كاتب الموضوع :
ريم . م
المنتدى :
الارشيف
،
الجـــزء الحــادي عشـــر
- 45 -
اغلق الدولاب بعنف وراح يتذمر بصوت خافت ، ثم استدار ليلقي آخر نظرة في زوايا الغرفة
بعد ان اعاد كل شيء الى مكانه السابق .. هو متأكد بأنه لم يجد شيئا في جيب المعطف الاسود
قبل ان يتخلص منه .
لقد بات يظن بأن ساجر يحاول ان يفتعل شجار ليجد سببا ليصب جام غضبه عليه كالعادة .
“ حسنا .. لا داعي للغضب .. سأجد هذه الاقراص بأي طريقة كانت “
سحب نفس طويل محاولا قدر الامكان ان يظل هادئا ، وراح يذكر نفسه مرار بأن ساجر يعاني
من إضظرابات نفسية وعليه ان يتحلى بالصبر ، و ليتوقع اسوأ من ذلك في الايام المقبلة .
هو في السابق لم يكن ليجد تفسيرا لتقلب مزاجه المفاجئ ، لكنه اليوم و بعد ان قام بعدة ابحاث
حول مرضى الاكتئاب ، وجد بأن هناك العديد من الامور التي قد تعكر صفو صاحبه .
وبات يخشى من تفاقم اعراض ذلك المرض .. خاصة بأنه لا يعرف جيدا منذ متى وساجر
يعاني منه ولم تواتيه الجرأه ليسأله حول هذا الموضوع الذي حاول إخفائه عنه .
في تلك اللحظات وقع بصرة في على المعطف الرمادي المرمي بإهمال على السرير ، فسار
بإتجاهه و تناوله .. ثم فرده امامه لتنزلق حلقة مفاتيح ساجر على الارضية مصدرة صوتا
تنبه له وليد .
انحنى ليلتقطه مقطبا جبينه ، لم يطمئن لرؤية مفاتيح ساجر هنا .. فتبادر الى
ذهنه سؤال وحيد هو :
إن كان مفتاح عربته هنا .. فإلى اين اختفى خلال
النصف ساعة التي مضت ؟
لم يعجبه ابدا التفكير حول هذه النقطة ، فأخرج هاتفه من جيب بنطاله الخلفي وراح يبحث
على آخر المكالمات التي اجراها بأطراف مرتعشه ، يشعر بأن هناك خطبا ما .. و لم يكد ان يهتدي الى اسم ساجر
حتى ضغط على زر الاتصال .. حابسا انفاسه متوجسا .. لينطلق رنين مكبوت خارجا من جيب المعطف الرمادي .
اغلق وليد هاتفه على عجل ورمى بالمعطف سار عابر الرواق ليتناول سترته قبل ان يخرج ..
وبينما كان يدفع يديه بداخل سترته مستعدا للخروج اخترقت طرقات على باب شقته هدوء المكان .
ليتوقف عن ارتداء سترته محدق بالباب لثوان غير مصدق بأنه عاد ، هدأت حركته و وارتخى جسده
وكأنه تمكن لتو من التقاط انفاسه ثم اكمل سيره بهدوء ، تسبقه كلماته قائلا اثناء فتحه للباب
“ اين ذهبت .. كنـ “
توقف وليد عن الحديث عندما لمح حارس العمارة
شعر العجوز بأنه جاء في وقت غير مناسب بعد ان رأى تغير في تعابير وليد ،
والذي صمت محدق به لثوان .. قبل ان يتدارك نفسه مشيرا الى الداخل :
“ اهلا .. .. تفضل .. تفضل بالدخول “
ابتسم العجوز بلطف مجيبا :
“ شكرا لك يا بني .. جئت فقط لأعطيك علبة الاقراص هذه ...كنت قد اعطيتني
بعض من الملابس بالامس .. واثناء فرز الصالح للإستعمال منها .. وجدت هذه
العلبة .. اعتقدت بأنها لك “
...... ...... ...... ...... ......
-46-
التقطت راما الكوب من كفها وراحت تتأمل تقاسيم وجهها قبل
ان ترتشف القليل من الماء ، كيف لها ان تبدو هادئة هكذا و والدتها توفت حديثا . ؟
“ كنا نعلم بأنها .. لن تعيش طويلا “
قالتها منى بهدوء اثناء جلوسها على المقعد المجاور لسرير راما ، يبدو انها
قرأت افكار راما من خلال نظراتها ، والتي صمتت طويلا محدقة بكوب الماء .. فهي
لم تعد تريد ان تبكي بعد الان .
