2 ـ
أغسطس قيصر
عند الساعة السابعة , وقفت هارييت تنظر من واجهة متجرها إلى
العاصفة في الخارج . كانت قد ذهبت إلى بيتها وغيرت ملابسها وعادت
بسرعة لئلا تجعله ينتظر طويلاً .
لكن يبدو أنه ليس دقيقاً في مواعيده فقد مضت الساعة السابعة منذ
عشر دقائق ولم يظهر بعد أي أثر له . وعند السابعة والربع تمتمت بشتيمة لا
تتلفظ بها سيدة مهذبة , ثم استعدت لمغادرة المتجر باستياء .
أقفلت المتجر وأخذت تحدق ساخطة إلى المطر المنهمر عندما توقفت
سيارة عند المنعطف وامتدت من بابها يد أمسكت بها , وأطبقت عليها قبضة
جبارة سحبتها إلى الداخل بسرعة .
ـ أعتذر لتأخري . لقد أعاقني المطر . المسرحية , لحسن الحظ , لا تبدأ
قبل الثامنة , لذا أظننا سنصل في الوقت المناسب .
سألته غير مصدقة : (( أنت حتماً لا تعني أنك وجدت تذكرتين ؟ )) .
ـ بلى طبعاً . لمــــاذا تشكين بي ؟
ـ ومن رشوت ؟
فقال ضاحكاً : (( كان الأمر أكثر نزاهة من ذلك بقليل )) .
ـ أعجبني هذا .
وأعجبها أكثر عندما اكتشفت أنه حجز أفضل مقصورة في المسرح . لا
شك في أن لهذا الرجل علاقات جيدة .
قدم ماركو إليها الكرسي الأقرب إلى خشبة المسرح , ما مكنه من النظر
إليها وإلى العرض في الوقت نفسه . لم يجدها رائعة الجمال , فقد كانت أكثر
نحافة مما ينبغي بقليل , لكنها بليونة عارضات الأزياء , كما أنها أنيقة , أو
على الأقل يمكنها أن تكون كذلك إذا اهتمت بمظهرها .
ثوب السهرة الذي ارتدته لم يكن سيئاً جداً , كان طوله يصل إلى
الكاحل , ويظهر رشاقة حركاتها . بدا لونه الأحمر القاتم رائعاً مع أنه لا
يتناسب مع شعرها البني المائل للاحمرار , وكان شعرها منسدلاً على كتفيها .
لو أنها ترفعه لكي يكشف عن وجهها وعنقها الطويل لكان ذلك أفضل
بكثير . أليس هناك من يخبرها بهذه الأشياء ؟
حليها القليلة لم تكن جميلة ولا متلائمة مع بعضها البعض . فقد يلائمها
أن تتزين بالذهب , وأن تختار حلياً كبيرة تتناسب مع شخصيتها القوية
الهادئة .
التفكير بالذهب ذكره بالقلادة , لكن مزاجه الآن جيد ولا يحمل لها أي
نية سيئة . وعلى أي حال محاورتهما الغاضبة كانت مفيدة لكسر الجليد
بينهما .
كان العرض المسرحي عبارة عن موسيقى عصرية بالغة الظرف حلوة
الأنغام . بدا الراقصون سريعي الحركة وبالغي الحيوية , وقد استمتعتا بذلك
معاً , وغادرا المسرح مسرورين . كان المطر قد توقف والسيارة تنتظرهما في
الخارج .
قال ماركو : (( أعرف مطعماً صغيراً يقدم ألذ الأطباق في لندن )) .
ثم أخذها إلى مكان لم تسمع به من قبل رغم أنها من سكان لندن ,
ودهشت قليلاً عن دخولها مطعماً فرنسياً لكنها ما لبثت أن أدركت بالضبط
ما يريه . . . فإذا كان ينوي حقاً أن يعبث معها ويوقعها في شباكه عليه أن
يثير دهشتها في البداية .
ـ ربما كان علي أن أسألك إذا كنت تحبين الطعام الفرنسي .
