كاتب الموضوع :
زهرة منسية
المنتدى :
سلاسل روايات احلام المكتوبة
منتديات ليلاس
إنها تلك الليلة فى لندن من جديد.
لكن مرسيدس كانت تتوقع هذه المرة ما يجرى.
لم تعد غير واثقة أو خائفة. لن ترتجف حتى أعماق روحها الدفينة كما فعلت تلك الليلة لأنها تعرف الآن ما سيحدث . كانت تنتظر تلك الصاعقة تلك الحرارة التى تكتسح كل عصب فيها.
ــ جـ....جاك.....
حتى أسمه أرتجف على لسانها وهى تحاول النطق به . كما بدت ذراعاها غير واثقتين وهى ترفعهما لتضعهما حول عنقه . لكن, وبفضل دعمهماتمكنت من البقاء واقفة على قدميها لتبادله العناق و تستسلم لعناقه كلياً كما طالبها ضغط ذراعيه.
العناق الذى بدأ خشناً و متطلباً و متشوقاً استحال الآن أعمق وأكثر تعذيباً . وانحبست أنفاس مرسيدس فى حلقها فيما راح جسدها ينتظر و ينتظر.
صدرت عنها تنهيدة حارة و كأنها خرجت من أعماق روحها , فضحكم جايك ضحكة جاءت ناعمة و دافئة على خدها.
اكتفت مرسيدس بهز رأسها ارتباكاً عاجزة عن إيجاد كلمات مناسبة للإجابة, وهى تحاول أن تكتشف ماهية المشاعر التى تعتمل داخلها.
رأت النظرة المصممة على وجهه ولاحظت كيف استحال لون عينيه داكناً و هو يتأمل ملامحها فأدركت ما هو آتٍ . هل هى مستعدة حقاً ؟ هل هذا ما تريده فعلاً؟ هل هذا هو الخيار الأمثل؟....
حبست مرسيدس أنفاسها فيما أنقبضت معدتها بحدة خوفاً وأرتباكاً.
وتراكمت الصور فى ذهنها و راحت تتوالى الواحدة تلو الآخرى: صورة والدتها الحبيبة و هى توصيها و تجعلها تعدها , صورة أبيها الغاضب , الثأر و صورة استرايللا زوجة أخيها التى نبذها مجتمعهم بسبب تهورها.....
صور و صور عذبتها و جعلتها تدرك ما تقدم عليه.
لكن جايك كان فى عالم آخر , لا فكرة لديه عما يدور فى ذهنها كان غارقاً فى عالم من الأحاسيس التى جرته إليه . أعترضت و إن بضعف:"جايك ! أنا....أنا....."
همس:"ما الأمر؟"
ــ أنا....حسناً, أنا......
مرسيدس, عزيزتى , ما بك؟أنت ماذا؟
ــ جايك أرجوك ! لا ما نفعله خطأ ! هذا ليس صوباً.
و كأنما هذا الاعتراض كان كافياً ليستعيد جايك وعيه فابتعد عنها بسرعة وكأنما أفعى تهدد بأن تلسعه.
ــ تباً مرسيدس . أتهوين التلاعب بى؟ أتجدين لذة فى إفقادى السيطرة على نفسى لتتراجعى فى آخر لحظة؟ أتسعين إلى إحباطى؟
لم تتكلم ولم تجبه إذ لم تستطع أن تجد الكلمات المناسبة للرد عليه .
لاذت بالصمت فيما غشت الدموع غشت الدموع عينيها وأعتصر الألم قلبها.
مرر جايك يده فى شعره وراح يحدق إلى الفراغ محاولاً أن يجد أجوبة على الأسئلة التى تزاحمت فى ذهنه.
من هى هذه المرأة ؟ و ما هى حقيقتها؟ إنها مرسيدس....مرسيدس المحبوبة, العزيزة المدللة أبنة أسرة ألكولار الوحيدة.
