كاتب الموضوع :
ريم . م
المنتدى :
الارشيف
..
الجــــــــــــــزء العـــــــــــــاشر
- 39 -
خرج من المصعد وأخرج مفتاح الشقة من جيبه قبل ان يبلغ الباب ، وراح يبحث عن المفتاح المطلوب ، كان يشعر
بأنه وصل الى مرحلة سيئة جدا ، فقد احتاج لعدة دقائق حتى تمكن من ادخال المفتاح في القفل بعد عدة
محاولات فاشلة ، ولكنه في المرة الرابعة استطاع اخيرا من ذلك و اداره ليدلف بخطى مثقلة وكأنه يحمل
العالم على ظهره .
اغلق ساجر الباب خلفه وراح يخلع معطفه ، اثناء سيره عبر الرواق محدقا بخطواته ، و عندما رفع رأسه
متوقعا ان لا يجد احدا تفاجأ بوليد ومعه اثنين من اصدقائه و يبدو انهم تفاجؤا كذلك برؤيته ، ضل لثوان يحدق
بهم مقطبا جبينه .
كانت ردة فعله متوقعه بالنسبة لوليد فلم يلق التحية او ما شابة ذلك ، ولم يتكلف حتى بإخفاء
انزعاجه من رؤية غريبين في الشقة وكأنه يقول في نفسه " ليس وقتة " .. !
هب وليد ليتدارك الوضع وعلى وجهه إبتسامة مشيرا الى ساجر : " اعرفكم على اخي و صديقي ساجر "
ثم استطرد موجها الحديث الى ساجر : " خالد ومحمود اصدقائي "
أومأ ساجر دون ان يبتسم مجيبا اثناء تحديقه بهما : " ممم .. اهلا وسهلا "
ثم اضاف متسائلا وكأن احد لم يكن موجود : " اين معطفي الاسود .. لقد نسيته هنا "
ابتسم وليد : " تخلصت منه .. لماذا ؟ "
" تخلصت منه ؟ " قالها ساجر بإنفعال ثم اضاف غاضبا : " لماذا ؟ "
ارتبك وليد لردت فعله التي لم يكن لتوقعها امام اصدقائه مجيبا :
" لم اكن اعلم بأنك لازلت تريده "
" حقا .. ! … اشكرك يا وليد .. اشكرك "
رمى جملته الاخيرة بنبرة حادة ثم مضى الى الداخل قاصدا غرفة النوم .
توقف وليد لدقائق محدق به اثناء اغلاقة للباب بعنف ليصدر صوتا مزعجا ، ثم عاد ليجلس في
مقعدة وعلى وجهه علامات الدهشة من ردة فعله ، بينما همس محمود متسائلا :
" مابه صاحبك .. لم يكلف نفسه عناء إلقاء التحية علينا .. "
صمت وليد وقد اعتراه خجل شديد من تصرفه ، ولم يجد ردا على ما قاله ، فقال
خالد موبخا لمحمود :
" لا تحكم على شخص لا تعرف ما هي ظروفه .. ثم انه يبدو متعبا "
" ولو .. لن يكلفه شيء لو انه تصنع ابتسامة ليرحب بنا "
" محمود ارجوك لا تبدأ بإنتقاد الناس كالعادة "
" معك حق " قطع وليد حديثهم الذي كاد ان ينتهي بشجار كالعادة ثم اضاف :
" لقد كان ساجر فظا … انا اسف .. اعذروه هو يمر بظروف صعبة حاليا "
" كلنا نمر بظروف صعبة يا وليد "
" انا اسف حقا .. لا ادري مابه .. هو بالعادة اكثر هدوئا "
تسائل خالد : " هل تتقاسمان السكن هنا ؟ "
" حاليا لا … احيانا يبات في مكان آخر .. ولكنه سابقا كان يبات
هنا معظم الايام .. لكن منذ ان تركت السكن و عدت الى شقتي لم يبات هنا سوى ليلة واحدة "
" لكنها بعيدة جدا.. لم نكد ان نهتدي اليها .. كدنا ان نتوه انا ومحمود "
" اعلم ولكني لم اعد احتمل مشاركة احد في السكن "
شاركهم محمود الحديث قائلا : " ان سكنك مع عمار اهون من العيش مع هذا "
قاطعة خالد بغضب : " كيف تقارنه به وانت لا تعرفه .. احسن الظن يا رجل "
نهرهما وليد : " توقفا عن الشجار .. ثم انني لا اسمح لك ان تتحدث عن ساجر
بهذه الطريقة يا محمود "
" لماذا تدافع عنه هكذا لم اقل شيئا "
" انت صديقي .. وهو كذلك .. ولو قال ما قلته لما سكت عنه "
" دعك منه وقل لي .. كيف تعرفت عليه "
قالها خالد بهدوء عله يدير دفة الحديث ، بينما انشغل محمود
اخيرا بقدح قهوته فأجابه وليد :
" هل تذكر المقهى الذي ذكرته لكم منذ عدة سنوات .. واجتمعنا فية لمرة واحدة ..