ألقى عليها هذا السؤال بعد أن جلسا معاً إلى مائدة هادئة .
ـ أحبه بقدر ما أحب الطعام الإيطالي تقريباً .
قالت هذا بالفرنسية . وقد يكون هذا زهواً منها , لكنها شعرت بأن
عرض مواهبها كلها قد يكون فكرة حسنة .
ـ أنت طبعاً غير متعصبة قومياً . عليك أن تكوني كذلك نظراً إلى نوع
عملك . هل تتكلمين الإسبانية ؟
ـ نعم , واليونانية واللاتينية أيضاً .
ـ اليونانية الحديثة أم القديمة ؟
ـ كلاهما .
وتجنبت أن تبدو في صوتها نبرة الاضطراب .
ـ طبعاً .
قال هذا بابتسامة خفيفة وهو يميل برأسه احتراماً .
كان الطعام لذيذاً حقاً . وكان ماركو خير مضيف , إذ بقي يسألها عما
ترغب بع من دون أن يضغط عليها بما يقترحه . وناسبها ذوقه تماماً .
بدا الضوء خافتاً عند مائدتهما , فهو عبارة عن شمعتين يتراقص لهبهما
على وجهيهما . بدا لها وسيماً للغاية وأنيقاً ببذلته الرسمية وقميصه الأبيض
الذي أبرز لون بشرته البرونزي . أما شفتاه الرقيقتان . فكانتا تبرزان ابتسامته
النادرة وتمنحانها مظهراً ساخراً كان يسرها .
لفتت عيناه انتباهها , فهما بنيتان داكنتان إلى حد السواد , تظللهما
جبهة عالية وحاجبان سميكان , ما أضفى على وجهه لمحة من الغموض
أثارت فضولها . من حسن الحظ أن ألومبيا نبهتها إلى ما سيجري , وإلا
لفوجئت تماماً , و لربما وجدته جذاباً إلى حد خطير . انتهزت الفرصة
وقررت أن تربكه قليلاً لمجرد الهزل .
فسألته ببراءة : (( ما الذي جاء بك إلى لندن ؟ العمل ؟ )) .
لعل السؤال فاجأه , لكنه لم يظهر ذلك : (( قليلاً , كما يجب أن أزور
اللايدي دولسي مادوكس التي أصبحت خطيبة ابن عمي غويدو منذ أسابيع
قليلة )) .
ـ هل هي ابنة اللورد مادوكس ؟
ـ نعم , أتعرفينها ؟
ـ جاءت إلى المتجر مرتين .
ـ شارية أم بائعة ؟
ـ بائعة .
وسكتت فجأة وقد أحست بأنها تدوس في حقل ألغام . فقال ماركو :
(( ربما كانت تبيع تحفاً من منزل أسلافها لكي تسدد ديون أبيها . فقد عرفت
أنه مقامر كبير )) .
ـ نعم , لكنني لا أحب أن أتكلم عن الآخرين .
ـ هذا شيء معروف . دلوسي مضطرة للعمل لتعيش . وكانت تعمل
وكيلة لمؤسسة استعلامات خاصة عندما جاءت إلى فينيسيا وتعرفت إلى
غويدو . ما رأيك فيها ؟
فقالت بحسد : (( إنها رائعة الجمال , بشعرها الطويل الأشقر ذاك , هل
مازال على حاله ؟ )) .
ـ نعم هي رائعة الجمال , وستبقي غويدو منضبطاً .
فضحكت : (( هل هو بحاجة إلى ذلك ؟ )) .
ـ بكل تأكيد , فغويدو ليس لديه أي حس بالمسؤولية . هذا قول عمي
فرانسيسكو بالمناسبة , الكونت كالـﭭـاني . كان متلهفاً ليتزوج غويدو وينجب
له وريثاُ .
ـ أليس لديه أبناء ؟
ـ لا . واللقب سيكون من نصيب أحد أبناء إخوته , والمفروض أن
يكون ليو , الأخ الأكبر غير الشقيق لغويدو . ولكن لأسباب قانونية , حُرم
من اللقب .