“ هل تشعرين بتحسن ؟ “
هل كان صوت منى يرتعش كما هيأ لراما ، لم تكن متأكده لان خوفها منعها
من التحديق بخالتها .
“ اتصلت ليلى ... كانت تريد ان تطمأن عليك .. “
على الرغم من انها لم تكن مهتمه بالحديث عن ليلى في هذا الوقت بالتحديد ، الا انها ارادت
ان تشغل ذهنها بأى شيء غير مشهد جسد جدتها الذي لا يزال يخيل لها كلما
حاولت ان تنام . فتسائلت بهدوء :
“ حقا .. ماذا قالت ؟ “
“ لا شيء .. عندما اخبرتها بأنك متعبه قليلا .. قالت دعيها
تتصل بي عندما تتحسن .. كانت خائفة “
ابتسمت راما متخيلة تعابير ليلى في تلك اللحظة :
“ انها مثل اختي تماما “ ثم تسائلت بعد برهه : “ اين تركت اطفالك ؟ “
“ بصحبة والدهم .. يعلم جيدا بأنني متعبة
جسديا ونفسيا ولست في مزاج لمقابلتهم “
“ كنت استطيع ان اهتم بنفسي .. يا منى “
قاطعتها خالتها قبل ان تكمل :
“ انا اريد ان ابتعد عن اجواء المنزل .. سئمت من مقابلة تلك الوجوة في منزل خالك .. ثم
لم يعد ذلك المزل يعني شيئا لي .. منذ ان رحلت والدتي “
لمحت راما تلألأ الدمع في عينيها رغم انها اخفضت بصرها متناولة
ورقة منديل من العلبة لتخفي ما تستطيع إخفائه ثم عادت لترفع رأسها و قالت
مبتسمة في محاولة لتغير الموضوع :
“ هل تعلمين .. رأيت بجاد قبل ان آتي الى هنا ..
كان يتحدث مع والده في فناء المنزل .. ياه لقد تغير كثيرا .. انه يشبه
والده كلما تقدم في العمر “
“ اوه .. بجاد ! “
خرج صوتها متعبا يغلفه الكثير من الندم لتتقلص تقاسيمها الهادئة واضعة كفها على
جبينها عندما تذكرت بجاد ، لا تعلم منى بأنها بعثرت الكثير من الامور عندما رمت جملتها
تلك ، فقد انعشت ذاكرتها الى ما حصل لها اليوم بمجرد ذكرها لأسمه .
“ مابك ؟ “
صمتت راما لبرهه قبل ان تجيبها :
“ تذكرت امر ما “
“ و ما هو ذلك الامر الذي تذكرته .. و يتعلق ببجاد ؟ “
" لا شيء مهم "
" هيا تحدثي .. ليس لدينا موضوع آخر نتحدث عنه "
“ منى .. لا اريد ان اتحدث عن بجاد الان “
“ انك تثيرين فضولي .. تحدثي “
حدقت راما بخالتها .. والتي اشارت لها برأسها لتحثها على الحديث
فقالت في تردد :
“ لا ادري ... هناك الكثير من الامور التي تتعلق ببجاد ..
افكر بها كثيرا “
ضاقت عينا منى وصمتت مصغية لراما التي استطردت :
“ انا متأكدة بأنه لو خير .. لما اختار هذه الحياة ابدا “
“ انا لا افهم شيء مما تقولين ؟! “
“ اقصد .. بانه مجبر على تولي امور الجميع “
“ من تقصدين بالجميع “
“ انا ، امي .. عمي .. وزوجة عمي .. ان بجاد من احد الاسباب التي
تجعلني افكر مليا .. بالزواج من سلطان “
استطردت راما بألم لم يغب عن خالتها :
“ ان كنت لا ازال املك الحق في التفكير “
“ و ما دخل بجاد في زواجك من سلطان ؟ “
“ ان تزوجت من سلطان و انتقلت انا ووالدتي للعيش هنا ..
