,‘،
تنهدت وتنهدت .. وهي تنظر الى نفسها عبر تلك المرآة .. وضعت المشط من يدها وقامت واقفه .. سحبت طوقا نحيلا لترفع به شعرها القصير .. زفرت انفاسها من جديد .. اسبوع ومضى منه خمسة ايام .. حين سألته لماذا اسبوع .. رد عليها : لان رمضان بيكون بعد اسبوع .. وما اريد اكون ظالم حد .. اريد اصوم وانا طاهر القلب ..
سحبت " شيلتها " من على سريرها .. وخرجت من تلك الغرفة .. افكار كثيرة تراودها .. حتى انها تبتسم مرارا عندما يمر في عقلها انها تختاره هو .. نزلت الدرجات بشرود تام .. واذا بها تستمع لاصوات تقترب كلما اقتربت من الاسفل .. توجهت للصالة لتبعد تلك الستائر المخملية .. هو هناك يتحدث لشخص ما رافعا رأسه .. رفعت نظرها لترى رجلا قد تأزر بحبل غليظ صاعدا تلك النخلة .. وحديث لا يخلو من الارشادات من ذاك القابع على كرسيه اسفل تلك الشجرة الباسقة .. لفت " شيلتها " وخرجت لتجلس على الدرجات عند عتبة الباب من الخارج .. تنظر اليه .. وتستمع لحديثه بوضوح اكثر ..
ذاك البنغالي يهز رأسه ليرد بلغة مكسرة : ما في خوف بابا انا يعرف شغل زين ..
قهقه وهو يردد : زين زين .. بنشوف شغلك ..
تتأمله بتمعن .. وجه بشوش هادئ .. لحيته السوداء الخفيفة على جانبي ذقنه تعطيه وسامة من نوع ما .. وعيناه .. تذكرهما من صورة له في تلك الغرفة .. فيهما ضحكة .. وكأن هناك قصة جميلة تروى لهما .. لتنظران بضحكات فرح ..
انزل رأسه وهو يحاول ان يسحب هاتفه من جيبه .. بعد ان وصلته تنبيهة لرسالة نصية .. لم ينتبه الا بصرخة منها ناطقة بأسمه .. فسعفة نخيل هوت باتجاهه بعد ان قطعها ذاك العامل .. لتجرح يده اليمنى .. جرت اليه تحت كلمات الندم من ذاك العامل .. سحبت يده : اشوف ..
وسرعان ما امسكت بكرسيه تدفعه امامها وهي تردد : مينون انت .. يالس تحت النخله وذاك يقطع الزور (السعف ) منها ..
تركته في الصالة لتجري مسرعة .. عادت بعد دقائق وبيدها علبة اسعافات اولية .. بدأت تطهر الجرح .. وهو صامت .. فقط يستمع لتعنيفها المتواصل : والله انك مينون .. تخيل لو طاحت على راسك لسمح الله .. انت ناقص .. وبعدين انت يايب واحد يشتغل عشان شو واقفله ع الوحدة .. خله يشتغل بروحه .. اظن يعرف شغله زين . .
يده اليسرى تمتد لتلامس رأسها : فاطمة ..
سكنت ويدها ممسكه بيده اليمنى .. مع انها انهت كل شيء .. اكمل قائلا : الا يرح صغير .. والحمد لله ما في الا العافية .. ليش كل هالخوف ..
لم تشعر بانها تشد على يده بقوة .. انعقد حاجباه وجعا .. وما هي الا لحظات حتى انهارت باكية على ركبتيه : سامحني .. والله ما قصدي اجرح ..
تتعالى شهقاتها بين الجملة والاخرى : انا انسانه ما تعرف تعبر .. تربيت على هالشيء .. ما اقدر اعبر عن اللي بداخلي بالكلام ..
بكت حتى بدأ جسدها يرتجف .. مسح على رأسها بحنية استوطنته بسبب حالها : فطوم شو بلاج .. خلاص اهدي .. رفعي راسج ومسحي دموعج .. تراج غرقتيني ..