ـ هذا فظيع !
ـ ليو لا يظن هذا . فهو لا يريد أن يكون كونت , المشكلة أن غويدو
أيضاً لا يريد , لكن ذلك سيصبح قدره , وهكذا حاول عمي أن يجد له
عروساً مناسبة , ثم تخلى عن ذلك بائساً عندما وقع غويدو في غرام دولسي .
وعمي أيضاً , وقع في غرام مدبرة منزله منذ سنوات , وقد استطاع أخيراً
إقناعها بأن تتزوجه . إنه في السبعينات , وهي في الستينات , وهما الآن أشبه
بعصافير الحب .
فهتفت هارييت : (( كم هذا جميل ! )) .
ـ هذا صحيح , لكنه ليس رأي الجميع . فأمي مشمئزة لأنه تزوج
(( خادمة )) , كما تسميها .
ـ هل يهتم الناس بأمور كهذه هذه الأيام ؟
ـ البعض فقط . أمي رقيقة القلب , لكن نظرتها إلى هذا الأمر قديمة
الطراز .
ـ ماذا عنك أنت ؟
ـ أنا لا اتخذ دوماَ الطرق العصرية . أنا أتخذ قراراتي بعد طول تفكير .
ـ مدير أو صاحب مصرف مضطر إلى هذا , بطبيعة الحال .
ـ ليس دوماً , لدي سمعة بأنني أنجرف أحياناً .
فسألته بشكل غير إرادي : (( أنت ؟ )) .
فقال بجد : (( كنت معروفاً بتهوري أحياناً )) .
ـ لما فيه المصلحة طبعاً .
ـ طبعاً .
أخذت تتأمله لترى إن كان جاداً أم لا . وتكهن هو بما تفعل , فنظر
إليها بجفاء رافعاً حاجبيه وكأنه يسألها إن كانت تحققت من الأمر الآن .
طالت اللحظة فازداد شعوراً بالضيق وهو ينتبه إلى أن شيئاً في سلوكها قد
تغير .
سألها ليعيدها إلى الواقع : (( أتريدين مزيداً من العصير ؟ )) .
ـ آسفة , ماذا قلت ؟
ـ العصير ؟
ـ آه , لا . شكراً . سبق وقلت إن وجهك مألوف . يا ليتني أستطيع أن
أتذكـــر . . .
ـ ربما أذكرك حبيب سابق .
ـ آه , لا , منذ دهر وأنا وحيدة .
تمتمت بذلك وما زالت نظراتها شاخصة إليه .
لقد حيرته فهي تارة محنكة , وتارة خرقاء , ومع ذلك أصبح لديه
فكرة جيدة عنها .
سألها أثنــاء تنــاولها الطعــام : (( لِمَ أنت وأولمبيا من جنسيتين
مختلفتين ؟ )) .
فقالت بسرعة : (( لا , بل كلتانا إيطاليتان )) .
ـ نعم , من ناحية . . .
ـ من كل النواحــي .
قاطعته بنبرة متمردة وأكملت : (( وُلدت في إيطاليا وأبي إيطالي واسمي
إيطالي )) .
رأى لمعان الغضب في عينيها الواسعتين : (( أنا آسف , لم أكن أنوي أن
أجرحك )) .
ـ ألم تخبرك أولمبيا بالقصة ؟
ـ ليس تماماً . أنا أعلم أن أباك تزوج مرتين , ولكن , بطبيعة الحال ,
أولمبيا لا تعلم سوى القليل عن زوجته الأولى .
ـ أحبته أمي بشكل هائل , لكنه تخلى عنها عندما كنت في الخامسة من
عمري . أخبرتني أنه طردنا , نحن الاثنتين , من البيت .
سألها بصدمة حقيقية : (( هل أخبرتك أمك بذلك وأنت طفلة ؟ )) .
بدت شاردة الذهن : (( لكنني لم أصدقها . كنت أعبد أبي وكان يحبني
كثيراً . وعندما كان يعود إلى البيت كان ينادي اسمي أولاً . وظننت أن الأمر
سيبقى دوماً بهذا الشكل )) .
