كاتب الموضوع :
زهرة منسية
المنتدى :
سلاسل روايات احلام المكتوبة
لعل مرسيدس ألكولار أجمل امرأة رآها منذ سنوات....أو فى حياته....إنما لو كانت مثل أبيها فلن تحمل معها سوى المشاكل.
إنها تعنى المشاكل على أى حال حتى إن لم تكن تشبه أباها . ستجن أمه إذا ما تحدث إلى الفتاة, من دون ان يذكر أنه وجدها جذابة و ملفتة للنظر .
ولابد أن شعور والدها سيكون مماثلاً . كل ما سمعه يوماً عن الرجل يوحى بعجرفة فائقة وباعتداد بإرثه الكتالانى , وبمركزه الاجتماعى الذى يبقيه على مسافة من عامة الناس.
شئ ما لفت نظره فيما كان يستدير ليتجه نحو الباب ما جعله ينظر مجدداً إلى الخلف لتلاقى عيناه الباحثتان عينىّ مرسيدس ألكولار الواسعتين والبنيتين بلون الشوكولا.
وللحظة تشابكت عيونهما . لم يستطيع أن يشيح بنظره كما لم تستطيع أن تفعل هى على ما يبدو. بدت كظبية مجفلة جمدت مكانها تحدق إليه من دون أن يطرف لها جفن.
لكنها ما لبثت أن رمشت بعينيها وتغيرت تعابير وجهها فجأة فأختفت النظرة المذهولة وتبخرت كالسديم بعد شروق الشمس ليحل محلها تعبير مختلفاً تماماً .
ولو لم يكن يعلم انها لا تزال تقف هناك وانه كان يراقبها ويتأملها طوال الوقت لظن جايك أن شخصاً آخر دخل الغرفة وحل مكانها . فملاحمها الجميلة والمعبرة تجمدت وعلاها قناع بارد كما لو أنها أصبحت فجأة منحوتة من جليد. تيبست شفتاها المثيرتان لتتحولا إلى خط رفيع قاسٍ وارتفعت ذقنها وراحت تنظر إليه من أعلى أنفها الارستقراطى الصغير المستقيم.
وعلت العينين البنيتين اللامعتين غشاوة فحولتهما إلى قطعتين من جليد باردتين كصخرتين فى قاع بحر فى يوم شتاء عاصف .
عندئذٍ شعر جايك وكأن بعض هذه البرودة لامس قلبه. لعل مرسيدس ألكولار أجمل امرأة رآها يوماً لكنها الآن الأنثى الأكثر برودة وتكبر وتعجرف التى قدر له أن يقابلها.
وبدا و كأن تلك النظرة تسأل :"ومن أنت بحق الجحيم؟ من أنت وكيف تجرؤ على النظر إلىّ؟"
هذه النظرة أرتسمت على وجه والدها فى المرة الوحيدة التى أقترب فيها جايك منه بما يكفى ليراه . لقد شارك الاثنان فى مؤتمر وسائل الإعلام فى فندق تام فى مدريد وشئ ما أزعج خوان ألكولار . سؤال طرحه صحفى أزعجه فرمقه بنظرة عنت :"ومن تظن نفسك بحق الجحيم؟" قبل أن يستدير ويرحل من دون ان يتفوه بكلمة .
ومن تظنين نفسك يا سنيوريتا ألكولار لتنظرى إلىّ بهذه الطريقة؟ توجه فى سرّه بهذه الكلمات إلى المرأة الأسبانية . ألا تعلمين أننا أسقطنا النظام الاقطاعى منذ قرون؟ لعلك من الارستقراطيين فى اسبانيا.....لكن هنا, أنت امرأة عادية من عامة الناس.
آهـ , أيها الكاذب ! لامته حواسه فيما أنقبضت أحشاؤه . أيها الكاذب الكبير! لا يمكن لهذه المرأة أن توصف يوماً بالعادية حتى كأسوأ لفظة للحد من قدرها . إنها فاتنة....لكن المشكلة تكمن فى أنها تعلم ذلك.
