تثاءبت مرسيدس و تمطت ثم فركت عينيها بقوة فى محاولة منها لإيقاظ نفسها وللعودة إلى الحياة.
محاولة فاشلة لا جدوى منها . ما كان بإمكانها أن تشعر بأنها مستيقظة و حية حتى ولو حاولت . خمس ليالٍ من دون نوم يمكن أن تفعل بها هذا.
خمس ليالٍ أمضتها تتقلب فى فراشها غير قادرة على الارتياح عاجزة عن النوم.
خمس ليالٍ أمضتها مستلقية على ظهرها...تحدق إلى السقف المطلى باللون الأبيض محاولة التفكير فى حل ما.
حاولت ألا تفكر فى جايك .
مجرد التفكير فى جايك يؤرّق جفنيها و يحرمها نعمة النوم مهما بلغ التعب منها و مهما أجهدت نفسها أثناء النهار.
و قد حاولت ذلك...حاولت جاهدة.
منذ اللحظة التى اضطرت فيها إلى العودة إلى قاعة الرقص ليلة زفاف رامون حاولت بطريقة أو بأخرى أن تطرد جايك تافرنر من رأسها....
لكنها فشلت فشلاً ذريعاً.
كان من المستحيل أن تفعل أى شئ تلك الليلة فبعد أن أصر جايك على أن يلعبا مسرحية الخطيبين الجديدين أصبحت مجبرة على البقاء بقربه إلى حد كرهته. كان عليها أن تبقى إلى جانبه فلم تتمكن من الخلاص منه أبداً.
لذا رقصت معه و تحدثت معه و أجبرت نفسها على رسم ابتسامة مشرقة على وجهها و على إظهار كل الاهتمام بكل ما يقوله حتى شعرت و كأن عضلاتها المشدودة ستتكسر بفعل التوتر و الإجهاد . كان التعب قد بلغ منها مبلغاً بحيث عجزت عن التفكير أو الشعور ما ساعدها على تحمل الإعلان الذى خطر لوالدها أن يقوم به.
قال خوان بعد ان وقف وسط قاعة الرقص حيث تعزف الفرقة الموسيقية :"كلكم تعلمون أننا نحتفل الليلة بزفاف أحد أبنائى , رامون , و عروسه الجميلة استريللا . لكن بعضاً منكم لا يعرف أن لدى أسرتى سبباً آخر للاحتفال....."
غمغمت مرسيدس :"آه , لا! أرجوك , لا ! آه , لا تفعل !"
لكن والدها لم يسمعها بالطبع وحتى لو سمعها فهى واثقة من أنه ما كان ليكترث لكلامها . كان مصمماً على القيام بهذا الإعلان وما من شئ يمكن ان يقف فى طريقه .
ــ يسعدنى كثيراً أن أعلن الآن ان أبنتى الحبيبة الوحيدة مرسيدس أعلنت ارتباطها...بــ جايك تافرنر . صاحب شركة تافرنر للاتصالات .
ــ ابتسمى!
همس صوت من خلفها بهذه الكلمة فأدركت أن جايك الذى غاب عنها لدقائق معدودات دقائق كانت بحاجة ماسة إليها عاد ليلعب دور الخطيب المحب مرة أخرى.
ــ لا أشعر برغبة فى الابتسام
غمغمت مرسيدس بهذا الرد من زاوية فمها وهى تدرك أن جايك وحده سيسمع كلماتها التى كتمها التصفيق الذى تعالى من الحضور رداً على أعلان أبيها.
ــ أنا أيضاً لا أشعر بأى رغبة فى الابتسام لكن الكل يتوقع منا ذلك...... فابتسمى !
وأحاط خسرها بذراعه وشدها إلى جسده الدافئ و القوى ورأت بطرف عينيها جايك يبتسم ابتسامة عريضة رداً التهانى الموجهة إليهما .