كان بعيدا عن المكان الذي نقطن فيه .. هادئ جدا … "
راح خالد يحدق في الفراغ محاولا التذكر .. ولكنه اومأ برأسه نافيا :
" اممم .. لم اذكره "
اضاف وليد القليل من التفاصيل عله يتذكر :
" هل تذكر عندما اجتمعنا نحن الاربعة هناك .. كان ( زيد ) وقتها معنا قبل ان يعود للوطن
بإسبوع ويتوفى هناك "
" الله يرحمه " .. همس بها الثلاثة ، ثم اضاف وليد محاول تذكيره :
" كنا قد اردنا ان نودعه قبل ان يسافر .. فأخبرتكم بمقهى كنت اتردد عليه "
تدخل محمود في الحديث بإنفعال وكأنه تذكر شيء مهم :
" نعم نعم .. تذكرته .. "
ثم راح يوجه الحديث الى خالد محاولا تذكيره
: " ذلك المقهى الذي يديره رجل عراقي كبير في السن ... حتى اننا لم نمكث طويلا فيه
فقد هب احد الرواد وطردنا بطريقة محترمه "
ثم اطلق ضحكة عاليه عندما تذكر ذلك الموقف ، فأبتسم خالد وقد عادة به الذاكرة
الى ذلك اليوم مجيبا :
" نعم .. نعم تذكرته "
ابتسم وليد لتعليق محمود قائلا :
" ذلك الرجل الذي طردنا هو ساجر "
اعتراهم الذهول لثوان محدقين بوليد ، ثم تبدلت الادورا في ثانية ليضحك خالد
ويصمت محمود متفاجئ .. !
---- ---- ---- ----
- 40 -
صعد عربته ورمى ( شماغه ) على المقعد المجاور له بعد ان افسدت هندامه بجنونها ، كان يحتاج لبعض
الوقت حتى يستعيد توازنه بعيد عن والدته و منيرة . لا زالت اطرافه ترتعش ، ما هذا الشعور الغريب الذي يعتريه ،
لماذا وجد في لمسها و جعا يفتك به ، وضع يده على صدره ، كان يؤلمه اثر محاولاتها في الافلات من قبضته .
كان صدره وقتها يعلو ويهبط ، و احتاج ليريح رأسه ويلقى بظهره للخلف على المقعد عله يرتاح قليلا
من كل هذا ، و عله بذلك يلقي بكل عبأ يحمله ، ليبتعد قليلا عن عالمه ، ولكن ذلك لم يدم طويلا فقد انطلق رنين
هاتفه ليقطع تلك الثوان اليتيمة فأخرجه من جيبه والقى نظرة على شاشته ثم اخذ نفسا طويلا محاولا تصنع
الهدوء لعدة دقائق قبل ان يجيب :
" ( آمرني يبه ) "
" اين انت .. الم اقل لك ان لا تتأخر .. متى ستقوم بما آمرك به دون الحاجة
لتكراره على مسامعك .. كم مره ستخجلني امام الرجال … لم يجبرك احد للقدوم الى هنا لتبقى
تحت ظل والدتك ! "
" انا في الطريق "
" كاذب .. انت لا تزال بالمشفى .. هل تظنني (خرفت) ؟ لا اسمع صوت ضوضاء من حولك "
" نعم ليس هناك صوت … لانني في المواقف .. وجالس في العربة حاليا وسأنطلق الان للعودة "
ثم ادار مفتاح عربته لينطلق هديرها عل والده يصدقه ، فقال العجوز بعد ان
سمع صوت المحرك وقد هدأت نبرة صوته عن السابق :
" كيف هو حال زوجة عمك وراما "
" ليسوا بخير .. خالتي متعبة جدا .. وكذلك ابنتها "
" لا حول ولا قوة الا بالله .. و اين والدتك ؟ "
" تركتها هناك "
" كيف تتركها هناك ! .. هل جننت ؟ .. هي ايضا تحتاج للعناية "
" خالتي منيرة تريدها ان تبقى بقربها "
" مالذي ستفعله والدتك لخالتك منيرة "
كان يعلم بجاد بان والده سيجد سببا ليوبخه من خلاله حتى وان اثبت له عكس ما يعتقد ، هكذا مضت بهم
السنين الاخيرة في شد وجذب والتي تعلم بجاد خلالها كيف يتحكم بإنفعلاته رغما عنه ، لا يغضب لا يعارض ..
