1 ـ
خبيرة أم مشـاكسة
ـ يا ولدي العزيز , هل فكرت جيداً بالموضوع ؟
كان وجه السنيورا لوشيا كالـﭭـاني مليئاً بالاهتمام وهي تنظر إلى ابنها
الذي كان يقفل حقيبة ثيابه . منحها ابتسامة سريعة حملت من الدفء أكثر مما
تحمل لأي شخص آخر , لكنه لم يتوقف عن العمل : (( وماذا هناك لأفكر
فيه ؟ أنا على أي حال أفعل ما طلبته أنت مني , يا أمي )).
فقالت بتشكك أمومي : (( كلام فارغ , أنت لا تفعل إلا ما يناسبك )).
ـ هذا صحيح , ولكن ما يناسبني كل ما يسرك . أنت تريدين أن أتزوج
حفيدة صديقتك , وأنا رأيت ذلك مناسباً .
ـ إذا كنت تعني أن الفكرة أعجبتك , قل هذا , ولا تخاطب أمك وكأنك
في اجتماع مجلس إدارة .
قالت هذا بحدة فتقدم يقبل خدها : (( آسف ولكن ما دمت أقوم بما
تتمنينه , فلا أدري ما هو سبب قلقك هذا )).
ـ عندما قلت إنني أود أن تتزوج حفيدة إيتا , كنت أعني أولمبيا , كما
تعلم جيداً . إنها أنيقة , رشيقة , محنكة , وتعرف كل الطبقة الراقية في روما ,
ويمكن أن تكون خير زوجة .
ـ لا أوافقك الرأي , فهي فتاة عابثة تفتقر إلى النضوج . أختها أكبر منها
سناً وأكثر رصانة كما فهمت .
ـ لكنها نشأت في إنكلترا , وقد لا تتلكم الإيطالية .
ـ أكدت لي أولمبيا أنها تتحدث الإيطالية . كما أن اهتماماتها ثقافية ,
ويبدو أنها ستناسب متطلباتي .
ـ تناسب متطلباتك ؟
قالت الأم هذا بذعر : (( من تتحدث عنها هي امرأة من لحم ودم وليست
مجموعة أسهم )).
فهز كتفيه : (( إنها مجرد طريقة في الكلام . هل نسيتُ شيئاً لم أضعه في
الحقيبة ؟ )) .
وأخذ ينظر في أرجاء الغرفة السابحة في شمس ذلك الصباح المتألقة التي
كانت تتسرب من نافذة الشرفة . خرج ليتنشق الهواء النقي ويمتع ناظريه
بمشهد (( جادة فيتيتو )) . تطل شقته القائمة في الطابق الخامس من هذه البناية
البديعة على كاتدرائية (( سانت بيتر )) ونهر التيبر . توقف لحظة يتأمل تألق
أشعة الشمس على الماء . كان يفعل هذا كل صباح , مهما كان انشغاله .
ولربما أثار هذا دهشة العديد من الأشخاص الذين يعتبرونه مجرد آلة
حسابية .
أما بيته من الداخل فيعزز تحاملهم هذا عليه . فرغم أن الأثاث كان
غالياً , إلا أنه يدل على البساطة , ويبدو بامتياز بيت رجل مكتفٍ بنفسه .
اختيار السكن في وسط روما يناسب تماماً شخصية ماركو , لأن قلبه
وعقله وكل وجوده كان رومانياً . كما أن طول قامته ومظهره وسماته
المتغطرسة تجعله منحدراً من سلاسة ملوك . وليس مستبعداً أن يكون واحداً
منهم ! أوليس أصحاب المصارف العالمية هم الملوك الجدد ؟ يبلغ ماركو
الخامسة والثلاثين من العمر , وهو يتفوق على كل معاصريه في دنيا المال
والشراء والبيع والمعاملات . . . فذلك بالنسبة إليه أشبه بالهواء الذي
يتنفسه , وليس من باب المصادفة أن يتحدث عن زواجه المترقب بتلك
الطريقة العملية التي بثت الذعر في نفس أمه .