حاولت بضعف أن تحذو حذوه مجبرة زاويتى فمها الذى رفض أن يطاوعها على الأرتفاع و خديها على التغضن فى ما قد يبدو من بعيد كتلك الابتسامة التى طالبها بها جايك.
جايك تافرنر....صاحب شركة تافرنر للاتصالات. ما كان والدها ليسقط هذه النقطة بالطبع . لابد أنه يعتبر هذه الخطوبة ضربة موفقة ويود أن يعلم الموجودون كلهم بذلك. فبعد ان أكسبهم زواج رامون من استريللا شركة التلفزيون العائدة لوالدها كجزء من مهر العروس هاهى تربط إمبراطورة ألكولار الإعلامية بالشركة البريطانية الضخمة.
منتديات ليلاس
أو على الأقل هذا ما ظن أن المستقبل يخبيه له . وارتعشت مرسيدس فى أعماقها لفكرة ما قد يحصل حين يكتشف الحقيقة.
وازدادت الرعشة وتحولت إلى رعدة حالمة أحست بــ جايك يتحرك و ما هى إلا لحظة حتى هددت ركبتاها بالارتخاء بمجرد أن شعرت بذراع جايك تشتد على خصرها و تمسك بها بقوة لتعانقها بشغف.
ــ هذا جزء صغير من الحد من الضرر.
همس بذلك ما جعل حنجرتها تجف ورأسها يدور ثم أردف :"فى حال بقى أى أثر من شجارنا و الهرج و المرج الذى حصل فى الخارج فقد سعى والدك إلى التأكد من أن الكل يعرف القصة الحقيقية"
ــ لكنها ليست القصة الحقيقية
خرجت الكلمات من فمها بصوت أشبه بفحيح الأفعى فيما بدا أن دماغها يكاد ينفجر بعد ان انقسم بين رغبتها فى الفرار من قبضته التى تتحكم فيها و حاجتها إلى الاستناد إليه بضعف و تركه يعانقها بكل بساطة.
وتابعت تقول :"وأنت تعرف ذلك تمام المعرفة !"
رد جايك متجاهلاً الاعتراض الغاضب فى صوتها :"هل لى أن أقترح أن تتعابى لعب دورك قبل أن يلاحظ أحدهم أنك تبدين كشخص يعانى من سوء هضم شديد بدلاً من تلك العروس المبتهجة التى تهيم وجداً التى يفترض بك أن تكونى و يبدأ التساؤل ما الخطب؟"
ــ سيسرنى كثيراً أن أخبرهم !
أنبها جايك بلطف مفرط :"كاذبة . أنت تفضلين حالياً الموت على الاعتراف بما قد يعرّضك للإذلال العلنى. لذا لِمَ لا تبذلين بعض الجهود لتبدو هذه النظرة واقعية على الأقل؟ عندئذٍ و إذا ما أجدت لعب دورك فسأدعك تعاقبيننى لاحقاً....عندما نصبح لوحدنا"
الشهوانية الخفية و العميقة فى نبرته لم تترك لدى مرسيدس مجالاً للشك فى ما تخيله من "عقاب". كانت الصورة إباحية إلى درجة أنها وصلت مباشرة إلى ما تبقى من دماغها كالبخار المسكر فأحاطت به فى ثوان.
و فى محاولة منها للسيطرة على أفكارها الجامحة عضت بقوة على شفتها السفلى الزهرية اللون كابحة الأنين الخائن الذى هدد بالخروج من بين شفتيها.
أنى له أن يعرفها جيداً بهذا الشكل؟ فهى لم تمضى سوى ثلاثة أيام برفقة هذا الرجل....ثلاثة أيام لم تمضيها بأكملها معه....و ها هو قادر على قراءة أفكارها كمن يقرأ فى كتاب مفتوح.بدا قادراً على تفسير أفكارها و على تنبؤ بما ستقوله و ما شعر به. و قد أستخدم هذه المعرفة بقساوة و أستغل الوضع....و أستغلها هى....كما يشاء .