ضحك لعله ينتشلها من بحر دموعها .. لكنها صمتت .. طال الصمت .. الذي حفظه منها .. ظلت على ركبتيه منحنية .. وظل كفه على رأسها .. وآخر تهادى على كتفها .. ارتجفت من لمسته .. وكأن بيده تلك ايقضتها .. لتبلع ريقها .. لا تعلم كم من الوقت مضى وهي على ذاك الحال .. شدت قبضتها .. لتنسحب كفاها لتستقران على ركبتيها .. ولا يزال رأسها مخفوضا .. لم يرتفع الا بانامله التي عانقتا ذقنها .. اغمضت عيناها .. فيكفي ما حدث .. انهارت امامه هو .. ولا تريد لعيناها ان تنهارا ايضا امام عينيه .. مسح دموعها والابتسامة لم تفارق شفتيه .. لا يعلم ما ذاك الاحساس الذي اجتاحه حين بكاءها .. او الاحساس الاخر عندما خافت عليه من مجرد جرح بسيط .. قد يكون خوفا على مريض لا غير .. فهو انسان مريض في نظرها ..
انتشل طوقها من شعرها بعد ان تبعثرت خصلاتها .. ليعيده من جديد .. يشده برفق للوراء .. وهي لا تزال مغمضة عينيها .. اراد ان يكسر حاجز الصمت .. والخجل الذي اتضح على معالم وجهها وحركة كفيها : فاطمة قررتي والا بعد ؟
رعشة اصابتها .. وكأن ساعة الصفر رنت اجراسها .. فتحت عينيها اخيرا .. لتنظران الى عينيه .. هو لا ذنب له بتعقيدات نفسية تعيشها .. وان عادت الى والدها فستبقى في ذاك الجحيم الى الابد ... هزت رأسها بلا .. فان اختارته فهذا يعني حياة زوجية كاملة .. وان رفضته ستعود للجحيم .. خفضت نظرها وسرعان ما رفعته : فهد .
ابتسم بعد ان تأمل خيرا ولو قليلا .. ولكنها لا تزال تراه غريبا .. اردفت : الكتاب اللي ع مكتبك ..
هزت رأسها بنعم .. لتنطق : عن شو يتكلم ؟
ارتاحت سريرته .. بما انها سألت فهذه بداية لحوار من جهتها .. حرك كرسيه متوجها لمكتبه : تعالي ..
انفاسها خرجت مع زفرة ارتياح .. فهي ارتاحت لانها ابتعدت عن ذاك الموقف المحرج .. وقفت لتتبعه .. توقفت في مكانها حين مده لها : خذيه .. اقريه واحكمي عليه ..
قلبت اوراقه وهي تبتسم : عارفه عن شو يتكلم ..
وضعته في حجره وابتسمت لتردف : كاتبتنه ..
وبعدها غادرت .. ليصعق هو .. ويشل لسانه عن النطق .. ايعقل ان تكون هي صاحبة هذا الكتاب .. ايعقل ان يكون قد ارتبط بالشخص الذي تكلم فيه كثيرا على تلك المقالات .. نفض رأسه ليتمتم : مب صدق .. اكيد تلعب علي ..
,‘،
عيناه تجوبان المكان .. اليوم يوم مختلف .. يوم يشوبه التوتر .. يوم قد يعتبر نقطة تحول في مسيرة حياته .. قد تكون نهاية غربته .. كتفه تلامسه كف صاحبه : وش فيك متوتر ؟
ارجع رأسه للجدار : مادري .. احس ان اليوم ناقص ..
- استهدى بالله .. وادخل القاعة قبل ما يوصل الدكاترة ..
زفر انفاسه مرارا .. وبعدها توارى في تلك القاعة الكبيرة .. هنا سيناقش رسالة الدكتوراة .. قد يكون الحضور قليلا جدا .. جهز كل شيء قبل الوقت .. وسرعان ما مر ذاك الوقت .. عادت عيناه تنشر نظراتهما على المدرجات .. تلك العيون لن تحضر .. هو قال لتلك الورا ان تخبرها بالمجيء .. تنهد .. يشعر بان المكان تنقصه عيونها .. مرت عليه تلك المكالمة وكأنها حدثت بالامس ..
ضحكاتها ترن في اذنه : من صدجك ؟
- والله لاسويها .. بس انتي حضري وبتشوفين اذا ما خليتج تيلسين فالصف الاول وبين الدكاترة ..
عادت لتضحك وهي تنظر لسقف غرفتها .. وقدامها يتدليان من على سريرها للارض : تسويها .. مينون .. حبيبي واعرفك ..
ضحكت من جديد .. كم يعشق ضحكتها تلك : قلت مينووون .
صرخ مرددا الـ " لا " .. ليردف : مب ذي .. اللي بعدها ..
ذابت في ثيابها خجلا .. فمقصده تلك الكلمة التي خرجت بعفوية من بين شفتيها .. لم ترد عليه ولاذت في صمت خجل عنيف : وين رحتي .. ردي علي .. اووو كل هذا مستحى .. حرام عليج قولي شيء ... الووو ..