وعندما سكتت قال لها برفق : (( تابعي كلامك )) .
ـ لقد أقام علاقة مع امرأة أخرى . أراد طلاقاً سريعاً , فطردنا . قالت
أمي إنه أرغمها على العودة إلى إنكلترا مهدداً إياها بعدم إعطائها فلساً
واحداً , إذا لم تفعل .
فكر ماركو في غويزيب ديستينو , الرجل البدين الأناني ذي العينين
الباردتين . ولم يكن صعباً أن يصدق هذه القصة تماماً .
سألها بعطف : (( لا بد أن حياتك أصبحت حزينة بعد ذلك ؟ )) .
ـ عشت على أمل أن يدعوني لزيارته , لكنه لم يفعل قط , لم أفهم ما
فعلته لكي ينقلب ضدي . لم تنسه أمي يوماً , وبقيت حزينة حتى آخر يوم في
حياتها , لم تعش بعده سوى اثني عشر عاماً , ثم ألم بها المرض وماتت . عند
ذلك ظننته سيرسل إلي ليأخذني , لكنه لم يفعل . كنت على وشك دخول
الكلية يومها وقال إنه لا يريدني أن أقطع دراستي .
تمتم ماركو شيئاً أشبه بالشتيمة , وقالت هارييت بجفاء : (( أظنني
تأخرت في فهم الوضع . كم كنت غبية ! )) .
ـ هذا هو الأمر الوحيد الذي لا يمكن لأحد أن يتهمك به .
واخذ ماركو ينظر إليها باهتمام جديد . فقالت تصرف الأمر من
ذهنها : (( وما الذي تعرفه عني ؟ أنا غبية بالنسبة إلى الناس , لأنني لا أعرف
الكثير عنهم في الواقع )) .
ـ أو ربما تعرفين الكثير من الأشخاص السيئين .
قال هذا وهو يفكر في الأب الذي طردها من بيته بكل أنانية , والأم التي
حـمـلت الطفلة عبء أحزانها : (( هل رفضك أبوك كلياً ؟ )) .
ـ لا . لقد حافظ على شيء من المظاهر عندما لم يستطع تجنب ذلك .
درست في روما لمدة سنة , وقد اخترت ذلك متعمدة لأنه سيكون مرغماً على
أن يوليني بعض الاهتمام . حتى أنني ظننت أنه سيدعوني إلى السكن معه .
ـ لكنه لم يفعل ؟
ـ دعاني إلى العشاء عدة مرات , فكانت زوجته تحدق إلي طوال الوقت .
لكن أولمبيا كانت دوماً لطيفة ودوداً معي . وقد أصبحنا صديقتين . وبعد
ذلك أخد أبي يرسل إلي المال من وقت لآخر .
ـ هل ساعدك في المتجر ؟
ـ لا , لقد فتحته بالمال الذي ورثته من جدي .
ـ كان بإمكان أبيك أن يساعدك , كما كان عليه أن يواجه تلك المرأة .
ـ أتعني زوجته . هل تعرفها ؟
ـ وأكرهها أيضاً , كما يكرهها معظم الناس . طبعاً كانت مصممة على
أن تبقيك بعيدة عن أبيك , يا لك من فتاة مسكينة ! لم يكن لديك حظ في
ذلك .
ـ أظنني أعرف هذا الآن . لكنني حينذاك , ظننت أن بإمكاني أن أستميله
بالعمل الجيد , فأتعلم اللغات , وأنجح في الامتحانات وأكون إيطالية قدر
الإمكان .
كان اهتمام ماركو يزداد بنشأتها الغريبة التي جعلت منها شخصية غير
عادية . فسألها بفضول : (( هل ظننتني حقاً مبعوثاً من الحكمة ؟ )) .
فأطلقت ضحكة صغيرة : (( لوهلة , نعم , ظننتني أصبحت أميزهم
الآن . دوماً أفكر في أن أموري المالية ستتحسن وأسدد ديوني . . . حسناً , إنها
تتحسن أحياناً ولكنها سرعان ما تسوء مرة أخرى )) .