لن نضطر لنحمل شخصا آخر مسؤليتنا انا وامي .. هل تفهمين قصدي “
“ انت ترين بأن بجاد ليس مضطرا ليتحمل مسؤلية منزل آخر
بما ان سلطان موجود .. ويريد الزواج بك “
“ بالظبط “
صمتت منى لثوان وكأنها تحاول استنتاج حديث راما ثم قالت :
“ اذا انت موافقه ؟ “
.. صمتت تبحث عن جواب غير مباشر لسؤالها فقالت بعد ثوان من التفكير :
“ والدتي تريد ان تعيش هنا .. تريد ان تترك ذلك المنزل .. وهي تعرف جيدا بأنني لن اتركها
عندما اتزوج بسلطان .. فهي ستعيش معي “
“ الا تعتقدين بأنك تفكرين بالموافقه من اجل الجميع .. على الرغم من
انك صاحبة الشأن رافضة لهذا الزواج ؟! ... ذكرتي عمك وزوجته
و والدتك وبجاد .. بينما لم تذكري سلطان بشيء ؟! “
“ سلطان ليس سيئا “
تهدج صوتها وكأنه بذلك يعلن عن انتهاء مفعول المهدئات ، فتناولت منى كوب الماء من كفها على
عجل و وضعته على المنضدة ، لتترك مقعدها و تجلس في المساحة الشاغرة من حافة السرير ممسكه براحت راما
التي اخفضت بصرها .
كم بدت شاحبه عن قرب ... حتى انها لم تكلف نفسها عناء اعادة تلك الخصلات المتناثره
حول وجهها .. تاركة شعرها الداكن ينسدل على اكتافها .
اعادت منى لها خصلات شعرها ، لينعكس الضوء الخافت على صفحة خدها و لتبدو اكثر حزنا
وألما .. انزلقت كف منى بلطف على تقاسيمها لتشعر بملمس رطب شق طريقه على خدها بصمت
.. دون ان يعلو سكون تعابيرها اي تغير .
سحبت منى نفس طويل .. قبل ان تهمس :
“ راما .. “
“ انا اسفــ “ اختنق صوتها .. لتقتل جملتها قبل ان تغادر شفتيها
وقبل ان تعرف منى السبب الذي يجعلها تعتذر من أجله .
راحت منى تحتظن وجهها بكلتا يديها وكأنها تحاول بذلك ان تتدارك عبرات طفلة توشك
على الانفجار باكية :
“ اشش .. اهدأي .. لا شيء هنا يستحق ان
تبكي من اجله .. انظري الي .. انظري الي .. “
رفعت راما بصرها محدقة بخالتها قائلة : “ اشعر بأنني عبأ ثقيل على الجميع .
. الكل يتأذى بسببي .. لماذا تضطر امي لكبت حزنها على والدتها من اجلي ..
لماذا تحاولين ان تتظاهري بالقوة ، في وقت تحتاجين فيه لمن يقف بجانبك .. “
ابتعلت عبراتها لتكمل برجاء ممسكه بمعصم منى :
“ منى .. لماذا نتحدث عن سلطان .. الان .. و في هذا الوقت
لقد توفيت جدتي اليوم .. والدتك .. “
لم تتمكن منى منع رغبتها الشديدة بالبكاء ، وكيف لها ان تقاوم ؟ و من تجلس
امامها تحثها على ذلك ... التقطت راما جسد خالتها لتحتضنها ، و شعور بالراحه استقر
في قلبها رغم الحزن الذي خيم على الاجواء في ثانية ، ف ( منى ) الوحيدة التي لا تريد ان تعاملها بإستثنائية
.. كما يفعل البقية معها .
هي ليست حالة خاصة تحتاج لرعاية من الجميع .. هي فقط تحتاج لبعض الوقت .. حتى
تتمكن من استعادة توازنها .. فقط القليل من الوقت .
...... ...... ...... ...... ......
-47-
و كأننا يا صاحبي لم نلتقي .. !
الى اين اخذتك تلك النسمات الباردة .. ؟
الم تكن تكره الشتاء .. الم تقل لي من قبل بأنك لا تحب ان تصاب بالمرض ..
غريب.. و هل هناك اعظم من الحزن الذي يستوطن صدرك ؟ .. اليس الحزن
بمرضا يقتات على روحك .. حتى بت يا صاحبي جسدا بلا روح .
كم عابر سـ اسأله عن حزن قد مر بهم على هذا الطريق .. (حزن) على هيئة رجل .
وكم منهم سيلاحظك .. لم تكن في يوم من الايام مع الناس !
هل تذكر عندما اخبرتني بأنك تكره هذا العالم بأسرة ..