لا يشاركه في رأي .. يلبي اوامره فقط .
لقد كان يخشى من ذلك اليوم الذي سينتهي به الى الانهيار ، كما حدث لراما اليوم ..!
وقتها لن يتعرف على والده كما لم تتعرف راما عليه اليوم .. ؟!
---- ---- ---- ----
- 41 -
" وهل انتِ موافقة على ذلك "
صمتت غنج تحدق بها لثوان ، فلم تجد إجابه على سؤالها لأنها في الحقيقة لم يكن لها رأي في
ذلك القرار حتى توافق او ترفض .. !
اضافت حسناء بغضب :
" متى ستتخذين القرار وتواجهيه ؟ .. الى متى يا غنج ..
هل اشكل خطرا عليه الى هذه الدرجة ؟ لماذا ؟ مالذي يخفيه زوجك و يخشى ان تعرفينه "
" اخبرته بذلك .. و غضب .. " صمتت غنج لثوان ثم اكملت :
" هناك الكثير من الامور التي لا اجد لها تفسيرا .. انه يبعدني عنه ..
لا يريد ان اشاركه في اي شيء .. فقط اود ان اعرف ما هو السبب "
" كله بسببك .. لقد اعتاد على خضوعك لأوامرة دون ان تشاركيه في اتخاذ القرارت
حتى عندما قررت اخيرا .. تفاجئيني اليوم بأنك تراجعت عن الانفصال واخبرته
بأنك لا تستطيعين العيش بدونه "
" انا لم اقل ذلك .. فقط اخبرته بأنني لا اريد الانفصال "
" ومالذي يعنيه هذا يا ذكية ؟ .. اراهن على انه يعلم بأنك ستتراجعين عن الانفصال "
صمتت غنج تحدق بتلك المرأة الرابضة امامها ، تحمل تقاسيم وجهها الكثير من الصرامة ، هل ستصبح مثلها
في يوم من الايام بهذه الصرامة ، و بذات التفكير .. ؟ لم تكن حسناء سيئة المظهر ابدا … ولكن داخلها كان
متصدع من هذه الحياة وتجاربها ليس من العدل ان تتغير نظرتها للحياة لتصبح بهذا التشاؤم ولتفقد ثقتها بأغلب
الناس بسبب شخص رحل دون ان يفكر بها ، وبإبنتها … ليس عدلا ابدا .. لكن ساجر ليس سيء الى هذه الدرجة ،
اذا لماذا لا يريدها ان تحتك بحسناء ، لماذا ؟!