إنها أبنة خوان ألكولار.
لم يثق بنفسه ليتحدث إليها إذا ما اضطر لذلك الآن.
لكن من هى مرسيدس ألكولار فعلاً؟
هل هى المرأة اللعوب التى خرجت معه و أثارته إلى حد الجنون ثم فرت شقته و تخلت عنه؟
هل هى المرأة التى جارته الآن و افقدته صوابه ثم تراجعت فى اللحظة الأخيرة بعد ان أوقدت النار فى جسده؟
أم أنها فرت خوفاً من عائلتها و مجتمعها ومن رد فعلهما إذا ما أكتشفا تورطهما معاً؟ أم لعلها خافت من التجربة فى حد ذاتها لعدم خبرتها؟
لكن ثمة مرسيدس ألكولار أخرى....امرأة مختلفة تماماً....تلك التى ألتقاها فى حفل زفاف رامون, حيث أدعت أنها لا تعرفه أبداً. تلك التى تجاهلته و بقيت متعلقة بذراع ذاك الشاب لئلاً تتسنى له فرصة الاقتراب منها. تلك التى يجرى فى عروقها دم ألكولار الصافى من قمة رأسها الأسود اللامع حتى أخمص قدميها الصغيرتين الناعمتين . امرأة باردة كقطعة من جليد لا تأبة أبداً بمشاعر الآخرين و متعجرفة , متغطرسة إلى أقصى حد .
تلك كانت مرسيدس التى أعدت الرسالة التى أبلغته بها صديقتها عندما حاول التحدث إليها فى لندن
"مرسيدس لا ترغب فى أن تضيع مزيداً من وقتها معك"
إذن إذا لم تشأ أن تضيع وقتها معه فماذا تفعل هنا و ماذا كانت تفعل منذ دقائق بين ذراعيه؟
ثمة أمر واحد مؤكد....وهو ان الوقت الذى يمضيه معها ليس وقتاً يضيع سدى . فمعها أختبر مشاعر لم يعدها من قبل مشاعر بلغت أقصى حدود التطرف . فهو يريدها إلى حد الألم و يكره تأثيرها فيه إلى حد الرغبة فى قتلها.
أما الآن فعليه أن يجد حلاً لهذا الوضع الشاذ عليه أن يتصرف بعقلانية ويبتعد عن التهور . فقد تأخر الوقت و أصبحت الشمس فى كبد السماء والطقس ينذر بيوم حار . وصلت مرسيدس إلى شقته فى وقت مبكر جداً بحيث أنه يشك فى أن يكون قد أعلمت والدها بخروجها . وإذا ما تأخرت فى العودة فسيتوجب عليها أن تقدم تفسيرات كثيرة عند وصولها إلى المنزل. ربما لن يصدقها والدها إذا ما قالت إنها غادرت المنزل فى الصباح وقد يتهمه بإغوائها لتمضى الليلة عنده.
كما أنه لم ينس شقيقيها حين قبضا عليه ليلة زفاف رامون فقد بديا قادرين على الحاق الأذى به ما أساء إلى أختهما الصغيرة العزيزة زهرة منسية.
وعند هذه النقطة رفع نظره و تأمل رأسها المنحنى قبل أن يقول :
"مرسيدس...علينا أن نتكلم"
ــ عم سنتكلم؟
منتديات ليلاس
ــ قلت إنك جئت إلى هنا لنتحدث...لنرى أن كان بالإمكان أن نتوصل إلى تسوية . فما هو نوع التسوية التى كنت تفكرين فيها؟
ما هو نوع التسوية؟
ذكرى الأفكار التى شغلت ذهنها و هى فى طريقها إلى هنا طافت فى رأسها بشكل عشوائى . حينذاك كانت واثقة تماماً من مشاعرها و مما تريده وما ستقوله له . وتذكرت أنها راحت تكرر الجمل مرة بعد مرة و هى تصعد السلالم لتصل باب المبنى حيث تقع الشقة و هى تقطع الممر لتصل إلى المصعد . إلا أن هذه الأفكار تشتت الآن و أختفت و لم يعد يطفو منها سوى مقتطفات تظهر ثم تعود و تختفى مجدداً قبل أن تتمكن من الإمساك بها وتحويلها إلى جملة مفيدة و مترابطة . لم تجد فى داخلها القوة الكافية لتشكيل جملة و لجمع فكرتين منطقيتين معاً .