ـ ولكن لماذا ؟ متجرك ذاك يجب أن يكون منجم ذهب . وبضاعتك من
الدرجة الأولى . صحيح أنك أخطأت بالنسبة إلى القلادة الأثرية , ولكن . . .
ـ أنا لم أخطئ . . . لا بأس . أحياناً أكون في القمة وإذا بي أرى قطعة
رائعة حقاً أشعر بأن علي الحصول عليها , فتكون ضربة تعصف بكل ما جمعته
من مال .
ـ لماذا لا تبيعين متجرك ؟
ـ أبيعه ؟ أبداً . إنه حياتي .
ـ هناك أشياء أهم من الآثار .
ـ هذا غير صحيح .
ـ تبدين واثقة من ذلك .
ـ إنها ليست آثاراً فقط , بل هي عوالم أخرى تنفتح أمامي . إنك ترى
فيها آفاقاً فسيحة كانت منذ آلف السنين . . .
وشردت أفكارها مرة أخرى . وإذ أدرك أن من المستحيل أن يوقف هذا
السيل , جلس يصغي إليها ويفكر فيها في آن معاً . راح اهتمامه بها يزداد مع
مرور السهرة , بدت مثيرة للفضول , ذكية مثقفة وسريعة البديهة . ومن
المؤسف أنها لم تكن رائعة الجمال . . . أو هذا رأيه فيها حالياً . . . فقد كان
من الصعب معرفة ذلك وشعرها يغطي معظم وجهها . لكن عينيها
الخضراوين كانتا تنفثان ناراً عندما تتكلم عن (( العوالم الأخرى )) التي أحبتها ,
وفي عينيها هاتين رأى نوعاً من الجمال .
وصلت هارييت بجدالها المحموم إلى نهايته , فسألته بقلق : (( أنت لا
تظنني مجنونة , أليس كذلك ؟ )) .
ـ أنت شغوفة بعملك وذلك ليس جنوناً بل حسن حظ . إن إنقاذ
متجرك شيء يعنيك أنت أكثر من أي شخص آخر في العالم . وربما بإمكاني
أن أساعدك . كم تحتاجين لتتخلصي من ديونك ؟
ذكرت له رقماً كبيراً جعله يشعر بأنها غارقة في هوة عميقة فقال : (( إنه
مبلغ كبير لكن لكل شيء حل . أظننا في وضع نستطيع فيه أن نساعد بعضنا .
يمكنني أن أعطيك قرضاً يحل مشاكلك )) .
ـ ولكن لماذا تفعل ذلك ؟
ـ لأنني أريد شيئاً بالمقابل .
ـ هذا طبيعي , ولكن ما هو ؟
فتردد قليلاً : (( قد ترين اقتراحي هذا غريباً نوعاً ما لكنني فكرت فيه
جيداً , وأؤكد لك أنه مناسب لكلينا . أريد أن تأتي إلى روما معي وتكوني
ضيفة أمي لفترة )) .
ـ هل أنت واثق من قبولها ذلك ؟
ـ ستكون مسرورة . جدتك كانت أعز صديقة لها وجُل ما ترجوه هو أن
تتحد أسرتانا , باختصار , إنها تحاول أن تزوجني !
ـ تزوجك ممن ؟
سألته ذلك مدعية جهلها بالموضوع .
ـ منك أنت .
كانت تعلم أن هذه اللحظة ستحين عاجلاً أم آجلاً , ومع ذلك تملكها
الحرج . نظرت إليه جالساً في الزاوية وضوء الشمعة يتراقص على وجهه ,
فبدا لها فجأة وسيماً جداً . . . قوياً جداً . . . جذاباً جداً . . . أشبه بعاصفة
لا تقاوم تخترق حياتها جارفة كل شيء أمامها . . .
قالت محاولة كسب الوقت : (( مهلك لحظة . . . ما عادت الأمور تسير
على هذا النحو في أيامنا هذه )) .