حتى بت اتسائل في نفسي .. هل يعني ذلك بأنك تكرهني انا ايضا يا ساجر ؟
الستُ من ظمن هذا العالم .. اليست تصرفاتك معي تعني ذلك .. ؟
انت لا تعلم بأن كل يوم يمر .. و يجمعنا معا .. يعرفني على شخص آخر
لا اريد التعرف عليه ابدا .. !
اني اكتشف متأخر بأننا غريبان يا صاحبي .. غريبان ..
و سنظل كذلك ..!
دفع علبة الاقرص في جيب سترته اثناء هبوطه درجات مدخل العمارة ليقع بصره على عربة
ساجر المركونه امامها ، مما يعني بأنه لم يكن ينوي المكوث طويلا في الاعلى .
القى ببصره على جانبي الطريق ، ليتأكد له استحالة إيجاده بسهولة ، فالمكان يعج
بالعابرين و بمن يقطن هذه المنطقة .. اذا كيف له ان يجده قبل ان تتوشح المدينه بالظلام ؟
راح يقطع بخطواته الرصيف جيئة وذهابا .. محاول تذكر اكثر الاماكن التي من الممكن ان يقصدها
ساجر للأختلاء بنفسه .. يضعط بأنامله على جانبي صدغه وكأنه بذلك سيحث ذاكرته على ايجاد ذلك المكان .. !
“ اين ذهبت يا ساجر “
رفع بصره متذكرا المقهى .. لكنه سرعان ما تراجع عن تخمينه .. فلماذا يقطع ساجر
هذه المسافة مشيا على الاقدام بينما كان بإمكانه العودة ليجلب مفتاح عربته ؟
لا لن يذهب ساجر للمقهى .. هو يكره الخروج في هذه الاوقات للمقهى على اية حال
.. اذا اين يمكن ان يذهب .. لمح في تلك اللحظات العجوز صاحب الدكان في نهاية
الشارع عن يساره ، وقد جلس كعادته على مقعده المهترئ امام دكانه المتواضع محدقا بالمارين .
لا بد وان احد لمح ساجر عندما خرج ، وهذا العجوز لا يفارق مقعده .
قطع وليد المسافة التي تفصلهما بخطوات واسعة ، ليتوقف امام العجوز الذي رفع بصره
محدقا بوليد :
“ كيف حالك يا عم “
“ اهلا وسهلا .. بخير يا بني .. هل تريد جرائد كالعادة ؟ “
هز وليد رأسه نافيا : “ لا شكرا .. اردت فقط ان اسألك ان كنت قد رأيت ساجر
بالجوار .. فقد خرج ونسي هاتفه معي .. واحاول ان اتواصل معه في امر مهم “
عبس العجوز عند ذكر اسم ساجر مجيبا بحنق :
“ لا اعرف شيء عن صاحبك “
واشاح ببصره بعيد عن وليد ، ولكن الاخير لم يصمت وقال برجاء :
“ اعلم بأنك على خلاف معه .. ولكن صدقني اريده في امر مهم بالنسبة لي
.. تذكر من اجلي .. لا بد وانك لمحته منذ دقائق مضت “
حدق العجوز بوليد لثوان قبل ان يجيبه بغضب
: “ هل تعلم بأنه بصق امام دكاني ..عندما سألته عن ما تبقى لي من دين ..
وقال بأن هذا هو ما بقي لي .. ! “
قلما كان يترك اثر في قلوب الاخرين .. وان فعل ذلك فهو اثر سيء بكل تأكيد .. !
سحب وليد نفس طويل لتعلو تعابيره خيبة امل كبيره وقال :
“ اعتذر لك بالنيابة عنه “
“ انا اعلم بأنك مختلف عنه يا وليد “ .. صمتت العجوز لثوان قبل ان يضيف :
“ لقد سار بهذا الاتجاة .. لا تجلبه معك عندما تعود “
حدق وليد بالاتجاة الذي يشير اليه العجوز ، ثم شكره قبل ان يمضي تاركاً الدكان خلفه
...... ...... ...... ...... ......
-48-
فستان من الحرير الزهري ذو اكمام طويلة يلف جسدها الغض ليحدد تقاسيمه ، يصل
الى اسفل الركبة كاشفا عن ساقيها .
ظلت صامته تتأمل انعاكس صورتها امام المرآة الطويلة ، بعد ارتدائها لفستان
ٍ اشترته حسناء لها بمناسبة عيد ميلادها الذي يصادف تاريخ اليوم على الرغم من انها
لم تكن لتتذكره لولا هدية حسناء لها .
