,‘,
نامت طويلا .. منذ العصر وهي نائمة .. استيقظت مرة وصرخت مطالبة بعلياء .. اهتاجت مبعثرة كل ما تلمسه يدها .. لتستقر الابرة في ذراعها وتعود لعالم الا واقع .. وهاهي الساعة تقارب التاسعة مساء .. ومريم بجوارها لم تتركها لحظة واحدة .. وهم جميعا يتفقدونها بين الفينة والاخرى .. راشد جاءها مرة واحدة فهناك في قلبه حقد عليها ولفعلتها تلك التي كانت .. وابتعادها عن منزله لتستقر في منزل اخيه الاصغر .. نفسه لا ترضى بالسماح لكن الموقف جعله يذهب اليها يقبل جبينها وبعدها يخرج .. عبدالله وبدر لم يفارقا عمهما ساعة واحدة كما هو حال عمار .. الذي تناسى أمر مقابلة العمل التي بالغد .. عمل مضمون في شركة كبيرة جدا .. ولها مكانها في الدولة .. ولكن ما هو فيه سينسيه حتى اسمه ..
استقيظت من جديد في تلك الساعة .. ولكن بخلاف المرة السابقة .. كانت هادئة وكأن عقلها بدأ يستوعب ما حدث .. بعثرت نظراتها على سقف تلك الغرفة المعقمة .. وبعدها رددت : اريد اشوفها .
لم تصرخ ولم تنطق الا بتلك الجملة .. ودموعها تنساب وكأن مجرى الدمع لا يريد ان يُغلق .. مريم حاولت ان تصبرها تخبرها بانه قضاء من الله .. ظنت بانها تهذي وانها لا تزال غير مصدقة ما حدث .. لكن تلك المستلقية رضت بالامر الواقع .. وزاد اصرارها لرؤية فلذة كبدها .. التي لا تزال في المستشفى .. وفي صندوق من صناديق الموتى الباردة .. ترجتهم بأن ياخذوها اليها .. تريد ان تراها قبل ان توارى الثرى .. وبعد محاولات سُمح لهم بالذهاب الى ثلاجة الاجساد التي فارقتها الروح .. فخرجت مستندة على عمار من جهة اليمين .. وعبدالله يسندها من الجانب الاخر .. تشعر انها كلما اقتربت ثقلت اقدامها .. كانت ترجف .. تركها عبدالله ليقف بجوار عمار هامسا : عمار اخاف عليها .. خلنا نرجعها ..
كان هناك ممرضا يمشي امامهم يرشدهم لطريق .. همس عمار لعمته التي توقفت عن التقدم : عمتي خلينا نرجع ..
نظرت اليه وهي ترسم نصف ابتسامة باهتة .. لماذا تبتسم ؟ هل جنت .. ام انه الفقد يجعل المشاعر ضائعة .. تمتمت : اريد اشوفها .. من حقي هالشيء ..
فكت يده من ذراعها : اذا خايفين تشوفون انسان ميت .. فانا ما اخاف .. شفت ابوها قبل – حاولت مسح دموعها دون جدوى – بسلم عليها .
وتابعت المسير لوحدها .. وما لبثا حتى تبعاها .. فُتح الباب .. وفُتح ذاك الصندوق .. اقتربت ببطء شديد .. وكأن بخطواتها تردعها عن المواصلة .. سحبت الغطاء عن وجهها بيد مرتجفة .. شهقت وهي ترى الوجه الشاحب .. البارد ..مسحت شعرها باصابعها .. تبتسم رغم دموعها .. واذا بها تطبع قبلة مثقلة بالوجع على جبينها .. وتقف تنظر اليها .. ويدها تتحسس وجهها .. فمها .. عيناها .. وكأنها تريد ان تحتفظ بذاك الوجه في خزانة الذكرى : بتروحين للغالي يالغالية .. كنتي دوم تقولين اريد اروح لابوي .. والحين رحتي .. هنت عليج يا نظر عيني تخليني .. سامحيني واايد قصرت فحقج – قبلتها على وجنتها الباردة .. وتساقطت دموعها على الجلد الميت – ما بسامحه .. عمري ما بسامحه ..