كان مصمماً على ألا يدعها تكتشف مدى تأثيرها فيه . هذه النظرة المتعالية والباردة أعلمته أنها تدرك تأثيرها فى الرجال وأنها لا تتنازل للاعتراف بذلك إلا حين يناسبها ذلك . وهذا ما لا يناسبها على ما يبدو هذه المرة.
وتعمد أن يتأملها مجدداً من رأسها حتى أخمص قدميها ثم أشاح بنظره وكأنه غير مهتم لأمرها كلياً. ولم يتكرم عليها بنظرة أخرى بل استدار وابتعد بخطى سريعة. بدا له وكأن الرحلة القصيرة إلى الباب لن تنتهى لكنه رفض أن يدع نفسه يتردد وكافح رغبة عارمة فى أن يلقى نظرة واحدة إلى الخلف ليرى رد فعلها على تجاهله لها.
إن كانت هذه مرسيدس ألكولار فهو لا يريد أى علاقة بها .
ـ آهـ , تباً !
همست مرسيدس بذلك وقد تعاظم غضبها من نفسها ومن ردة فعلها الغبى وعادت تكرر:"تباً ! تباً ! تباً !"
لقد فعلتها مجدداً . تصرفت بتلك الطريقة الغبية والسخيفة التى يبدو أنها تسيطر عليها دوماً فى أسوأ الأوقات . كلما كانت غير واثقة من نفسها وغير مرتاحة كلما شعرت بالانزعاج و كأنها سمكة خارج الماء تتجمد ملامح وجهها الغبى بهذه الطريقة إذا ما نظر إليها أحدهم.
كانت زهرة منسية تعرف كيف تبدو . فقد لمحت صورتها ذات مرة فى مرآة ضخمة معلقة فوق المدفأة الكبيرة فى غرفة الطعام فى منزل والدها . حينذاك راعها ما رأت....وجعلها تشعر بالنفور . هل هذه المخلوقة صاحبة الوجه البارد والعينين الجليدتين هى فعلاً؟ لابد أنها هى....فالمرأة التى رأتها ترتدى الثوب نفسه مثلها وتسرح شعرها بالطريقة نفسها . ألا أن المرأة التى تظهر فى الصورة تبدو متعالية متعجرفة كما تبدو و كأنها مصممة على تجميد كل من يجرؤ على الاقتراب منها .
لكن الواقع مختلف كلياً .
الحقيقة هى انها خائفة من أعماقها . فهى لا تشعر بالارتياح فى المناسبات الاجتماعية . وكلما عظم الحدث كلما دب الذعر أكثر فى داخلها.
وهذا حدث عظيم.
فقد أعلنت انطونيا فيما كانتا ترتديان ملابسهما و تتحضران فى الحمام الصغير فى شقتها :"سيحضر الحفل كل أصحاب الشأن. فـ مارلون و هايدى ينظمان حفلات رائعة ! ستقابلين بعض الشخصيات المعروفة و المشهورة فى عالم الإعلام"
هذا الكلام كان كفيلاً بجعل أعصاب مرسيدس تتشنج حتى قبل أن تغادر المنزل.
ـ ستبيقن معى, أليس كذلك يا تونيا؟
طرحت على صديقتها هذا السؤال بعد ان أنزلتهما السيارة الأجرة أمام مدخل ضخم وفتح لهما الباب خادم يرتدى بزة.
وعادت تسأل :"لن تتركينى وحيدة؟"
فضحكت صديقتها وردت:"بالطبع لا! لكن, لا تقلقى.....فالحفل سيكون ممتعاً !"
ممتع ومسل بالنسبة لـ انطونيا هذا ما خطر لـ مرسيدس وهى تكافح لتبقى قريبة من صديقتها التى راحت تشق طريقها عبر سلسلة من الغرف الضخمة المكتظة بالضيوف . كانت انطونيا تتوقف من حين إلى آخر لتعرفها إلى شخص ما لكن ضجيج الكلام من حولهم كان عالياً وحشود الناس كثيرة ما جعل مرسيدس تعجز عن حفظ الأسماء قبل أن تتحركا مجدداً .
وما زاد الطين بلة هو انها أدركت انها لم تفهم سوى نصف ما قيل من كلام فبالرغم من أن لغتها الانكليزية جيدة إلا أنها لم تتمكن من التعامل مع الأسئلة المطروحة والتعليقات الضاحكة التى تعالت مع الموسيقى الصاخبة .