وما لبث أن منحها أكثر ابتساماته سحراً : (( أمي , أعجب لجرأتك على
تعنيفي بينما أنت التي اقترحت علي هذا الزواج )).
ـ حسناً , على أحدهم أن يتدبر أمر تزويج أفراد هذه الأسرة . عندما
أفكر في ذك العجوز الأحمق في البندقية الذي خطب مدبرة منزله . . .
ـ أظنك تعنين (( بالعجوز الأحمق )) عمي فرانسيسكو , كونت كالـﭭـاني
ورأس أسرتنا .
فقالت باتزان : (( كونه (( كونت )) لا يمنعه من أن يكون عجوزاً أحمق ,
وكون غويدو وريثه لا يمنع من أن يكون شاباً أحمق حين يريد أن يتزوج من
فتاة إنكليزية . . . )) .
فقال ماركو يغيظ أممه مداعباً بطريقته الجافة : (( لكن دولسي من أسرة
ذات لقب , وهذا مناسب جداَ )) .
ـ الأسرة ذات اللقب التي خسرت أموالها بسبب استهتارها . لقد
سمعت أشنع القصص عن اللورد مادوكس , ولا أظن ابنته أفضل منه
كثيراً .
ـ لا تدعي أياً منهما يسمعك تنتقدين حبيبتهما , فهما في حالة من
الهيام قد تدفعهما لفعل أي شيء دفاعاً عنهما .
ـ أنا لا أقصد أن أكون عديمة التهذيب . لكن الحقيقة هي الحقيقة . على
شخص ما أن يقوم بزيجة حسنة , ولا أحد يعرف ماذا سيفعل ذلك الخجول
المرتبك في توسكانيا .
هز ماركو كتفيه وقد أدرك أن أمه تعني بكلامها ابن عمه ليو : (( ربما لن
يتزوج ليو مطلقاً . ما من نقص في الفتيات الراغبات به في المنطقة . وربما
لهذا السبب , يقوم بعلاقات قصيرة عابرة . . . )).
فقاطعته بحزم : (( لا حاجة بك لعدم التهذيب في التعبير . إذا لم يشأ أن
يقوم بواجبه , فهذا يمنحك سبباً أكبر لأن تقوم أنت بواجبك )).
ـ حسناً , أنا ذاهب إلى إنكلترا لأفعل هذا , إذا ناسبتني المرأة .
ـ هذا إذا ناسبتها أنت . هي لن ترتمي على قدميك .
ـ سأعود إليك إذن وأخبرك بفشلي .
لم يبد عليه الانزعاج لهذا الاحتمال . سبق له أن عرف بعض النساء
اللواتي لم يتأثرن به . أولمبيا , طبعاً , رفضته . لكنهما كانا كأخٍ وأخته .
قالت أمه وهي تتأمله محاولة أن تتبين ما يفكر فيه : (( أنا قلقة عليك ,
أريد أن أراك في بيت سعيد , بدلاً من تضييع وقتك سدى في علاقات تافهة .
لو تزوجتما أنت وأليساندرا كما كان ينبغي عليكما , لكان لديكما الآن ثلاثة
أولاد )).
ـ لم نكن ملائمين , ولنترك الكلام في هذا الموضوع .
قال هذا بصوت رقيق لكن نبرة التحذير لم تكن خافية . فقالت لوشيا
على الفور : (( طبعاً )).
فعندما يحسم ماركو أمراً ما , تفضل أمه ألا تلح عليه .
ـ حان وقت ذهابي , لا تقلقي يا أمي . كل ما في الأمر أنني سأقابل
هارييت ديستينو , وأكون عنها فكرة . فإذا لم تعجبني لن أذكر لها شيئاً .
ولن تعلم هي شيئاً عن الأمر .
* * *
عندما هبط بطائرته في لندن , لاحظ ماركو أنه يتصرف على غير
طبيعته . فهو أساساً ممن يمعنون التفكير في الأمور , لكنه الآن يتصرف
باندفاع . هو رجل منظم ويعيش حياة منتظمة , وهذا برأيه سر النجاح
والثبات والاستقرار . فالعمل الصحيح يُنجز في الوقت الصحيح . عندما
كان في الثلاثين من عمره , كان سيتزوج فعلاً لو أن اليساندرا لم تغير رأيها .