" بماذا تفكرين ؟ "
قاطعة حسناء شرودها فأجابت بهدوء :
" لا شي يا حسناء .. لا شيء "
" ( لا شيء ) … تخفي كل شيء "
ابتسمت غنج لتعليقها و راحت تكمل الحياكة ( بالسنارة ) بينما عادت حسناء تشاهد التلفاز ليهدأ
المكان و تتوقف تحليلات الظهيرة التي لا تثمر بشيء كالعادة ، ولكنها ما لبث ان تسائلت :
" الم تقابلي احدا من عائلته ؟ "
" عائلة من ؟ " … " اوه تقصدين ساجر .. لا .. هو يتيم .. توفي
والده قبل ان يبلغ الخامسه من عمره "
" و اين والدته ؟ "
" هي ايضا توفت قبل ان نتزوج بسنة تقريبا .. لم اراها من قبل "
" اذا مالذي تريدين ان تعرفيه بعد كل هذا "
ابعدت غنج نظرها عن القطعة التي تحيكها محدقة بحسناء ، ثم اجابت بعد
ان اخفضت بصرها من جديد :
" لا ادري "
" هناك شيء تخفينه عني .. هيا تحدثي "
عادت غنج لتحدق بحسناء في تردد ، ثم قالت بعد برهه :
" كلما فكرت بأن احد لا ينتظره في الوطن … ينتابني شعور بالخوف .. فهذا يعني بأنه لن يكون
هناك سبب يدفعه للعوده .. كما ان كل ما يقوم به هنا دليل على ذلك "
" و مالذي يقوم به هنا ؟ "
" لا ادري .. هو يقول بأننا سنعود بعد ان ينهي عمله هنا .. ولكن .. "
توقفت غنج وقد بدت متردده في الحديث بينما استطردت
حسناء عوضا عنها :
" ولكنك لا تصدقين بأن لديه مايقوم به هنا ؟ …
لا تصدقين بأنه فعلا يكمل دراسته .. ؟! "
كيف لحسناء ان تقرأ افكارها بهذه الطريقة ، هل حقا باتت تشبهها لدرجة انها اصبحت تفكر مثلها .. ؟
هي خجلت من التشكيك في حقيقة ذلك الموضوع لانها لاتملك خلفية حول طبيعة الرسالة التي يزعم ساجر
بأنه يحظر لها فهي لم تكمل دراستها الثانوية حتى تحكم على امر لم تبلغه بعد ، ولكن لماذا تبادر
الى ذهن حسناء ذلك .. وهي التي قد قابلت العديد من المغتربين ، و تعرف جيد طبيعة الحياة التي
يعيشونها اثناء دراستهم … لماذا ؟
---- ---- ---- ----
- 42 -
حدق خالد بساعة الحائط بحركة تلقائية ثم قفز ليلتقط حقيبة ظهرة موجها الحديث لمحمود :
" اوه .. لقد مر بنا الوقت دون ان نشعر هيا .. هيا علينا الحاق بالقطار "
نظر وليد الى ساعته قائلا : " الى اين "
نهض محمود بتثاقل اثناء ارتدائة لسترته مجيبا وعلى شفتيه ابتسامة ماكرة :
" يريد ان يتبضع لزوجة المستقبل "
حدق به خالد ، بنظرات ذات مغزى فضحك محمود ورفع يديه الى الاعلى :
" اسف قلتها بتلقائية "
" ان حديثك كله بتلقائية يا مسكين "
ضحك وليد لمنظرهما بينما قال خالد موجها الحديث اليه :
" هل تريد ان تتبضع معنا ؟ "
" لا لقد انتهيت بالامس "
" كما تشاء .. هيا يا محمود لاتنسى الكتاب "
التقط محمود كتابه و سار خلف خالد عابرين الرواق بينما كان وليد يتبعهما قائلا :
" سنلتقي غدا … ولكن حددا مكان مناسب "
" انا منشغل لن اتمكن من مقابلتكما غدا " قالها محمود وتوقف امام باب الشقة بينما
تسائل خالد مقطبا جبينه :
" اي عمل ستنشغل به .. لم تخبرني عنه ؟ "
" امر خاص … هل سنطيل الوقوف هنا ؟ "
تحدث وليد ليختم حوارهم :
" حسنا ساهاتفك غدا .. ولكن ارجوك لا تنسى هاتفك كالعادة ..
ضعه في جيبك "
أومأ خالد بالإيجاب ثم لحق بمحمود الذي سبقه الى المصعد بينما ضل وليد محدق بهما ، فقال له محمود :
" انك تشعرني وكأننا راحلون .. هيا ادخل قبل ان يغضب صاحبك "
ضحك خالد لتعليقة وطرقه على كتفه قبل ان يغلق المصعد ليبتلعهما .. ثم تراجع وليد واغلق الباب
وعلى شفتيه ابتسامة اختفت عندما تذكر ساجر الذي لم يخرج من الغرفة منذ وقت طويل ، تمنى وقتها
بأنه قد نام فلم يكن في مزاج لمواجهة ابدا .