وفيما كانت فى أسوأ حالتها رفعت رأسها ورأت الرجل المستند إلى الحائط البعيد.
أليكس!
أول ما خطر فى بالها هو أنه يشبه شقيقها أليكس . لكنها ما لبثت أن أدركت ان أليكس لا يمكن ان يتواجد هنا.....كما أن هذا الرجل لا يشبهه إلى هذا الحد.
كان طويلاً عريض المنكبين وشعره بنى اللون. أما عيناه أو ما استطاعت أن ترى منهما منتديات ليلاس لأنهما كانا ضيقين فى تقييم حاد فبدتا زرقاوين أو فاتحتى اللون بشكل لم تتوقعه . لكن الضوء خدعها للحظة او لعله طوله أو لون شعره ما جعلها تعتقد أنه أليكس . فكل ما فى هذا الرجل أنبأها بأنه لا يشبه أى شخص آخر . فهو هو نفسه بشكل كلى ومتفرد.
وما كان عليه مذهل غامض مدمر بكل ما للكلمة من معنى مما جعله يبرز من بين حشود الأناس الأنيقين و الوسيمين من حولها .
ـ تونيا ؟
مدت يدها لتلامس ذراع صديقتها فى محاولة منها للفت انتباهها
ـ من....؟
لكن الكلمات ارتجفت على شفتيها حين رأته يحدق إليها مباشرة.
لم تكن نظرته وحسب بل الطريقة التى نظر فيها باتجاهها نظرة باردة و بتقطيبة جعلت عينيه يضيقان هى التى جعلتها تجمد. أقشعر بدنها حذراً فى رد فعل قلق وغريب على تقطيبته المقيمة.
وعلى الفور تحركت آليات الدفاع عن نفسها لديها.
لم تكن تعرف هوية هذا الرجل....أو لما يحدق إليها بهذه الطريقة . كل ما تعرفه هو انها لن تدعه يتحداها....وأنها مصممة على ألا تظهر له و لو للحظة واحدة كم أثر فيها و إلى أى مدى يقلق راحة نفسها و يشوشها . شعرت بوجهها يشتد و كأن بشرتها جفت فأشتدت لتغطى العظام . ثبتت حنكها غريزياً مما جعل فمها يبدو صارماً للغاية. ورفعت رأسها و ذقنها فى حركة تحدى.
إلا أن التأثير جاء خاطئاً كلياً . فقد لاحظت أن تعابير وجهه قست فجأة كما لاحظت الازدراء اللاذع فى نظرته التى شملتها من رأسها حتى اخمص قدميها.
شعرت زهرة منسية أن تلك النظرة تصدر عليها حكماً . تقدرها لتجدها دون المستوى المطلوب ولتصرفها وكأنها لا تستحق أبداً أى اهتمام.
و ما أدركت هذه الحقيقة حتى استدار و ابتعد تاركاً إياها ترتجف و كان تلك النظرة الحارقة تركت أثراً مادياً مادياً فعلياً عليها وأمتصت القوة من ساقيها وانتزعت طبقة الجلد التى تحميها . شعرت أنها ضعيفة وسريعة العطب كما أحست بالاستياء....وأكثر ما ساءها هو أنها لم تستطيع أن تحدد سبب شعورها هذا.
ـ مرسيدس ؟
صوت تونيا أخترق مزاجها السئ و المرتجف.
ـ هل أنت بخير؟
ـ ماذا.....نعم......بخير
منتديات ليلاس
وابتسمت ابتسامة مشرقة ابتسامة أملت ان تكون مقنعةثم صرفت ذكرى تلك النظرة الباردة المزدرية.
قالت فى سرها إنها ستنساه , ستنساه كلياً ولن تدعه يزعجها مجدداً. أمامها أسبوع آخر فى انكلترا ولن تدع رجلاً مجهولاً يفسد عليها رحلتها. فهذه الرحلة قد تكون المرة الوحيدة التى تكتشف فيها معنى الحرية . حرية الابتعاد عن قواعد الحياة الاجتماعية الاسبانية و قيودها.