لكنه سرعان ما أخمد هذا التفكير . فقد انتهى كل ما يتعلق بخطبته
العقيمة , وكونه جعل من نفسه شاعرياً أحمق , أصبح من الماضي . والرجل
الحكيم تعلمه التجارب , لــذا لن يكشف عن مشـــاعره مــرة أخرى أبــداً بذلك
الشكـــل . لقد راقه اقتراح أمه بالزواج , إذ سيــجــد لنفسه أسرة من دون أن
يورط قلبه في ذلك .
وصل إلى لندن عند العصر فنزل في الجناح الذي حجزه في فندق الريتز ,
ثم أمضى بقية النهار أمام الهاتف , يراجع المعاملات التي تحتاج إلى تدخله
الشخصي . ظل يعمل حتى الثالثة صباحاً . ثم ذهب إلى فراشه ونام حوالي
خمس ساعات أفادته كثيراً .
وهكذا أمضى ليلته قبل أن يقابل المرأة التي ينوي أن يتزوجها .
* * *
تناول فطوره قبل أن يتجه سيراً على الأقدام إلى (( غاليري ديستينو )). وإذ
عين الوقت بالضبط , فقد وصل عند التاسعة إلا ربعاً , قبل بدء دوام
العمل , ما سيمنحه فرصة يكون فيها فكرة عن المكان قبل أن يقابل
صاحبته .
وما رآه نال استحسانه , فقد كان المتجر جميلاً . ورغم أنه لم ير سوى
القليل من التحف المعروضة من خلال الشبكه الحديدية على واجهة المحل ,
إلا أن ما رآه بدا له مختاراً بشكل جيد يعكس بشكل واضح صورة هارييت
ديستيتو العاقلة والأنيقة , فابتدأ يشعر نحوها بالدفء .
غير أن ذلك الدفء تبدد قليلاً عندما مرت الساعة التاسعة من دون أن
يطل أحد ليفتح المتجر , يا لانعدام الكفاءة ! واستدار فاصطدم بشخص
صرخ : (( آخ )) .
ـ المعذرة .
والتفت ليرى شابة مرتبكة تقفز على الرصيف ممسكة بقدمها , ثم تقول
مجفلة : (( لا بأس )) .
كانت على وشك أن تفقد توازنها لولا أن أمسك بها .
ـ شكراً . هل كنت تريد الدخول ؟
ـ نعم لكنك تأخرت عن موعد فتح المحل .
ـ آه , نعم . هذا صحيح . انتظر لحظة ! لدي المفتاح .
أخذت تبحث عن المفاتيح , وأخذ هو يتأملها , فلم يعجبه فيها شيء .
كانت ترتدي بنطلون جينز وسترة صوفية عاديين جداً , وعلى رأسها قبعة
صوفية زرقاء تغطي شعرها كلياً , قد تكون شابة , وربما جميلة أيضاً . . .
ولكن من الصعب معرفة ذلك ما دامت تبدو كعامل بناء . لا بد أن هارييت
ديستينو بحاجة ماسة إلى موظفة , لنستخدم هذه المرأة .
وبعد وقت بدا له دهراً , سمحت له بالدخول .
ـ لحظة واحدة , ومن ثم أعود إليك .
قالت هذا وهي تلقي أغراضها جانباً , وتفتح الشبكة الحديدية .
ـ كنت أرجو , في الواقع , أن أقابل صاحبة المتجر .
ـ ألا أنفع أنا ؟
ـ لا مع الآسف .
جمدت الشابة فجأة , ثم رمقته بنظرة متوترة وقد تغير سلوكها بأكمله :
(( طبعاً , كان علي أن أدرك هذا , يا لغبائي ! كل ما في الأمر أنني كنت أرجو
أن تتأخر قليلاً . نعم , كنت أرجو أن تتأخر قليلاً . . . آسفة لأن الآنســة
ديستينو ليست هنا حالياً )).