" هاا " نطقتها بهدوء استعمر روحها .. ليقهقه .. فهي فتاة احلامه التي رسمها .. يتمنى ان يجمعهما سقفا واحد .. يعشق انفاسها .. نبرتها الهادئة .. عيونها الناعسة .. يعشق تفاصيلها ..
ابتسم لتلك الذكرى المؤلمة التي تجسدت من جديد جراء عيني تلك التي دخلت مع لورا .. لا يعلم كيف انهى تلك المناقشة .. يشعر وكأنه غريق .. كانت ستكون بين الحضور .. كم يتوق لها .. انتهى كل شيء .. كان ثقيلا عليه ذاك الوقت .. وما ان حانت فرصة المغادرة ابتعد عن المكان .. اراد ان يكون وحده مشى مبتعدا .. ليهرول بعدها غير ابها بنداءات نادر ..
يطوي المسافة القصيرة في تلك الصالة ذهابا وايابا .. وهاتفه في يده .. للمرة المليون يطلب ذاك الرقم .. ولكن لا يجيب الا ذاك الرد الآلي معلنا عن اغلاق الهاتف .. الساعة الدائرية المعلقة على ذاك الحائط تحدث صوت خطوات مرور الوقت .. الساعة ستصل حدود منتصف الليل .. وذاك منذ الصباح لم يظهر .. رمى هاتفه مغتاظا : وينك ؟.. وين بيكون .. فكر يا نادر ..
عاد ينتشل ذاك الهاتف من جديد .. لعله عند احد الاصدقاء الذين يعرفهم .. الاول لم يره .. والثاني رآه عند الظهر في محطة الـ" المترو " .. واخر لا يعلم عنه شيء منذ يومان .. ايعقل بانه ترك المدينة .. لعل شيء ما حدث ولم ينتبه له .. جعل من صاحبه ان يهرول بذاك الشكل ليبتعد ..
التفت واقفا حين تحرك المفتاح في الباب .. خطى بخطواته ليلمح ذاك المجنون واقفا وابتسامة حزينة تداعب شفتيه : ما بسافر .. ما اقدر ارد لبلاد ..
تحوقل وهو يسحبه من ذراعه ليدخله .. اجلسه على " الاريكه " ليجلس بجانبه .. ووجهه لجانب وجه ذاك الذي ارتسمت ملامح الحزن عليه : وش صارلك .. ومن جاب طاري السفر هالحين ؟
- كل ما رحت غصبت روحي اني ما اتذكر .. واعرف اني بترك المكان .. والحين بروح هناك بس وربي ما اقدر .. هي هناك يا نادر .. هي هناك .. تعرف شو يعني اني اعيش هناك بدونها .
تحوقل .. وكفه تشد مسكتها على كتفه واخرى تراخت على فخذه : انت ما قلت ان الجامعة عرضت عليك تكون معيد فيها ..
- رفضت .. كل هالسنين ما قدرت تمحيها من راسي .. قلبي انذبح من اقرب الناس .. ذبحوني ولا همهم ..
استغفر ربه وهو يقوم .. ليمسك بذراع صاحبه يحثه على الوقوف : قوم .. توضا وصل لك ركعتين .. الرجال ما تكسره الظروف .. هو اللي لازم يكسرها .. قم وانا اخوك ..
نظر اليه وذراعه لا تزال معلقة بكف ذاك : تدري يا نادر .. انك نعم الاخو
حاجباه يرتفعان فخرا : ايه عارف .. والعارف لا يعرف .. وانت اذا ما ودك ترجع .. مهو بمغصوب ع الرجعه .. خلك معي الين ما اخلص وباخذك الديره واخلي الغالية تخطبلك من جماعتنا .. وش رايك ..
قام الاخر واقفا : اقول .. تراني اعطيتك وجه ..
ادبر ليقهقه نادر وهو يردد : مهو بلايق عليك الهرج .. خلك بهرجك ..
ليربض بعدها حيث كان الاخر جالسا .. فهو يدرك الم صاحبه .. ولو ان هناك دواء ينسيه ماضيه لاشتراه له .. حتى وان كان باغلى الاثمان ..