عبر الرواق المؤدي الى غرفة النوم وامسك بالمقبظ لثوان قبل ان يديره ، اصدر الباب صوتا مزعجا
لكن المستلقي على السرير لم يلتفت ولكنه تمكن من ان يلمح وليد وقد اطل برأسه و الذي كان سيقول شيء لولا
تفاجئه بما رآه .. فلم يبقي ساجر شيء في مكانه وكأن اعصار عصف بالمكان ، فكان الدولاب مفتوحا تطل من اكوام
من الملابس المتراكمة بدأ بالرف وإنتهاء بالارضية .. وظلت ادراج المنضدة مفتوحة تتدلى منها الاوراق وكل
ما احتوته من كتب او مفاتيح و اشياء أخرى بينما بقي ساجر على وضعيته محدقا
بالسقف وكأنه لم يشعر بدخول وليد :
" ماذا فعلت ! "
القى وليد جملته اثناء دخوله محدقا بكتبه واوراقه التي كانت مرتبة في يوم ما ، لكن ساجر لم يجبه ولم يبدي
اي ردة فعل مما زاد من غضب وليد الذي انحنى ليلتقط احد الكتب المرمية متسائلا :
" هل تشعر بالراحة الان .. عندما تفسد كل شيء يتعلق بي ؟ "
" كنت ابحث عن اقراصي التي اضعتها انت ..
بينما كنت تجلس وتتحدث مع اصدقائك "
قالها ساجر بنبرة هادئة ظاهريا بينما لا يزال يحدق بالسقف .
" ساجر ، لقد سئمت من رمي اخطائك علي ..
ثم ان كانت مهمة الى هذه الدرجة لماذا لم تحتفظ بها ؟ "
هب ساحر ليجلس جسده مشيرا اليه بغضب :
" لانك انت السبب في هذا كله فلو انك لم تتفضل علي بذلك
المعطف لما اضعت اقراصي "
" ارجوك ساجر .. اخبرني بأنك لست جادا في ما تقوله ؟! "
اومأ ساجر بسخرية مجيبا :
" اوه نعم نعم .. انا لست جادا … لست جادا في قضاء
يومين دون ان انام … لست جادا ابدا "
" حسنا مالذي تريد مني ان افعله
حتى ترتاح ؟ "
" لا شيء "
قالها ساجر يحنق وخرج تاركا وليد خلفه غير مصدق بأن كل ما حصل بينهما
كان من اجل علبة اقراص .. ولكن ما لا يعرفه وليد بأنها ليست مجرد علبة اقراص .. !
---- ---- ---- ----
- 43 -
" لن يفيدها ابدا بقائكم هنا .. سلطان بالخارج سيأخذكم الى
المنزل وسأبقى بقربها .. هيا يجب ان تنالوا قسط من الراحة .. لقد قضيتي معظم
يومك هنا .. تحتاجين لنوم "
لم تتحدث منيرة بحرف واحد مقابل ما قالته اختها ( منى ) وظلت رابضه على المقعد المجاور لسرير راما ، بينما
كانت ام بحاد تجلس محدقة بجسد راما الساكن و التي ظلت تحدق في الفراغ بملامح تخلو من أي تعبير حيث
ظلت على هذه الحال منذ ان استيقظت خلال نصف ساعة .
" ( قولي شي يام ابجاد ) "
وجهة منى الحديث اليها بعد ان يأست من اقناعها ، فتدخلت ام بجاد في محاولات
تعلم جيد بأنها لن تفيد ابدا :
" معها حق يا منيرة .. دعينا نذهب لنرتاح قليلا .. و ( منى ) ستبقى هنا "
" اخشى ان يصيب ابنتي مكروة ولا تخبريني .. اعرفك جيدا "
كانت توجه حديثها لمنى والتي اجابت بهدوء علها تصدقها :
" ابنتك لا تشكو من شيء .. هي بخير .. ثم ان حصل
اي شيء سأخبرك .. صدقيني "
" كيف سأتمكن من النوم وابنتي هنا … كيف ..
لن ارتاح الا عندما تخرج من المشفى "
" منيرة .. هي تحتاجك قوية .. وانت متعبة .. لقد اجهدتي نفسك خلال الساعات الماضية ..
اذهبي وتعالي غدا لرؤيتها .. لن يمنعك احد من زيارتها .. و سأجعلها تهاتفك .. صدقيني "
صمتت منيرة لثوان وقد بات التعب واضح عليها فقد امتنعت عن الاكل ، بل نست تماما ان تغذي جسدها
الضعيف بعد ان انشغلت بإبنتها المستلقيه على السرير ، فكل ما كان يشغلها في تلك اللحظات هي تلك الفتاة …
التي لا تستحق ابدا ان تمر بما مرت به اليوم ... ليس اليوم … ليس بعد ان استعادت توازنها .. بل القليل ..
القليل من توازنها … كم كانت تود لو ان تحميها من هذه الحياة .. لو ان تبقيها بعيد عن اعين البشر .. ان تنتزع
من صدرها كل ما يؤرق تلك العينين التي باتت اكثر ذبول من السابق .