فسألها بصبر : (( هلا قلت لي متى تكون هنا ؟ )).
ـ ليس في وقت قريب . لكنني أستطيع الاتصال بها .
ـ أيمكنك أن تخبريها بأن ماركو كالـﭭـاني جاء لزيارتها ؟
فقالت متظاهرة بالجهل : (( من ؟ )) .
ـ ماركو كالـﭭـاني , إنها لا تعرفني لكن . . .
ـ أتعني أنك لست مبعوثاً من المحكمة ؟
فأجاب بإيجاز وقد تحولت نظراته غريزياً إلى بذلته الفاخرة : (( لا , لست
من المحكمة )) .
ـ هل أنت واثق ؟
ـ أظنني كنت سأعلم لو أنني كذلك .
فقالت بذهن شارد : (( نعم , طبعاً كنت ستعلم . ثم أنت إيطالي , أليس
كذلك ؟ لكنتك مميزة . لكنها ليست قوية جداً لذا فاتتني في البداية )) .
فقال ببطء ووضوح : (( أنا أفتخر بمهارتي في اللغات الأجنبية . والآن
هلا قلت لي من أنت ؟ )) .
ـ أنا ؟ آه , أنا هارييت ديستينو .
ـ أنت ؟
ولم يستطع أن يخفي نبرة الخيبة التي بدت في صوته .
ـ نعم , ولم لا ؟
ـ لأنك سبق وأخبرتني بأنك لست هنا .
ـ أحقاً ؟ آه , لا بد أنني أخطأت فهمك .
قالت هذا بنبرة غامضة فحدق إليها متسائلاً إن كانت مجنونة أو مجرد
مختلة . خلعت قبعتها الصوفية , تاركة شعرها الطويل ينسدل على كتفيها ,
وعند ذلك أدرك أنها تقول الحقيقة لأن شعرها كان شبيهاً بشعر أولمبيا بكثافته
ولونه . إنها المرأة التي يفكر في اتخاذها زوجة له . تنفس بعمق وحذر ,
وكانت هارييت تراقبه مقطبة الجبين : (( هل تعارفنا من قبل ؟ )) .
ـ لا أعتقد ذلك .
ـ وجهك يبدو لي مألوفــاً .
ـ لم نتعارف قط من قبل .
أكد لها ذلك وهو يفكر في أنه لو رأي هذا الوجه لتذكره حتماً .
ـ سأعد القهوة .
دخلت إلى مؤخرة المتجر ووضعت الإبريق على النار مغتاظة من نفسها
لهذه الفوضى التي أحدثتها بالرغم من تحذير أولمبيا لها . لكنها كانت شبه
مقتنعة بأن ماركو لن يعبأ بالحضور ليراها , ثم أنها كانت منشغلة بدائنيها
بحيث لم تجد وقتاً لتفكر في أشياء أخرى .
لم يكن لهارييت مثيل في خبرتها بالتحف الأثرية , فـــذوقــها رفيع تأخذ به
المؤسسات الإجتماعية المهيبة . لكنها , بشكل ما , لم تستطع أن تحول مهارتها
هذه إلى فوائد تجارية تفي بها الديون المتراكمة .
انتهت القهوة فعــادت إلى الواقع . لم تكن تريد بأي شكل أن تكشف عن
ضائقتها المادية لهذا الرجل . وإذا به يظهر فجأة بجانبها فشرد ذهنها
للتشابه , أين رأته قبل الآن يا ترى ؟
لقد وعدت أولمبيا بألا تدع ماركو يشتبه في أنها على علم بحضوره , لذا
كان التظاهر بالغباء الطريق الأسلم . فقد اكتشفت مؤخراً أن الناس
يصدقون دائماً من يتظاهر بالغباء .
ـ لماذا تريد أن تراني يا سيد . . . كالـﭭـاني , أليس كذلك ؟
ـ ألا يعني اسمي شيئاً ؟
ـ آسفة , ولكن هل من المفترض أن يعني شيئاً ؟
ـ أنا صديق أختك أولمبيا . ظننتها قد ذكرت لك اسمي .