ـ الزواج ما زال يجري بهذا الشكل في بعض المجتمعات . يعرفون
الأشخاص المناسبين ببعضهم البعض , آخذين بعين الاعتبار منافع هذا
التحالف . والداي تزوجا هكذا , وكان زواجهما سعيداً جداً . كانا
منسجمين تماماً من دون أن تعميهما مشاعر هي أعنف من أن تدوم .
ـ وأنت تطلب مني . . . ؟
ـ أن تفكري في ذلك . القرار النهائي نتخذه فيما بعد , بعد أن نعرف
بعضنا بشكل أفضل . وفي الوقت نفسه أحل لك مشاكلك المالية . فإذا
تزوجنا سأمحو الدين , وإلا سنتفرق كصديقين ويمكنك إن تعيدي إلي المال
بشروط سهلة .
ـ أوه , أنت تسرد الأمور بسرعة , لا يمكنني أن أستوعب .
وكان هذا صحيحاً . فقد ظنت أنها مستعدة لهذا جيداً , ولكن كل شيء
بدا لها مختلفاً إلى حد خطف أنفاسها .
ـ لن تخسري شيئاً . في أسوأ الأحوال تكونين قد أخذت قرضاً من دون
فائدة ينقذ متجرك .
سألته بخشونة : (( ولكن ماذا ستستفيد أنت ؟ لا يمكنك أن تتزوج فقط
لترضـي أمــك )) .
بدا لها وكأنه تردد لحظة قبل أن يجيب بقليل من الإرغام : (( بل يمكنني ,
إذا كانت تلك هي رغبتي . لقد حان الوقت لكي أستقر وأؤسس أسرة
ويناسبني أن أرتب ذلك بهذا الشكل , ذلك سيمنحنا وقتاً للتفكير . تعودين
أنت معي وتجربين الحياة في بلادي . . . أعني بلادك . . . وتفكرين في ما إذا
كنت تحبين العيش فيها بصورة دائمة . إذا انسجمتما أنت وأمي , سنتحدث
في أمر الزواج )) .
ـ وماذا عن انسجامنا معاً نحن الاثنين ؟
ـ هذا ما أرجوه , وإلا لن ننجح في زواجنا , أنا واثق من أنك ستكونين
أماً ممتازة لأولادنا , وبعد ذلك لن تجديني غير عقلاني .
سألته وقد ابتدأت عيناها تشردان : (( بالنسبة إلى ماذا ؟ )) .
ـ نحن لسنا مراهقين . لذا لن يتدخل الواحد منا في حرية الآخر .
حاولت أن تتفحص وجهه لكنها لم تستطع لأنه كان في الظل . وأخيراً
سألته : (( أليس لديك مانع في القيام بذلك بهذه الطريقة ؟ ما هو شعورك حيال
ذلك ؟ )) .
فقال بفتور مفاجئ : (( لا حاجة بنا إلى مناقشة المشاعر )) .
ـ لكنك خططت لزواجك وكأنه اتفاقية عمل .
ـ أحياناً تكون النتائج عظيمة .
الإحكام والدقة الفائقة في لهجته أرسلت قشعريرة في كيانها . وحده
الرجل الذي بنى سياجاً حول نفسه يتصرف بهذا الشكل . وتساءلت عن
مدى ارتفاع ذلك السياج , ولماذا يحتاجه .
وماذا عن سياجك أنت حول نفسك ؟ تمتم بذلك صوت في داخلها .
أنت تعلمين أنه موجود , ولطالما فكرت أن العقل أسلم من القلب . ربما
كلاكما من الطينة نفسها فأحس هو بذلك !
رفضت هذه الفكرة بسرعة , لكنها بقيت تزعجها : (( إذا تزوجنا ,
ستتوقع مني أن آتي لأعيش معك , أليس كذلك ؟ )) .
فأجفل قليلاً : (( هذا هو الترتيب المعتاد )) .
ـ لكنني إذا انتقلت إلى روما , سأفقد المتجر الذي أحاول أن أنقذه .