لا تدري متى وجدت الفرصة للخروج والعودة دون ان تشعر بها . . الا ان كانت قد ابتاعته
لها قبل عدت ايام .. ليس متأكدة من ذلك .
في الجهة الاخرى جلست حسناء تتفحصها بصمت لثوان مقطبة جبينها
، ثم ما لبث ان قالت :
“ يحتاج لتقصير “
التفت غنج متفاجئة :
“ ماذا .. لا .. انه قصير جدا .. “
نهضت حسناء دون ان تعير ما قالته اي اهتمام وانحنت لترفع طرفي الفستان ،
فأبعدت غنج كفها قائلة بغضب :
“ من المستحيل ان ارتديه “
“ لماذا ؟ “
“ لانه قصير .. ثم لا توجد مناسبه لإرتدائة على اية حال “
نظرت اليها حسناء تعلو تعابيرها الدهشة لثوان في صمت كان ليطول
لولا ان غنج اشارت لها متسائلة :
“ لماذا تحدقين الي بهذه الطريقة “
“ لم اكن اعلم بأن ساجر يعيش محروما طوال هذه المدة “
اشاحت غنج متجاهلة تعليقها و راحت تسير الى داخل غرفة الملابس لتبحث
عن قطعة ترتديها ، بينما لحقت بها حسناء مضيفة :
“ ارجوكِ .. لا تقولي لي بأنك تخجلين من ارتدائه امام زوجك “
“ لا .. الامر ليس كذلك “
“ اذا ما الامر ؟ “
صمتت غنج وتوقفت عن البحث بين ملابسها مطرقة ، و لاتزال حسناء تقف بقربها
منتظرة منها الاجابة .. فرفعت بصرها محدقة بحسناء قائلة :
“ حسناً .. نعم .. اخجل من ارتدائه امام ساجر “
“ اخبريني .. كم مضى على زواجكما ؟ “
“ الامر ليس كما تعتقدين ، هو غير معتاد على رؤيتي بهذا الشكل
.. سيسخر مني كالعادة “
“ ولماذا يسخر منكِ ؟ “
“ لا ادري “
“ لن يسخر منكِ يا غبية .. انا اعرف جيدا بأنه سيعجبه .. هيا اذهبي وصففي
شعرك .. وضعي بعضا من مساحيق التجميل لتحتفلي بيوم ميلادك مع زوجك “
“ هو لا يتذكر يوم زواجنا .. ليتذكر تاريخ ميلادي ..
لماذا اضع نفسي في مواقف محرجة ؟“
“ ليس من الضروري ان يتذكره “
“ اذا تقترحين علي ان احتفل بيعد ميلادي .. حتى وان لم يذكره .!
ما رأيكِ في ان اجلب لنفسي هدية ايضا ؟ “
“ ليس من الضروري ان يجلب لك هدية .. وان لم يقم بذلك
وهو امر وارد ... ف اخبريه فقط بأن افضل هدية لك هو بقاؤه بقربك
و اكثري من الكلام المعسول .. “
نهرتها حسناء بغضب عندما اطالت التحديق بها
: “ لماذا تنظرين الي هكذا .. هل علي اخبارك بما يجب عليك القيام به
امام زوجك ؟ “
ضاقت عينا غنج غير مصدقة التغير المفاجئ الذي طرأ على حسناء فتسائلت :
“ مالذي تغير فجأة .. لم تكن هذه نصائحك منذ ساعات مضت ؟ “
“ دعيه يعلم بأني لست سيئة الى هذه الدرجة .. ! “
...... ...... ...... ...... ......
-49-
في السابق كان يتمنى لو امكنه البقاء في عزلة عن الالم .. ليوم واحد فقط .. دون ان
تتزاحم في منامه كوابيس تؤرقه .. كم يكره هذا الشعور الذي يعتريه .. و الذي يدفعه
بجنون الى الهاوية .. فلطالما اراد العيش كالاخرين ... ينام مثلهم .. ويضيق من شعوره
بالملل كما يضيقون .. و ليس بسبب اقراص يتناولها . !
و كم كان يحسد وليد كلما وقع بصره عليه عندما يبتسم و يلقي بعض الدعابات
.. بل انه في كثير من الاحيان .. كان يتعمد اثارة غضبه .. فقط حتى لا يراه هادئا مسترخيا
بينما يعيش هو في جحيم مستمر .