انتفض عبدالله من تلك الجملة .. فهي تقصد شقيقه .. شقيقه الذي لا يعلمون عنه شيء حتى الساعة .. لم يشعر احد به .. نسوه في خضم ذاك الحدث .. ذاك الحزن الذي اسدل ستائره على الجميع انساهم مايد .. استأذن عمار وخرج من المكان .. ابتعد وهاتفه في يده .. حشر السماعة البيضاء في اذنه اليمين : بدر .. انت وين .. انزين مايد فالبيت .. شو .. كيف مب موجود ... هو كان فمكان الحادث هذا اللي عرفته من عمي .. انزين اتصلت عليه ..
-تلفونه مغلق .. اقولك مادري عنه شيء .... عبدالله انا شو يعرفني .. اوكي خلاص تعال وانا بروح وياك .
انهى المكالمة وخرج من غرفته .. حاول الاتصال على مايد .. لكن الهاتف خارج نطاق الخدمة .. تحوقل وهو ينزل الدرجات بسرعة .. ليلتقي بوالده : على وين فهالساعة .
وبعدها خرج .. دون ان ينتظر ردا من والده .. اما الابن الاخر جالسا في صالة جناحه وعلى وجهه ارتسمت ابتسامة غريبة .. نظرت اليه وعلامات التعجب ترتسم على وجهها.. حدثت نفسها : شو بلاه هذا .. ليكون تخبل بسبة هالريم .. الناس فحزن وهو يضحك .. استغفر الله ولا كأن البنت اللي ماتت بنت عمته ..
تشدقت تنهي حديث نفسها .. اقتربت منه وجلست بجواره .. وضعت يدها على كتفه : سعيد .. شو بلاك ؟
نظر اليها لبرهة ثم عاود النظر للامام : ما بلاني شيء – عدل جلسته ليقابلها وباهتمام اردف – سناء .. وين ممكن تكون ريم .
نفخت انفاسها في وجهه وهي تقف : انت شو صايرلك .. ما تلاحظ انك وايد مهتم فيها .. يا بابا انا حرمتك .. داري مشاعري .. مب كل شوي يايب طاريها علي .. اوووف .
تركته لتلج للغرفة .. تبعها بغضب ليمسكها بذراعها .. لتصرخ : ينيت ..
لم تشعر الا بضربة على وجهها : تضربني يا سعيد ..
نظر اليها بغضب : واكسر راسج بعد .. مب انا اللي تنفخ فويهي حرمة فاهمة .. ومن اليوم وساير كلمتي هي اللي بتمشي .. ومثل ما انتي حرمتي هي حرمتي .. سامعه .
ارتجفت وهي تراه يغادر الغرفة .. ريم كانت محقة .. سعيد انسان متوحش .. الآن فقط عرفت حقيقته .. رمت بنفسها على السرير وهي تحدث نفسها : شو سويتي بعمرج يا سناء .. وبيت ابوج ما بيستقبلج .. وبيت امج ما صدقتي تخلينه ..
ابتسمت وتمتمت : اقدر اييب راسك يا سعيد .. وهي فترة وتعدي .. الشهور اللي راحت كنت مثل الخاتم فايدي .. وبترجع خاتم فايدي ..
اما هو فنزل للاسفل .. جلس مع والده بعض الشيء .. وبعدها قررا المغادرة لرؤية ميثة .. بعد الحاح من سعيد .. لا احد يعلم بما يفكر .. او لما هذا الاهتمام .. راشد كان فرحا باهتمام ابنه .. دون ان يدرك ما في جعبته .. فهو لن يذهب الى المستشفى الا لشيء في نفسه .. لعله يريد ان يتأكد بأن ما قام به قد تحقق .. وصلا الى المستشفى حيث تقبع هي وابنتها التي ستخرج غدا .. كانت جالسة تنتظر عودة عبدالرحمن وعمار لاحضار اذن الخروج من الطبيب المناوب .. فهي لا تريد البقاء في هذا المكان .. واذا بهما يصلان الى بابها .. ليطرقه راشد ويدخل .. انتحت مريم لها مكانا بعيدا عنهم .. القيا التحية وكلمات العزاء على الام الثكلى .. واذا بها تنظر لهما بحقد .. تكلم راشد بشيء من الغضب : شو بلاج تخزينا بهالشكل .