يُفترض بها أثناء وجودها هنا أن تفكر فى مستقبلها....أو على الأصح المستقبل الذى يأمل ميغيل هرنانديز وعائلته أن تفكر فيه.
لقد خرجت مع ميغل لفترة فأمل أن تتطور علاقتهما أكثر وهذا ما يوافق عليه والدها طبعاً . فعائلة هرنانديز ثرية و محترمة . وهذه فرصة جيدة و مناسبة لها....لم يقل والدها هذه الكلمات حرفياً لكنها رأتها فى عينيه عندما تحدث عن ميغيل . إنما ما ارتسم على وجه والدىّ ميغيل كان أكثر تعبيراً فزواج ابنهما من أبنة خوان ألكولار الوحيدة حلم يتحقق بالنسبة إليهما فهى الكنة الممتاز....الجائزة الكبرى فى نظرهما.
ولهذا السبب فرت إلى انكلترا بحجة التفكير فى المسألة . شعرت بالحاجة إلى الفرار من الضغط و من فكرة أنها جائزة فى برنامج زواج ولأنها لم تكن واثقة من أن مشاعرها نحو ميغيل تتعدى الحنان حاولت أن تستمتع قدر المستطاع فى لندن.....حتى الساعة.
ـ مرسيدس أنظرى.
شدت أنطونيا ذراع صديقتها تلفت انتباهها وأردفت:"هناك...إنه..."
و فى خضم الضجيج لم تسمع مرسيدس الاسم لكنها عرفت الملامح الوسيمة لبطل أحدث الأفلام الانكليزية الذى دخل لتوه الغرفة وقد تأبطت ذراعه فتاة شقراء رائعة الجمال.
تنهدت أنطونيا ثم قالت :"أليس رائعاً!؟"
لم تجد مرسيدس ما تقوله فاكتفت بالهمهمة عليها أن تجد تفسيراً لما يجرى و لما تشعر به و التفسير هو آخر ما تريد القيام به الآن.
لقد عاد الرجل . بشكل غير متوقع عاد على الغرفة و ها هو يستند إلى الحائط على مسافة منها . ها هو يراقبها مجدداً. كان بإمكانها أن تشعر بنظرته المحرقة على بشرتها حتى من دون أن تجرؤ على النظر بإتجاهه.
أضافت رغماً عنها عندما بدا جلياً أن صديقتها تنتظر رداً منها :"ليس النوع المفضل لدى"
ـ لابد أنك تمزحين....من هو إذن؟ آهت مرسيدس ليس هذا !
وأصدرت صوت احتجاج مصدوم وغير مصدق حين أومأت مرسيدس برأسها نحو الرجل الطويل الغامض فى بذلته الأنيقة الرمادية اللون . وكانت امرأة فاتنة حمراء الشعر قد شتت انتباهه ما مكن مرسيدس من النظر إليه من دون مخاطرة.
سألت بحدة :"لِمَ لا؟ هل هو متزوج؟"
ـ مستحيل!
وكانت تعابير وجه انطونيا أبلغ من الكلام.
ـ هذا جايك تافرنر . جايك من ""تافرنر للاتصالات" ,تافرنر"
وعندما نظرت إليها مرسيدس وقد بدا لها أن الاسم لا يعنى لها شيئاً أردفت:"وهو معروف أيضاً باسم جايك"الزواج ليس لى" تافرنر"
ـ هذا ما قاله أخى فى الماضى
وابتسمت مرسيدس وهى تفكر فى زواج جواكين مؤخراً....و فى اعلانه وزوجته كاسى أنهما ينتظران طفلاً
ـ ل بدل رأيه
ـ حسناً لا أعتقد أن جايك سيبدل رأيه . فما من أحد يبقى معه بما يكفى ليؤثر فيه. سمعت أنه يتخلص مكن....
وتبخرت الكلمات المتبقية فيما تغيرت تعابير أنطونيا فجأة وعندما ألقت نظرة سريعة ثم أشاحت بنظرها على الفور شعرت مرسيدس برعشات ترقب و خوف تجرى على طول عمودها الفقرى .
وهمست من زاوية فمها :"مرسيدس لا تنظرى على الفور....لكنه يتقدم منا.....يتوجه نحونا مباشرة !"
|