" امي … اذهبي و ارتاحي … انا بخير "
التفت كل من كان بالغرفة محدق براما التي راحت تجلس جسدها بوهن ، فهمت ام بجاد
لتساعدها والتي كانت اقرب الجالسين لها بينما هبت والدتها بقلق :
" لا تجهدي نفسك "
" انا بخير .. ولكن لن ارتاح ان لم تذهبي لتنالي قسط من الراحة
.اذهبي .. ستبقى منى معي "
راحت والدتها تمسد شعرها : " انا لست متعبة "
قاطعتها راما ملتقطة كفها : " ارجوك ِ اذهبي وارتاحي .. انا بخير .. انظري الى
انا لا اشكو من شيء كما قالت منى "
كم كان قناع راما اليوم باليا … يكشف لوالدتها اكثر مما يخفي … هل تحاول ان تتظاهر فعلا
بأنها بخير .. هل حقا تطلب من والدتها ان تنظر اليها لتعلم بأنها بخير .. لتتمكن من تصديقها و تمضي … ؟
هي لم ترى تقاسيمها في المرآة بعد ..لانها لو فعلت لما طلبت من والدتها بأن تنظر إليها …
فهي لم تكن بخير ابدا .. !
---- ---- ---- ----
- 44 -
لا يدري ساجر كم مضى به من الوقت و هو لا يزال يقف في ذلك المكان ، لكنه يعلم بأنه اراد ان يبقى بعيدا
عن ضجيج المدينة على الرغم من انه لم يبتعد عنها كثير ، و لكن المكان هنا اكثر عزلة وهدوئا … كان يقف محدقا
بالافق بينما لا تزال الشمس تتأرجح بين الخط الفاصل لغيابها .. لتشرق في مكان ما ، مكان اشتاق له كثيرا … و لرائحته .
كان قد القى آخر حجر ليحلق بلا هدى وكأنه يلقي معه بكل غضبه ولكنه بالرغم من ذلك لم يتمكن من القاء آخر هم .. !
دفن كفه في جيبه عندما شعر بلسعات الهواء الباردة تحيط به بعد ان ترك المعطف خلفه من شدة غضبه ،
" انا لست بمخطئ ، لقد تعمد وليد ان يفعل ذلك بي .. يريد ان يراني بهذه الحال .. يريد
ان يتخلص مني بأي طريقة ! "
راح يضغط بأنامله على جبينه بتعب فقد ارهقه التفكير بالكثير من الامور ، فكيف له ان يهرب
من تلك الافكار بعد ان فقد وسيلة الوحيدة في الهرب .. كم اصبحت حياته بائسة الى هذه الدرجة دون ان يشعر ،
حتى بات لقرص صغير ان يربك توازنه في ثانية ليحيل حياته الى جحيم
تقدم لعدة خطوات وراح يلقي نظرة على المنحدر .. كان المكان شديد البرودة هنا .. وكان يستطيع سماع اصوات
خافته لضجيج المحركات و اصوات اطفال يلعبون بكرات الثلج حملتها الرياح له وكأنها تخبره بأن هناك حياة تنتظره
على بعد خطوات من هنا ، و لكنه بالرغم من ذلك كان يشعر بأنه وحيد على هذه الارض !
تقلصت ملامحه بضيق عندما تذكر بأنه لم يتناول اقراص الاكتئاب ، كيف غاب ذلك عن باله ؟ على الرغم من انها بقيت
في عربته على خلاف الاقراص المنومة ، اذا كيف له ان يتخلص من هذا الشعور دون ان يحتاج لعلبة اقراص لعينة ؟ كيف ؟
هناك فقط على بعد خطوات منه ذلك الحل الوحيد الذي سيخلصه من هذا العذاب … فقط بضع خطوات … لن يحتاج بعدها
لا لوليد .. ولا لعلبة الاقراص .. !
شعر وقتها بأن هناك هالة تحيطه .. تعيق وصول الاصوات الى مسامعه .. فلم يعد هناك صوت لهدير
المحركات او صوت ضجيج الاطفال .. لم يكن هناك سوى صوت يحثه على التقدم .. اتراه قادم من بعيد .. او هو صوت
لم يتجاوز ذهنه .. لا يدري ولكن ما يعرفه جيدا بأنه اراد ان يلقي بجسده من على ذلك التل .. فقط يريد ذلك و بشدة .. !
..
|