-خبر ولدك ان عمري ما بسامحه .. هو اللي قتلها ..
اقتربت منها مريم لتضع يدها على كتفها : ذكري الله يا ميثة .. هذا عمرها .
ارتجفت شفاهها : بس مايد هو السبب – صرخت وهي تقف – ولدك هو السبب يا راشد .. كرها حياتها وعيشتها .. ولحقها الين قتلها ..
صرخ : مايد ماله ذنب .. الذنب ذنب عبدالله وهذوه خذ جزاه وطردته من البيت ..
ضحكت بغصة استحلت صدرها : ياليت كل عيالك عبدالله .. ياليت يا راشد ..
-لاااه .. شكلج الا ينيتي وقمتي تقطين خيط وخيط .. ووصلت فيج انج تتبلين ع مايد ..
تنفست بغيض وهي تقترب منه اكثر .. حتى بات وجهها في وجهه : مايد كان يتحرش بعليا .. صارت تشوفه فاحلامها .. ما تنام الليل .. ويوم قررت اني ابعدها لحقها .. ولدك ذبح بنتي يا راشد . ذبحها ..
صرخت طاردة له .. ليهدأ المكان بعدها بتدخل من عبد الرحمن .. الذي اخرج راشد من الغرفة .. انتابه الغضب فهو قد اخطأ بتسرعه الذي كان .. وعبدالله دفع ثمن هذا التسرع .. ترك المستشفى والافكار تتقاذفه يمنة ويسرى .. والاخر يجلس خلف المقود يفكر ماذا بعد ظهور الحق .. حتى الان لا احد يعلم بهروب ريم الا سناء وعبدالله .. كم يكره هذا الاخ .. يمقته بشدة فيكفي انه يرغب بزوجته .. عض على اسنانه غيضا .. قد يربح وقد يقف والده بصفه .. التفت يمينه يراه شاردا .. نفض تلك الافكار من رأسه فوالده عنيد لن يتنازل .. ولن يصغر نفسه امام ابن من ابناءه حتى وان اخطأ في حقه .. فهو اب .. ابتسم فهو اعلم الناس بوالده ..
,‘,
وصلوا الى المنزل لتستقبلهم شهد بوجه خائف .. قبلت ميثة : الحمد لله ع السلامة ..
لا اجابة منها .. فقط الشرود ودمووع لا تكل من الهطول .. نطقت : وين بناتي .
خطت خطوات متعبة تحت انظار مريم وشهد .. تمتمت مريم : الله يكون بعونها – نظرت لشهد – اخاف تنتكس باكر فالعزى .. الحريم ما يرحمن .. وسوالفهن تغث الواحد .
-مب لازم تيلس وياهن .. يسلمن عليها ويطلعن .. احطلج عشا عموتي .
وهي تخلع عباءتها وتلفها في يدها : ومن له نفس ياكل يابنيتي ..
قبل ان تختفي من امامها : عموتي – التفت لها – اليوم الجرس ما هدى .. وانا ما قدرت افتح الباب لان محد فالبيت الا انا والبنات .. الصراحة خفت ..
استنكرت : وطارق وينه .. اليوم ما شفته.
مشت ناحيتها حتى وقفت امامها : مادري عنه .. مغلق فونه .. من العصر طالع من عقب ما تضارب وييا سعيد
قلبت نظراتها بحنق : لا حول ولا قوة الا بالله .. احنا ما بنرتاح من هالسعيد وشره .استغفر الله العظيم .