ـ نجن أختان غير شقيقتين , ولا نرى بعضنا كثيراً . كيف حالها هذه
الأيام ؟
قالت هذا بشكل عفوي , فأجاب : (( مازالت اجتماعية ورائعة الجمال ,
أخبرتها بأنني أريد أن أتعرف إليك عندما أحضر إلى لندن . وإذا كنت توافقين
يمكننا أن نمضي هذه السهرة معاً وقد نذهب لحضور مسرحية ما ونتناول
العشاء معاً فيما بعد )) .
ـ هذا جيد .
ـ أي نوع من المسرحيات تحبين ؟
ـ كنت أحاول أن أحصل على تذكرة لمسرحية (( الرقص على الخط )) لكن
المقاعد قد نفذت , والليلة هو العرض الأخير .
ـ أظن أن بإمكاني الحصول على تذكرتين .
فقالت بذعر وقد أنبها ضميرها : (( إذا كنت تفكر في شرائهما من السوق
السوداء , فإن ثمن التذكرة مرتفع جداً )) .
فقال باسماً : (( لن أحتاج إلى اللجوء إلى السوق السوداء )) .
نظرت إليه بما يشبه الرهبة : (( أيمكنك أن تحصل على مقعدين لهذه
المسرحية بظرف دقيقة ؟ )) .
فقال بشي من السخرية : (( لا يمكنني أن أعرض نفسي للفشل الآن ,
لكن دعي الأمر لي , سأمر لاصطحابك عند الساعة السابعة )) .
ـ حسناً . يمكننا أن نذهب إلى مسرحية أخرى . ليس لدي مانع .
فقال بحزم : (( بل سنذهب إلى هذه المسرحية بالذات . أراك الليلة )) .
فقالت بشبه ذهول : (( إلى اللقاء )) .
استدار نحو الباب ثم عاد فتوقف وكأنه تذكر شيئاً : (( بالمناسبة , هل
لك أن تثمني هذه لي )) .
ثم أخرج من جيبه لفافة قماش فتحها أمام عينيها المتشوقتين , كاشفاً
عن قلادة رائعة فريدة من نوعها أخذتها برفق وحملتها إلى مكتبها حيث
أضاءت مصباحاً قوياً .
قال ماركو : (( لدي صديق في روما خبير في هذه الأشياء . برأيه أن هذه
إحدى أفضل القطع الأثرية الإغريقية التي رآها في حياته )) .
فقالت من دون أن ترفع عينيها : (( إغريقية ؟ كلا . إنها (( أترورية )) من
بلاد (( أتروريا )) القديمة غرب إيطاليا )) .
لقد نجحت في اختبارها الأول , لكنه أخفى سروره وعاد يضغط
عليها : (( هل أنت واثقة ؟ صديقي خبير حقيقي )) .
فقالت متنازلة : (( قد يكون التفريق بينهما صعباً , لكنها من صنع صاغة
(( أتروريا )) في العهود القديمة )) .
انطلقت في الحديث إلى حد لم يعد يستطيع إيقافها , وكانت الكلمات
تتفق من فمها كسيل دافئ فأصغى إليها بإعجاب متزايد . قد تكون غريبة
الأطوار نوعاً ما , لكنها السيدة المثقفة التي يتمناها , هذه التحفة الأسطورية
ملك لأسرته منذ مئتي سنة , وهي (( أترورية )) فعلاً , وقد ميزتها هي تماماً .
ثم نسفت إعجابه بقولها بأسف : (( ولكن ليتها كانت أصلية ! )) .
فحدق إليها : (( بل إنها أصلية )) .
ـ لا , مع الأسف , إنها نسخة ممتازة عن الأصل . من أفضل النسخ التي
رأيتها . ويمكنني أن أفهم لماذا انخدع بها صديقك . . .
ـ لكنك لم تخدعي أنت بها .
قال هذا شاعراً بانزعاج غير منطقي لتشويهها سمعة ( صديقه ) الذي لا
وجود له أصلاً .
