أنتفض قلبها و توقف عن الخفقان للحظة طويلة , رهيبة ثم عاد ينبض مجدداً بسرعة مضاعفة . إلا أن هذه اللحظة كانت كافية كى يتحلق باقية أفراد الأسرة من حولها. بنية أخيها الأكبر جواكين الضخمة و ذراع الموضوعة حول كتفى زوجته الحامل حالتا دونها و دون تحديق عينيه البارد.كما أحاط بها أليكس و زوجته لويز و طفلتهما . حتى والدها الرجل الذى لم يعتد إظهار عواطفه سواء بالتصرفات أو بالكلام . انضم غليهم ليلوح للسيارة, وعندما التفتت مجدداً كان جايك تافرنر قد اختفى.
شعرت بارتياح شديد أشبه بمياه باردة سكبت عليها حتى أنها مالت نحو أبيها تستند إليه وأراحت يدها على ذراعه القوية لتسند نفسها .
لعله لم يعرفها ولعلها تخدع نفسها إذا ظنت انها ستعلق فى ذاكرة رجل كــ جايك تافرنر.
أو لعل الرسالة القاسية و السليطة التى أخذت تونيا على عاتقها مهمة إيصالها إليه قد تركت فيه الأثر المطلوب وجعلته يبتعد عنها نهائياً.
لعلها نجحت فى هذه المسألة كلها.
ــ مرسيدس.....
الصوت الذى تناهى إليها من خلفها جعل حركتها تجمد للحظة, و دفعها للتوقف بشكل مفاجئ فى البهو المزين.
رجل وحيد يلفظ أسمها بهذه الطريقة . رجل وحيد يستخدم اللفظ الإسبانى الأصلى إنما مع لكنة انطليزية خفيفة بكريقة حركت ذكرياتها على نغمات من نار
ــ مرسيدس.
آه, لا ! يا إلهى, أرجوك لا.
مـــنــــتـــديــــاتــــــ لــــيـــــلاســـــ
رآها ما أن دخلت إلى الكنيسة.
وتساءل جايك تافرنر كيف يمكنه ألا يفعل, وهذا القدّ الأنيق والرشيق و هذا الوجه الجميل عالقان فى ذاكرته لا يفارقان ذهنه منذ أسابيع.لم يستطيع أن يطردها من ذهنه منذ ذاك الحين. إنما ما لم يتوقعه هو تأثير ظهورها فيه على الصعيد الجسدى فشعوره كان أشبه بانفجار جعله يرتد إلى الخلف فى المقعد الخشبى حيث جلس كسواه فى انتظار وصول عروس ابن خالته.
لم يستطع ان يحدد الشعور الذى ترك الأثر الأكبر فيه: أهو الحاجة الجسدية الملحة التى عذبته وجعلت أفكاره تجمح أم الغضب البارد المرعب الذى سرى فيه كتيار كهربائى مهدداً بالطغيان على غيره من المشاعر.
راح يراقبها وهى تقطع ممشى الكنيسة مرتدية سترة صيفية زرقاء أبرزت قوامها الممشوق وتنورة قصيرة بالكاد تصل إلى ركبتيها . تردد وقع كعبى حذائها العاليين على الأرض المرصوفة فى أنحاء الكنيسة وكاد يقسم على أنه أشتم عطرها وهى تمر بجانبه غافلة كلياً عن وجوده. كان شعرها الفاحم يلمع بعد أن تركته ينسدل فى خصل ناعمة حريرية حول وجهها البيضاوى . أما عيناها فبالرغم انه لا يراهما من حيث يجلس إلا أنه يعلم أنهما بنيتان داكنتان كالشوكولا الغنية و مغريتان مثلها.
ـ نعم.....هذا صحيح . اسمى مرسيدس ألكولار.......
صدى صوتها تردد فى ذهنه وأعاده إلى تلك اللحظة حين قدم نفسه إليها . وقع الكلمات الناعم المغرى عززه تأثير لكنتها الاسبانية المترددة الايقاعية والتف على حواسه فتركه سجيناً فى لحظة.
لم يستطيع حينذاك أن يفكر فى أى شئ آخر سوى هذه المرأة و إغرائها.
الأفكار هاجمته الان من جديد إنما فى المكان غير المناسب وفى الوقت غير المناسب.