وبعدها انسحبت من المكان وهي تتحوقل وتستغفر .. التفتت الاخرى للباب حيث دخل عبد الرحمن .. اقتربت منه مقبلة رأسه : عظم الله اجركم يا عمي .
هز رأسه متمتما : اجرنا واجرج .. لا تسكرين الباب عمار برع .
وبعدها اختفى هو الاخر .. الجميع هكذا لا يريدون الحديث .. لا يرغبون بالطعام . فقط يريدون الانعزال .. تنهدت وتركت المكان هي الاخرى .. وقلبها لا يهدأ خوفه على بعلها .. اين عساه يكون ..
حين اوقف السيارة تبادر له جسم ذاك الهندي مسرعا اليه .. ينادي باسمه .. فهو يعرفه .. حث الخطى ليلتقيه بعيدا عن بوابة المنزل بقليل.. ليتكلم الاخر بلغة مكسرة : بابا عمار .. هزا ولد يجلس في مكانه ما في يتحرك .. انا يقول حق هو يروح بس هو ما يروح .
اشر بطول ذراعه نحو تلك الزاوية التي يكون خلفها البقالة التي يعمل فيها : هناك موجود . تعال ..
عاد الى الداخل ليخبر والده بانه سيخرج لبرهة ويعود .. وبعدها مشى بمعية ذاك الهندي يحث الخطى الي ذاك المكان الذي اشار اليه .. من عساه يكون ؟ .. هذا السؤال كان يعصف به كلما اقتربا من ذاك الجدار لتلك البقالة الصغيرة القابعة قريبا من بعض البيوت .. جالس القرفصاء ومتكأ بنصف جذعه على الحائط .. وباقي الجذع انحنى ليدع رأسه يسقط على ذراعيه المتربعتان على ركبتيه .. اقترب اكثر حتى ااتضح له من صاحب الجسد : مايد
نطق بها ولكن الاخر لم يرفع رأسه .. امسك كتفه بيده محركا له .. لعله نائما .. ولكن لا فائدة لا يريد الحراك .. فقط يتمتم بكلمات لم تتضح لعمار .. وقف واخذ هاتفه ليتصل .. وصل ذاك الاتصال له وهو خلف مقود سيارته .. واذا به يحول اتجاهه ... ليسأل الاخر : وين لقاه ؟
-قريب بيتهم .. بس يقول ان حالته ما تسر .
-استغفر الله العظيم .. الله يكون بعونه .. ما اقدر الومه لو انا مكانه بستخف .. عبدالله .
-بيخبرون هاجر بموت عليا .
هز رأسه : انت بشو واحنا بشو ..
صد للجانب الاخر .. فهو لا يدري سبب هذا التعلق المفاجأ بها .. حتى انه احيانا يفكر ان يسافر اليها .. يزورها ويخبرها بانه يريدها .. ولكن اليس هو من رفضها قبلا .. تنهد بقل حيلة .. ونزل على عجالة مع اخيه الذي اسرع نحو ذاك الساكن .. جلس القرفصاء امامه .. يهزه بلطف : مايد .. شو تسوي هني .. قوم خلنا نروح البيت ..
لم يرفع رأسه واخذ يتمتم : لازم تسامحني .
نطق عمار : شكله ما عنده خبر .
جلس بدر بجانبه : مايد .. قوم ويانا .. امك تسأل عنك ..
رفع رأسه ليبان التعب على محياه : بس لازم اقولها تسامحني .
-استغفر الله العظيم .. مايد عليا الله يرحمها .
التفت لعبدالله : لا .. ما ماتت .. سمعته يقول ان فيها نبض .. هي راحت وبترجع ..
لم يستطيعا اقناعه بالذهاب .. تعبا من المحاولة وهو على كلمة واحدة بانها ستعود .. استأذن عمار وتركهم هناك .. اما عبدالله فقام واقفا ناظرا لبدر الذي لا يزال يحاول لعله يقنعه : بدر انا بروح اييب فاطمة .. انت قلت انها هي قنعته يطلع – هز بدر رأسه – يمكن تقدر عليه .
,‘,
Continue