ـ يمكنك أن تسلمي متجرك لمن يديره , أو تنقليه إلى روما . وربما
تجدين من الأفضل أن يكون هناك أنا واثق من أن هناك أشياء كثيرة لم
تكتشفيها بعد .
لمس بهذا وتراً حساساً , فقالت من دون أن تواجه عينيه : (( أظن أن
معارفك كثيرون جداً )) .
ـ ليس إلى هذا الحد . لكنني أعرف كثيراً من الناس يمكن أن ينفعوك .
فكرت أنه لا بد يعرف البارون أورازيو مانيللي . ولربما زار قصره
بمخزنه الفسيح الذي يخفي نفائس لا تعد ولا تحصى . منذ سنوات وهارييت
تراسل البارون , طالبة الترخيص لها بدراسة كهف (( علاء الدين )) ذاك ,
وكان رفض طلبها . ولكن بصفتها خطيبة ماركو . . .
كبحت هذا الإغراء لكنه بقي يهمس في داخلها . . وقالت : (( ستكون
زيارة غير مُلزمة لكلينا )) .
ـ هذا مفهوم .
ـ وبإمكاننا أن نفترق ببساطة إن لم ينجح ذلك .
ـ نفترق كصديقين . ولكن في الوقت نفسه , ستجد أمي السرور في
صحبتك .
ممزقة بين الضمير والإغراء , أخذت تحدق في وجهه وكأنها كانت ترجو
أن تجد الجواب فيه . وفجأة وجدت الجواب , وهتفت بصوت خافت :
(( وجدتها . لقد تذكرت الآن أين رأيت وجهك )) .
فقال بتسلية : (( أنا مسرور . بمن أذكرك يا ترى ؟ )) .
ـ بالإمبرطور قيصر أغسطس .
ـ المعذرة , لم أسمع جيداً .
ـ إنه تمثال برونزي عندي في المتجر . وجهه كوجهك تماماً .
ـ كلام فارغ ومجرد تخيلات .
ـ لا , ليس تخيلات . تعال معي وسأريك إياه .
ـ ماذا ؟
ـ فلنذهب لقد انتهينا من الطعام , أليس كذلك ؟
فقال : (( نعم , لقد انتهينا , هيا بنا )) .
ماركو هو عادة ممن يتولون زمام القيادة , فيتبعهم الآخرون , لكنه
وجدها تكتسحه بحماستها وسرعتها . عادا إلى متجرها وأضاءت النور فوق
التمثال , ثم سألته باختصار : (( والآن , هل هذا أنت أم لا ؟ )) .
فقال مذهولاً : (( لا , ما من شبه على الإطلاق . هل اجتزت كل تلك
المسافة لكي أنظر إلى هذا ؟ )) .
ـ أنا لا أتخيل ذلك , إنه أنت , أنظر مجدداً . أنظر .
لم ينظر , بل أطلق ضحكة رقيقة وكأنما هناك شيء غامض قد سره ,
وتقدم ليقف أمامها واضعاً يداً على كتفها وبيده الأخرى رفع ذقنها ليستطيع
النظر إلى عينيها . شعرت بأنفاسه الدافئة على بشرتها ما أرسل رجفة خفيفة
في كيانها . ثم قال ساخراً : (( الرجل العاقل يبدأ حياته من هذه النقطة )).
ـ وأنت رجل عاقل جداً , أليس كذلك ؟
أزاح عن جبينه خصلة شعر: (( ربما لست عاقلاً كما كنت أظن . وأنا
أعلم أنك مثلي , فأنت مجنونة تماماً )) .
ـ أظنني كذلك . لأن المرأة العاقلة لا ترضى حتى أن تفكر في عرضك .
ـ هذا صحيح وعلي أن أكون شاكراً إذن .
قال هذا وهو ينظر إلى وجهها , ومازال يبتسم محدقاً في عينيها . وفجأة
تبددت ابتسامته , وتراجع إلى الخلف : (( هل يمكنك الاستعداد للسفر خلال
يومين ؟ )) .
