزيد حزن سيف عليها .. وضع كفه على كفها : الله بيرزقنا غيره .. مب مكتوبله يعيش ..
نزلت دموعها بحرقة .. هل تبكي على الابوة التي فقدتها .. ام تبكي على الامومة التي كانت تتوق لها .. قربها منه .. يواسيها ويواسي نفسه المتألمة .. فهو رجل وعليه ان يكون قويا لتقوى به : ودني فوق .. تعبانه واريد ارقد .
سندها ليوصلها لغرفتها .. فهو يحفظ هذا المنزل .. يحفظ ممراته ودهاليزه .. يمشي معها الى غرفتها تحت انظار تلك الفتاة المنسية .. ساعدها بنزع عباءتها الخفيفة .. واجلسها بهدوء على السرير .. فك شعرها المشبوك وجعل اصابعه تتلذذ بملمسه .. ليحتظن رأسها مقبلا جبينها .. استلقت على السرير ليغطيها .. ويمسح على رأسها .. ويخرج بعدها .. وما ان خرج حتى رن هاتفه .. فيصل يتصل .. رد .. ليهوله صوت فيصل الغاضب .. ويطلب منه ان يذهب للشركة ..
"اللي سبب خسارتكم موجود فهالميلس" .. تلك الجملة لا زالت تعصف برأسه منذ ذاك اليوم .. وهو يعلم يقين العلم من هو المعني بالجملة .. الكثير من الملفات والاوراق المنتشرة على تلك الطاولة امامه .. ينظر الى هذي ليرميها وياخذ الاخرى .. الخسارة بالمليارات .. افلاس .. كلمة ثقيلة جدا على نفسه .. ذاك المشروع المشؤوم دمر كل شيء واحال عائلة سالم الـ ... الى الحضيض ..
دخل المكتب بخوف : شو صاير يا فيصل ..
رفع نظره المحتقن بالشر : وتسألني .. اسال نفسك يا سيف ..
تقدم منه حتى باتت الاعين في مبارزة : انت من يوم العزى وقالب علي .. شو اللي مستوي .. وترا اذا مصيبتك وحدة .. مصيبتي انا ثنتين ..
ضرب بعنف ظهر الطاولة .. لتسقط ورقة متلوحة لتستقر على الارضية : تقارن خسارتي بابوي بخسارتك يا سيف – اشار الى الخزنة الحديدية – كيف افتحها .
نظر سيف اليها : مادري .. ما اعرف الرقم السري .. بس اكيد السكرتير يعرفه .
دقائق واذا به يدخل .. ليسأله فيصل عن الرقم .. ولكن اجابته كانت كفيلة ليصرخ فيصل : والحل .
بتردد قال السكرتير : هذاك اليوم طال عمرك .. يتني الانسة جود ..
نظر كل من فيصل وسيف باهتمام لسكرتير وهو يخبرهم عن جود .. التي خرجت من ذاك المستشفى الذي شهد وفاة اعز انسان على قلبها متوجهة للشركة .. شركة J.F.R للعقار والاستثمار .. الجميع يعرفها .. فليست هذه زيارتها الاولى .. ولكن ما استنكروه انها لم تاتي لزيارة والدها كما كانت تفعل سابقا .. فوالدها هناك ممددا على السرير الابيض .. دخلت الى مكتبه .. لتظل فيه بالساعات .. لا احد يعلم ما كانت تفعل .. فلقد اوصدت الباب عليها .. ولم تخرج الا بعد ان طُرق الباب مرارا من جلال السكرتير يخبرها ان الوقت قد تاخر .. لم يكن معها شيء وهي خارجة .. ولكنه وصف لهم لبسها المكون من بلوزة منتفخة من الاعلى لتنتهي بمطاط يشد على ردفيها ..
فيصل : يعني خذت شيء معها .
جلال : ما اعرف طال عمرك .. بس اذا خذت شيء وحطته فملابسها يمكن ..
,‘،
Continue