فهل يعلم أن ذراعه التى تحيط بخصرها هكذا تثير مشاعرها إلى أقصى حد وأنها تكافح بيأس لإحفاء هذه المشاعر ؟ لابد أنه يعرف . كيف يمكن ألا يعرف.
لعله يعرف ذلك و هذا ما يريده فى أعماقه أيضاً؟
لابد انه أدرك كم ترغب فى إراحة رأسها على كتفه كم تود لو أن ذراعيه تحتضانها بشغف أكبر يجعل قلبها يدوى كأعنف عاصفة شهدها العالم . لابد أنه أحس كم تتمنى لو أن قاعة الرقص كلها و كل ما فيها يختفون و يتبخرون فلا يبقى فى العالم سواهما هى وهذا الرجل . هذا الرجل الذى بإمكانه أن يحولها إلى شخص مختلف كلياً شخص لا تعرفه أو تتعرف إليه. فبين ذراعيه تختفى مرسيدس المنطقية والمسيطرة على نفسها لتحل محلها امرأة مشوبة بالعاطفة امرأة بالكاد تستطيع كبح رغباتها.
راحت مرسيدس تتقلب الآن فى فراشها متعبة , مضطربة لمجرد ذكرى ما شعرت به حينذاك . شعرت بأن الأغطية الدافئة جداً وثقيلة جداً فرمتها جانباً و هى تهمس بشتيمة غير مهتمة ما إذا سقطت من الجهة الأخرى من السرير
بطريقة ما كبحت جماح نفسها و قاومت رغباتها رغم أن كل عصب فى جسدها صرخ معترضاً بغضب بسبب العذاب الذى أنزلته به . لم تستسلم للإغراء الذى عذبها و لايمكنها الآن سوى أن تشكر الله لأنها تمكنت من الحفاظ على رباطة جأشها . فتعليق جايك التالى أوضح لها كم كانت تبدو غبية و ساذجة لو أظهرت لما تشعر به.
فذهنه مشغول كلياً بالمسائل العملية و بالحاجة إلى متابعة الخدعة التى أبتكرها ليقنع أسرتها و أصدقاءها . ما من شئ عاطفى فى أفكاره.
ــ ربما ينبغى أن تعرفى أين أقيم؟سيبدو الأمر غريباً أن لم يكن لدى خطيبتى المزعومة أى فكرة أين يمكن أن تجدنى بعد أنتهاء هذه السهرة.....سأبدو كسندريللا بصورة معاكسة.
و تنهدت مدركة أنه محق و متمنية لو لم يكن كذلك. وتابعت تسأل:"أين ستكون؟أى فندق؟"
ــ أنا لا انزل فى فندق بل أقيم فى المدينة. أعطانى رامون شقته لأستخدمها أثناء غيابه.
ــ رامون؟ آه طبعاً , فأنت ضيفه . إذن كيف تعرفت إليه؟ لم تأتِ على ذكر الأمر من قبل .
تجنب جايك إعطاءها جواباً قاطعاً و أكتفى بالقول :"نحن نعمل فى المجال نفسه"
إذا ما أدركت كم يعرف رامون جيداً فقد تبدأ بجمع الأمور مع بعضها البعض لتصل إلى نتيجة لا يريدها أن تفكر فيها حتى .
ــ ولكم من الوقت ستسخدم شقته؟
ــ سأعتنى بها أثناء غيابه فى شهر العسل
ــ لكنه سيغيب هو و استريللا مدة شهر !
ــ إذن سأقيم فى شقته أثناء هذا الشهر.
لا يمكنه ذلك. آه , أرجو ألا يكون هذا صحيحاً ! أرجو من الله ان يكون كلامه مجرد مزاح....و أنه أختلق هذه القصة بأكملها !