ألقى هذا السؤال بتهذيب بارد , ومنعها الذهول من الكلام . فما إن بدأ
قلبها ينبض لقربه منها , حتى ابتعد متعمداً مغلقاً الباب على ما كان يمكن أن
يحدث بينهما , تمالكت أنفاسها وأجابت بصوت يماثل صوته : (( بما أن علي
أن أتحدث كنساء الأعمال , هل سأحصل على المال خلاص هذه المدة ؟ )) .
ـ ستحصلين عليه ظهر الغد .
ـ لكنك لم تر دفاتري .
ـ وهل أنا بحاجة إلى ذلك ؟ أنا واثق من أنها فظيعة .
ـ ربما كان المبلغ أكبر من مقدرتك .
ـ لا تقلقي .
أطلقت ضحكة قصيرة حادة يشوبها التوتر والغضب : (( إذن , ربما علي
أن أتزوجك لأجل أموالك )) .
ـ أظن ذلك . أليس هذا ما كنا نتناقش فيه ؟
شملته بنظرة تمرد وهي تشبك ذراعيها على صدرها : (( لا استطيع أن
أهزمك أليس كذلك ؟ )) .
ـ أحاول أن أضمن ربحي مع الجميع , إنها الطريقة الفضلى لبلوغ . . .
ـ القمة . . .
أكملت له كلماته فأومأ لها باحترام وقال : (( دعيني أقلك إلى بيتك )) .
ـ لا , أشكرك .
تلاشى غضبها عندما اطمأنت إلى مصير عملها الذي تحبه أكثر من أي
شيء في العالم . وبابتسامة مفاجئة عامرة بالبهجة قالت : (( أريد أن أبقى
وحيدة هنا فترة , بعد أن أصبح المكان آمناً )) .
فقال بحزم : (( سأنتظرك في الخارج . لقد حل منتصف الليل ولن أدعك
هنا وحدك مع هذه التحف , فريسة للناهبين وربما أسوأ من ذلك . موتك
لن يناسبني على الإطلاق )) .
فقالت بلطف : (( لا , لأنه سيكون عليك أن تراجع خطتك من جديد )) .
أمسك بيدها : (( يسرني أن أتعامل مع امرأة تفهم ما هو مهم . سأكون
خارج المتجر )) .
أمسك بيدها لحظة , ثم رفعها إلى شفتيه ليطبع عليها قبلة خفيفة قبل أن
يخرج .
عندما أصبحت وحدها , نظرت إلى يدها التي كانت لا تزال تخزها .
راحت ترتجف وقلبها يخفق بشدة , ولكنها لم تعرف ما إذا كان ذلك بسبب
السرور أو بسبب الخشية . لقد هدد تحكمها بنفسها . أخذت تفرك بغضب
قفا يدها حتى أيقنت بأن ذلك التأثير قد تبدد . ثم نظرت حولها فتألقت
عيناها , إنها آمنة . ولو لفترة على الأقل .
عـــــاد إليـــها طبعــها الغـــاضب ففكـــرت أن الخطوبة بإمكانـــها أن تستــمـر فقط
إلى أن تنتهي من دراسة (( قصر مانيللي )) . لم لا ؟ لقد شملها بنظرة وكأنها سلعة
يمكنه أن يستفــيــد منــهـــا , فلمـــاذا لا ينبغي لها أن تفعـــل معه الشيء نفسه ؟
وتملكتها موجة ثانية مــــن الاستياء للطريقة التي اقتـــرب فيها مـنـهـا , ثم عاد
فتراجع , لن يكون من السهل التعامل مع رجل مسيطر عل نفسه إلى هذا
الحـــد , وارتسم وجهه في ذهنــها فسقطت عينــاها على وجه أوغسطس
البرونزي . . . كان الوجهان متشابهين تماماً . . . مهما كان رأي ماركو .
وتذكرت كلمات أولمبيا : ( أنفه رائع , ورأســـه أرستقراطـي , وفمه جميل
صارم ) . وكان ذلك صحيحاً , لكن الغريب أنها الوحيدة التي رأت ذلك في
رجــل حي .
* * *
نهاية الفصل (( الثاني )) . . .