“ اسمي ساجر “
لا يزال يذكر ذلك اللقاء جيدا .. وكأن ايام معدودة تفصله عن تلك الذكرى ..
هو متأكد بأنها ذكرى سيئة لوليد .. حتى وان لم يقل ذلك حرفيا .
وهو لا يلومه على اية حال .
كان ذلك اليوم يمثابة المحطة الاولى التي انتقلت به الى عالم وليد .. تدريجيا حتى اصبح
كما يحب ان يقولها وليد : “ اخوه “
لا يعلم وليد بأن ساجر كلما نظر الى حياة صاحبه .. وراح يقارن بينهما .. زاد يأسه
و زادت صعوبة العيش مع هذا المرض .. فهو موقن بأنه لن يصل الى تلك الحياة التي
يحظا بها وليد .. يوم ما
اطبق جفنيه منصتا لصوت الريح التي هبت .. لتبعثر معها خصلات شعره الرمادية .. و تملئ
رئتيه برائحة الشتاء ..و لتفر كل تلك الذكريات في ثانية .. و تتوقف حياته على هذا المنحدر
فأما الخلاص .. او العودة لحياة بائسة .. لا يدري لماذا طرأت غنج بباله في تلك اللحظة ؟!
...... ...... ...... ...... ......
-50-
كانت تحتاج بشدة لتغسل هذه الكأبة عن وجهها .. و كم تمنت لو تزول بزوال تلك القطرات
التي شقت طريقها على ملامحها .
لم تمكث راما طويلا في دورة المياة ، و خرجت بخطى مثقلة لتهم منى وتلتقط كفها
في محاولة لمساعدتها على السير .. بالرغم من انها كانت قادرة على فعل ذلك لوحدها .
و ينما كانت تهم لتستلقي على السرير ، و تتدثر تحت غطائه الابيض .
انطلق رنين هاتفها .. لتبعد منى بصرها عن راما التي كانت تساعدها على الاستلقاء .
لم تكترث راما لرنين هاتفها وراحت تعدل وضع الوسائد خلف ظهرها فقد كانت
تحتاج لنوم وبشدة بعد نوبة البكاء تلك .. لكن منى تركتها وراحت تتناول الهاتف
وتلقي نظرة سريعة على شاشته.
عقدت حاجبيها .. بينما تسائلت راما بهدوء :
“ من المتصل ؟ “
“ بجاد “
“ بجاد ؟ “
كررت راما خلفها بإستغراب .. في حين كانت منى تناولها الهاتف
بريبه .. لتجيب تحت نظرات خالتها المربكة :
“ ( هلا بجاد ) “
“ (عظم الله اجركم ) “
اخترق صوته قلبها قبل ان يخترق طبلة اذنها ، لتستعيد في ذاكرتها ما حصل لها اليوم ..
ولا تزال تشعر بقبضته حول مرفقيها .. فأجابته :
“ ( اجرنا .. واجرك ) “
يبدو انه كان في مكان عام حيث كان هناك ضجيج من حوله ، لكن سرعان ما اختفى
ذلك الضجيج بعد صوت قوي لأغلاق باب ما .
تململ بجاد في مقعده قبل ان يقول :
“ اردت ان اطمئن عليك قبل ان اعود “
صمتت وقد اعتراها خجل شديد ، فأضاف بصوته الهادئ :
“ كنتِ نائمة .. لذا لم اتمكن من تعزيتك “
هل كان يحاول اخبارها بأن شيئا لم يحدث اليوم .. بطريقة غير مباشرة ؟
“ انا بخير “
لا تدري لما اجابته بهذه الكلمة على الرغم من انها لم تكن في محلها
فقد اربكتها نظرات خالتها التي تخترقها بريبة .. فقالت في محاولة لإستعادة توازنها
: “ لم اقابل عمي بعد .. كنت اود ان اراه قبل ان يعود “
“ سأعود لوحدي .. لكن والداي سيبقيان هنا..
فلدي عمل بالغد “
“ جيد “
لم يجبها بينما بقيت صامته على الطرف الاخر ، منتظرة منه ان يقول شيء
حتى ظنت لوهلة بأنه اغلق الهاتف .. لولا انه باغتها قائلا :
“ نحن بجانبك يا راما .. كوني متأكدة من ذلك “
“ نعم .. اعرف ذلك “
" حسنا اذا .. سأتركك الان "
" الى اللقاء "
اغلقة الهاتف ولم ترفع بصرها في محاولة لتجاهل نظرات منى لها !
،
|