ـ لطالما تملكني اهتمام غير عادي في صناعات (( اتروريا )) .
قالت هذا مسمية المقاطعة التي أصبحت فيما بعد مدينة روما والأرياف
المحيطة بها : لقد زرت الحفريات هناك منذ سنتين , فكـــانت من
أروع . . . )) .
ـ وهل هذا يؤهلك لإبداء رأيك بهذه القطعة ؟
قاطعها بقوله هذا وقد هزم غيظه تهذيبه .
ـ إسمع , أنا أعلم ما اتحدث عنه وبصراحة , ( خبيرك ) هذا لا يحسن
التفرقة بين (( الإغريقي )) و (( الأتروري )) .
ـ لكنها حسب قولك , زائفة . وهذا غير ممكن .
ـ إنها نسخة . وصانعها نسخها عن قطعة أترورية , وليس إغريقية .
أذهله التحول الذي بدا في عينيها . فقد ذهبت تلك الشابة الغريبة
الأطوار التي اصطدمت به عند الباب , لتحل مكانها امرأة منتقدة فولاذية
واثقة لا تتساهل في آرائها . وكان سيعجب بذلك لو أنها لم تكن تحاول أن
تمحو مليون دولار من ثروته .
ـ أتقولين إن هذه لا تساوي شيئاً ؟
ـ آه , ليس تماماً . لا بد أن الذهب يساوي شيئاً .
كانت تتكلم كأنها راشد يسترضي طفلاً خائب الأمل . فصرف بأسنانه
وقال ببرودة : (( هل لك أن تشرحي رأيك ؟ )) .
ـ يُنبئني حدسي بأن هذه القطعة ليست أصلية .
ـ أتعنين حدس المرأة ؟
ـ كلا طبعاً . لا شيء من ذلك . حدسي مبني على المعرفة والخبرة .
ـ وهذا يبدو لي اسماً آخر لحدس المرأة , لم لا تكونين صادقة وتعترفين
بذلك .
التهبت عيناها بشكل رائع : (( يا سيد . . . مهما كان اسمك , إذا كان
حضورك إلى هنا هو فقط لكي تحرجني , فأنت تضيع وقتك سدى . وزن هذه
القلادة خفيف . والقلادة (( الأترورية )) الحقيقية أثقل منها وزناً و . . . )) .
لقد شردت مرة أخرى وأخذت الحقائق والأرقام تتدفق من فمها بسرعة
وثقة وتحكم في الموضوع . ما عدا أنها كانت مخطئة تماماً , كما أخذ يفكر
عابساً . إذا كان هذا مستوى خبرتها فلا عجب في أن عملها فاشل .
وقـــال محـــاولاً إرضــاءهـــا : (( حسناً , حسناً أنا واثق من أنك على
صواب )) .
ـ أرجوك لا تسايرني .
وعندما هم بالجواب , راجع نفسه , متسائلاً أين ذهب ذكاؤه . لم يكن
في نيته أن يدعها تفقده أعصابه .
الهدوء هو درعه الأفضل , وبه يصل إلى النصر . لقد قام بمعاملاته ,
ونظم حياته تبعاً لمصلحته . وإذا بها تنسف كل ذلك في خمس دقائق .
قال بشيء من الجهد : (( سامحيني . لم أقصد أن أكون غير مهذب )) .
ـ لا بأس فأنا أفهمك نظراً إلى حالة الفقر التي تركتك فيها .
ـ لم تتركيني في حالة فقر ما دمت لم أوافق على تثمينك للتحفة .
مدت إليه القلادة وهي تقول بلطف كاد يثير سخطه : (( أفهم ذلك .
عندما تعود إلى روما , لم لا تسأل صديقك أن يعيد النظر إلى هذه ؟ ولكن إياك
أن تصدق كلمة مما يقول لأنه لا يفرق بين (( بلاد الإغريق )) و (( أتروريا )) )) .
ـ سأمر لاصطحابك من هنا عند السابعة .
قال لها هذا بابتسامة متوترة .
* * *
نهاية الفصل (( الأول )) . . .