نهضت مرسيدس من فراشها بعد أن عجزت عن البقاء هادئة ثم توجهت على النافذة وهى تمرر يدها فى شعرها الأسود الحريرى الطويل .
ظنت أنه سيبقى ليوم أو أثنين.....ثلاثة أيام كحد أقصى. ولن تحتمل سوى بعض ساعات فى اليوم لعب دور الخطيبة ثم يرحل عائداً إلى انكلترا فترتاح و تتحرر منه.
وبعد ذلك؟
حسناً ستتخذ قرارها لاحقاً . يمكنهما أن يطيلا المسرحية قليلاً و أن يأخذا الأمور بروية فيتركان ذكرى تلك الليلة فى حدائق القصر تذوى و تغيب عن أذهان الناس حتى ينسونها أو حتى تشغل بالهم فضيحة أخرى محتملة. عندئذٍ يمكنها أن تلمح إلى وجود خلافات بينها و بين جايك وأنهما يتشاجران و يواجهان بعض المشاكل. يمكنها حتى أن تقوم برحلة إلى انكلترابحجة مناقشة مشاكلهما و محاولة إيجاد حل لها لكنها "ستفشل" طبعاً
وهى ليست مضطرة حتى لرؤية جايك فى أى مرحلة من هذه المراحل .
يكفى ان تقول أنها قابلته.
يمكنها بعدئذٍ أن تعود إلى المنزل مع قصة عن أن الأمور ساءت للغاية.... وأن شجاراً عظيماً وقع بينهما....فقررا أن ينفصلا عن بعضهما البعض.... لا لا يمكن إصلاح الأمور ما من أمل أبداً . قد تضطر إلى التظاهر بالحزن والأسى لكن هذه الحالة لن تدوم طويلاً. حينذاك ستنتهى هذه المهزلة و تعود حرة.
بدت لها هذه الفكرة الآن معدومة الأمل حلماً سخيفاً . فبدلاً من ذلك ستضطر للعب دور خطيبة جايك لما تبقى من الأسابيع الأربعة أثناء إقامته فى شقة أخيها التى لاتبعد سوى عشرة دقائق عن منزلها.
أمضت خمس أيام تلعب دوراً يجعلها التفكير فيه تصاب بالغثيان.
وإذا ما كانت ليلة الزفاف سيئة فالأيام التى تلتها كانت أشبه بالجحيم على الأرض. حضر جايك إلى منزلها يومياً ولعب دور الخطيب المهتم و المخلص فاضطرت إلى السير على خطاه فى كل ما يفعله.
والأسوأ هو تعلق أسرتها به . فــ جواكين و أليكس يعاملانه و كأنهما صديقاه منذ سنوات و بديا على وفاق تام معه. حتى والدها الذى يتعامل عادة بطريقة رسمية مع الغرباء بدا محباً على غير عادته ما زاد الدور الذى تلعبه...أو الكذبة التى أختلقتها.....سوءاً
لا يمكنها أن تفعل هذا! لايمكنها لن تفعل هذا!
لكن هل لديها خيار آخر ؟ منذ ان بقيت صامتة حين ادعى جايك أنه خطيبها اضطرت إلى مجاراته وارتبط مصيرها له. عليها أن تمضى قدماً فى هذا سواء شاءت ذلك أم أبت.الأسابيع القليلة المقبلة بدت لها أشبه بعقوبة بالسجن لا تعرف كيف ستمضيها .
لن تتحمل هذه العقوبة!
عندما أتخذت قرارها هذا استدارت مبتعدة عن النافذة و توجهت إلى الخزانة لتخرج الملابس بشكل عشوائى.
لا يمكن لهذه المهزلة أن تستمر أكثر. لن تدعها تستمر! ستقابل جايك و تبلغه أنها ترفض الاستمرار فى لعبته. ستطالبه بوضع حد لها و سيجدان معاً مخرجاً من هذا المأزق.
مـــنــتـــديــاتـــ لـــيــلاســ