إلا انه لاحظ الطريقة التى ارتاحت بها يد مرسيدس على ذراع رجل آخر فى لمسة حميمة و مسترخية لأصابعها على السترة السوداء .ابتسامتها له كانت دافئة و جذابة.....دافئة و جذابة بقدر الابتسامة التى منحته إياها....فجاء رد فعل رفيقها فورياً وأحنى رأسه الداكن ليسمع ما قالته.
لاحظ جايك بعبوس أن هذا الرجل ليس أحد أخواتها . وأشاح بنظره رغماً عنه مركزاً عينيه على المذبح حيث وقف رامون وشقيقاه بانتظار وصول العروس . ليس أحد أخواتها إلا انه لم يسمح لنفسه بالتفكير فى من قد يكون هذا الرجل لئلا يتصاعد الغضب الجامح الذى يغلى فى أحشائه وينفجر بطريقة تفسد يومه.....و سمعته....إلى الأبد.
لذا كبح نيران غضبه وسيطر عليها بفضل قوة إرادته و رفض أن يسمح لنفسه بإلقاء نظرة أخرى إلى مرسيدس . وتمكن بطريقة ما من الالتزام بقراره طيلة مراسم الزفاف وحتى خلال حفل الاستقبال إلا أن الصراع الذى خاضه ضد طباعه جعل من المستحيل عليه ان يتناول لقمة واحدة ما زاد من عصبيته و سوء مزاجه . كان يرمقها بنظرة من حين إلى آخر فيجدها مجدداً مع رفيقها الطويل القامة الأسود الشعر لكنه يعود و يجبر نفسه على الإشاحة بنظره سريعاً قبل أن يفقد سيطرته على نفسه كلياً. لن يفسد يوم رامون واستريللا لكن حين ما يرحلان....سيكون لديه ما يقوله لــ مرسيدس ألكولار فعليهما أن يتحدثا جدياً.
حالفه حظه حين تجاوزت الليموزين التى حملت العروسين إلى حيث سيقضيان شهر عسلهما , بوابات كاستيللو أختفت عن الأنظار . فالضيوف و أفراد العائلة الذين اجتمعوا فى الخارج للتلويح للعروسين استداروا على أعقابهم و عادوا إلى الداخل وهم يتحادثون و يضحكون . ومن خلفهم أنيقة ومغرية فى بذلتها المتقنة التفصيل و بالكعبين العاليين اللذين جعلا تقدمها فى الباحة بطيئاً وغير واثق مشيت وحيدة المرأة التى يسعى وراءها.
ــ مرسيدس.....
ظن فى البدء أنها لم تسمعه إذ لم تدر رأسها فيما بقيت كتفاها مشدودتان كالدرع فى مواجهة أى هجوم . إلا أنه لاحظ ان خطاها التى عكست تصميمها اهتزت قليلاً وتباطأت .
ــ مرسيدس
ناداها مجدداً قبل أن يتقدم منها ويمسك بذراعها ليوقفها .
توقفت فجأة لاهثة . وللحظة فقط اتسعت عيناها الداكنتان و ظهر فيهما بريق غريب لكنها ما لبثت أن تمالكت نفسها فيما عاد قناع الهدوء إلى ملامحها الجميلة .
تحولت فى لحظة إلى امرأة أخرى امرأة تختلف كلياً عن تلك التى عرفها فى لندن.
تلك المرأة كانت من نار و حرارة مشرقة كشمس الصيف . أما هذه فقطعة....لا بل جبل من جليد إذ لم يظهر عليها أى أنفعال وبدا جسمها الأنيق مشدوداً و وجهها خاياً من أى تعبير لا سيما تنيك العينين الباردتين اللتين حدقتا إلى عينيه.
هذه المرأة هى صاحبة النظرة الباردة المرأة المتعجرفة الذى رمقته بنظرة جليدية عبر الغرفة.
ــ هل أعرفك؟
استطاعت أن تنطق بهذه الكلمات وكأنها تجبرها على الخروج من بين شفتيها المطبقتين.
وأردفت:"هل التقينا من قبل؟"
كانت مقتنعة بأنها كانت لتخدع أى رجل آخر أضعف منه من حيث الشخصية . أى رجل أقل منه قدرة على ملاحظة ما كان ليلاحظ الوميض المعبر الذى ظهر على وجهها للحظة فاضحاً مشاعرها الدفينة. لكن جايك رآه كما لاحظ بريق عينيها المفاجئ . ذاك البريق الذى حول الشوكولا الغنى إلى برونز حام وأعلمه أنها تحس بوجوده بقدر ما يشعر هو بوجودها.