,‘،
الاكياس تملأ ذاك المطبخ .. وهي تلقي باوامرها على تلك الخادمة لترتب كل شيء .. الفيمتو .. والتانج .. وعلب الكاسترد وكريم كاراميل .. والاجبان .. والعديد العديد .. وكأن بها اشترت ما تحمله تلك الرفوف في ذاك " السوبر ماركت " .. خرجت وقد علت وجهها ابتسامة .. فتلك المحادثة بينها وبين شقيقتها جعلت عقلها يفكر جديا .. رأته متكأ وفي كفه جهاز التحكم . ويقلب في تلك القنوات .. وتلك الاعلانات التي لا تنفك تعرض مسلسلات هذا الشهر .. وكأن هذا الشهر لم يوجد الا لتلك الامور التي لا تسمن ولا تغني من جوع ..
جلست على مقربة منه .. ليردد ولا يزال يتجول في ذاك المستطيل المسطح : الحين حق شو كل هالمخاسير .. سح (تمر ) وكوب ماي ع الفطور .. وعشا خفيف .. وسحور اخف وانتهينا ..
- خلك من المخاسير الحين .. عندي لك سالفة ..
شده الموضوع حتى انه اقفل التلفاز .. ليستدير بجلسته لامه : خير يالغالية في شيء ؟
هناك احساس يخالجه .. به شيء من الخوف .. لعلها علمت بمحادثاته المستمرة مع ذاك العنيد احمد .. قالت وقد رسمت ابتسامة عريضة : انت كبرت .. ويبالك حرمة ..
فتح عيناه .. ليضحك بعدها .. وكأن به يضحك على خوفه الذي كان : هذا هو الموضوع .. وانا عبالي شيء كبير .. انزين منو هذي اللي امها داعيه عليها ..
تنهدت بغيض من حديثه ذاك : قول الا داعيه لها .. اسمعني يا ناصر .. اليوم تكلمت وييا خالتك .. عرفت منها ان هاجر بترجع قبل العيد العود ..
عقد حاجبيه : كيف ترجع قبل العيد .. هي مب رايحة تاخذ الدكتوراة .. والا دلع وعناد .. ويوم سافرت وسوت الا فراسها بترد ..
- لا تصير حار بهالشكل يا ناصر ..
استغفر ربه : مب حار ولا بارد .. بس من اول قايل لهم هاجر مب ويه سفر وغربة .. هاجر تخاف من ظلها .. لا توهمهم القوة اللي طلعتها قدامهم ..
- شكلك عارفنها زين يا ناصر ..
اختطف جهاز التحكم من جديد ليعود لجلسته المتكأة .. ويفتح التلفاز وهو يجيب والدته : اكييد اعرفها .. بنت خالتي ..
سقط الجهاز من يده .. وتسمر جسده وكأن دلو ماء بارد اريق عليه .. حين نطقت : وانا اريدها لك .
" شو تقولين " نطقتها العنود وهي تقف عند باب الصالة .. لتردف : كيف تخطبيها لناصر واحمد يبيها للحين ..
وقفت وقد بدا الغضب في نظراتها لابنتها وهي تقترب منها : وانتي شو عرفج انه يبيها للحين ..
نظرت لناصر بتلعثم .. وكأنها تستنجد به .. لينطق .. حين امسكت شيخة بذراع العنود تهزها لتتكلم : تكلمه ومتواصله وياه من زمان .
" شو " ضربات منها على كتف العنود التي خبأت وجهها خلف كفيها .. وتلك ترجفها بيد وتضربها بالاخرى : ولا كأن لج ام تحاتي ولدها .. من شو قلبج ..
وانهالت عليها بكلمات قد تحشرج معها صوتها .. لتنطق تلك من بين دموعها : والله هو حلفني ما اقولكم .. والله مب بايدي ..
كفاه تعانقان كتفيها من الوراء : خلاص يالغالية ..
تركتها : انا شو مسويه بدنيتي عشان الله يبلاني بعيال مثلهم .. من احمد لروضة لسارة والحين العنود .. استغفر الله العظيم ..
اجلسها .. وتلك هرولت باكية للاعلى .. تنهد فيجب ان يخبرها بكل شيء : احمد كان هني يوم ملجة سارة – حدقت فيه بنظرات دامعة – وسمع ابوي يوم قال ياليتهم ماتوا وما افضحوني .. ومن يومها وهو قرر ما يرد .. ويخليكم تعتبرونه انسان ميت .
طوحت برأسها : عذره مب مقبول يا ناصر .. عذره ما يمسح سهري وحزني وخوفي .. عذره ما هو عذر .. هنت عليه .. انا امه .. حسبي الله ونعم الوكيل .. حسبي الله ونعم الوكيل .
,‘،
يــتــبــع|~