و ما زاد الوضع سوءً هو الضعف الذى أحست به و هى تقف قابلته بعد ان كانت فى النعيم بين ذراعيه . ها هى تقف هنا غارقة فى تبعات عناقهما تتخبط لتتمالك نفسها و تستعيد رابطة جأشها فى حين أنه يفكر ببرودة فى ما قالته ساعة وصلت متذكراً التسوية التى تحدثت عنها , و مستعداً الآن لمناقشتها بمنطق وعقلانية. بدا وكأنهما لم يتعانقا أبداً ولم يلهب مشاعرها ولم يفقدها صوابها. أحقاً كانت بين ذراعيه منذ لحظات؟ أحقاً كادت تنسى وعدها لوالدتها؟
بدا أن ما حصل لم يؤثر فيه و لم يقض على لا مبالاته . كيف أمكنه أن يتصرف بهذه البرودة و هذه العقلانية فى حين أنها وقعت فى حبه من دون أن تدرى متى او كيف أو لماذا؟
و فى خضم انفعالها كادت مشاعرها الملتهبة تدفعها إلى البوح بسرها.
كادت تقول له :" جايك تافرنر أنت الرجل الذى أحب أنت حياتى و قلبى و روحى . أنت كل ما حلمت به و أردته يوماً". لكنها تمكنت من رد الكلمات الخائنة قبل أن تخرجح من بين شفتيها....و فى الوقت المناسب .
نظرة عينيه الباردتين راحت تتأملها بإمعان ما جعلها ترغب فى الابتعاد عنه و الأشاحة بنظرها . لكنها عرفت كيف سيفسر تصرفها هذا على أنه اعتراف بضعفها أمامه فأجبرت نفسها على أن تلتزم مكانها متحملة تحديقه إليها رغماً عنها.
أنها مرسيدس ألكولار أبنة خوان ألكولار ولا ينبغى لها أن تذل نفسها وتظهر ضعفها.
ــ حسناً ربما بإمكانك أن تناقش الأمور فيما أنت شبه عارٍ....إنما أخشى أنى أفضل أن ترتدى ثيابك.
و سمحت لنفسها أن تضيف هزة خفيفة معبرة من كتفها هزة مصطنعة كلياً جاءت من حاجة لديها للدفاع عن نفسها و لإعلامه أنه ليس الوحيد الذى يمكنه أن يتصرف ببرود وتباعد
ــ حسناً لن أغيب طويلاً . أعتبرى البيت بيتك وتصرفى على هواك.
ــ لا تقلق ففى النهاية هذه الشقة شقة أخى و أنت ضيف فيها أكثر منى.
كلامها هذا ألزمه حدوده و أسكته . نعم إنها تنتمى إلى هذا المكان أكثر منه . أنها من أسرة ألكولار العريقة فى حين أنه شخص غريب نكرة فى هذا البلاد.
لقد أتى إلى هنا و لحق بها إلى بلادها مصمماً على أن يضع العداء القديم خلف ظهره...وأن يترك الماضى للماضى حيث مكانه . لكن و مع كل تصرف تتصرفه و مع كل كلمة تنطق بها تبدو مرسيدس مصممة على أن تثبت أن غطرسة أسرة ألكولار حية فيها و مستعدة للظهور عند اول فرصة.
حسناً. إذا ما أرادت أن تلعب اللعبة بهذه الطريقة فسيجاريها خطوة بخطوة .
|