ــ هل هذا سؤال جاد؟
منتديات ليلاس
طرح عليها سؤاله هذا غير مصدق أنها تحاول خداعه بهذه الطريقة.
ــ جدى للغاية
وأرتفع ذقنها أكثر فى حركة تحدٍ ليعلو أنفها أعلى فى الهواء . أما العينان الداكنتان الباردتان فقابلتا عينيه ولم يقرأ فيهما أى شعور سوى الرفض والنبذ.
ــ هل أعرفك؟
ــ أنت تعلمين زهرة منسية أنك تعرفينى.
وتمكنت حتى من الابتسام رغم أن هذه الابتسامة بدت كاذبة ومفتعلة بحيث يكاد يتوقع شظاياها على الأرض عند قدميه .
ــ أعتقد أنك مخطئ....يا سيد....
لم يحاول جايك أن يرد على إشارتها إلى ان عليه ان يعرف عن نفسه فهذا التصرف لم يقنعه ولو للحظة.
ــ ما من خطأ أؤكد لك. أنت تعلمين ذلك وأنا أعلم ذلك....لكن إذا كنت بحاجة إلى مزيد من الإقناع.....
كان يفكر فى هذه اللحظة تحديداً وهو يحزم حقائبه وهذا الصباح أيضاً و هو يرتدى ملابسه ليشارك فى حفل الزفاف ففى جيب سترته الأيسر يقبع الدليل....الوشاح الصغير الذى تركته خلفها حين فرت تلك الليلة فى لندن والذى أخبرته أنه هدية عزيزة على قبلها من والدتها الحبيبة . أخرجه من جيبه وفتح أصابعه بما يكفى لترى ما يحمله....إنما من دون ان يسمح لها بالوصول إليه فى محاولة منها لاختطافه منه.رد الفعل جاء كما أمل تماماً .
خرجت أنفاسها فى شهقة صدمة واختفى اللون عن خديها فبدا فمها الذى زينته بأحمر شفاه زاهى متناقضاً مع بشرتها الشاحبة
فتحت فمها للتكلم ثم عادت وأطبقته مجدداً فيما ابتلعت ريقها بصعوبة. كانت على وشك أن تحاول الكلام مرة ثانية عندما ظهر رجل طويل أسمر فى الباب بدا جالياً أنه يبحث عنها.
ــ مرسيدس هل ستأتين؟ نحن ننتظر.....
بالطبع ! شد جايك حنكه ليكبح الغضب الذى كاد ينفجر . إنه خوان ألكولار رب الأسرة المعقدة كلها . رجل غنى صاحب نفوذ و متعجرف للغاية. الرجل الذى عبث بأسرة والدته بحيث لم تشف حقاً ولا تزال الذكريات المرة تنغص حياتها حتى اليوم . وهو والد مرسيدس أيضاً.
هل البنت نسخة عن ابيها؟
يبدو ذلك. وهو مستعد للمراهنة على ذلك على أى حال.
ــ أنا آتية يا أبى
يبدو أنها أستعادت رباطة جأشها . وعادت العينان الداكنتان إلى وجهه من دون اى أثر للنعومة فيهما.
ــ أرجو المعذرة.
كلماتها بالكاد كانت مؤدبة , فارتياحها لأنها أصبحت قادرة على الهروب منه جعلها لا تتردد فى قولها . فى الواقع كانت قد استدارت على عقبيها لترحل حين تكلم.
راقبها جايك وهى تتحرك باتجاه والدها . كان رأسها عالياً و ظهرها مستقيماً مشدوداً كما يبقيه والدها ولم تتكرم عليه حتى بنظرة واحدة.
البنت سر أبيها ! دمدم من بين أنفاسه :"لا , أيتها السيدة فأنت من ارتكب الخطأ"
بدا جلياً أن مرسيدس ألكولار أبنة أبيها . وينبغى عليه أن يتذكر هذا فى المستقبل .
وثمة مستقبل يجمع بينه وبين الآنسة ألكولار فهو مصمم على ذلك. لأنها أثرت فيه إلى حد كبير فأصبحت كعلة لا يستطيع أبداً أن يعالجها .
ولأن الأمور لا تزال عالقة بينه وبين الآنسة ألكولار أمور ينوى جايك أن ينهيها على طريقته .
لعلها تظن أنها أنهت قضية ما حصل بينهما فى لندن حين أدعت أنها لا تعرفه وان المسألة حُلت بمجرد أنها تركته و مشت.....لكنها مخطئة كلياً ستنتهى المسألة حين يقرر ذلك وليس قبل.