كاتب الموضوع :
futurelight
المنتدى :
الارشيف
هبت رياح الخريف الباردة لتسقبله ما إن فُتِح باب المستشفى الزجاجي.. خطت قدماه إلى الخارج وهو يحكم من لف معطفه الداكن حول جسده..
زفر نفسا دافئا وهو يعيد لف وشاحه الأبيض حول رقبته..
لم يكن ذلك كافيا كي يقيه لسعة البرد التي هاجمته من كل اتجاه لذا حث الخطى عائداً الى داخل المستشفى ليخرج بعد دقائق وهو يرتشف من كوب يحتضن مشروب أعشابٍ تتصاعد الأبخرة منه منتهكة حرمة الهواء البارد..
ابتسم شماتة بالبرد وهو يسير بخطوات واسعة نحو سيارته بينما انشغلت يده الاخرى بإستخراج المفاتيح من جييب المعطف..
توقف بجوار السيارة ليستخرج هاتفه الجوال الذي يهتز في يده معلنا وصول اتصال..
تجاهله وهو يدس جسده داخل السياره..
بقيت داخل السيارة للحظات احدق في شاشة هاتفي الجوال التي تومض مرة أخرى في تردد بين الرد وعدمه خصوصا بعد ان ظهر لي على شاشة الجوال "المنزل"..
فأنا متعب حقا بعد يوم عمل شاق ولا أرغب في سماع شيء في غير وقته، إذ لدي خبرة مع عائلتي تمتد الى أكثر من ثلاثة عقود تخولني بالحكم عليهم كمصدر لزيادة الشعور بالارهاق على الرغم من حبي لهم..
لكن اصرار المتصل جعلني اجيب على الاتصال وانا اتنهد..
وصلني صوت والدتي وهي تتكلم على عجل – كما تفعل دائما حتى وإن لم يكن الموقف يستدعي السرعه- لتقول بعد التحيه:
"بني.. بني.. للتو عقدنا اجتماعا ونريد أن نطلعك على القرارات التي توصلنا اليها"
كنت أعلم أنه لم يكن يفترض بي الرد على هذا الأتصال بل الهرب منهم ما إن تطأ قدماي أرض المنزل..
فأعضاء هذا الاجتماع هم اشخاص لا يجدر بي التعامل معهم الا بعد ليلة من النوم الهانيء..
أكملت أمي وقد اعتبرت ان صمتي هو دليلل لموافقتي.. أو إستسلامي بتعبير اصح!
"لذا لا تذهب الى اي مكان.. عد الى المنزل مباشرة قبل ان يغادر الجميع"
هذا ما كنت اتمنى فعله لكن ربما من الاجدر بي عدم التهرب.. فأفراد عائلتي هو أعضاء حكومة لا فرار من سلطتها..
فبحكم حالة والدي الصحيه التي تتلخص في ضغط مرتفع ومرض السكر وانشغاله الدائم بعمله - على الأقل هذا ما عبر عنه هو وما لم اجرؤ أنا على نقضه - تقرر ابعاده عن كل ما يترك تأثيرا على صحته..
ومن ضمن تلك الاشياء التي تقرر إزاحة همها عن والدي المبجل هم أفراد عائلتي، لذا ولكوني الابن الوحيد اصبحت أنا رئيس الحكومة ، هذا ما تطلعه علي اصغر إخوتي على أية حال..
زفرت مبعدا كل فكرةٍ تتعلق بوالدي عن ذهني.. يجدر بي ان أفكر في أشياء تجلب لي الراحه لا عكس ذلك..
اسند ظهره الى المقعد بينما رفع كفيه ليضعهما على المقود.. يحدق لما وراء الزجاج الامامي للسيارة دون أن تعي عيناه ما تقع عليه.. فقد كانتا تسبحان في الفراغ بينما يعاد ما حدث في ذلك اليوم مرار وتكرارا في عقله..
إرتحلت أفكاره إلى حيث تنمتي.. توقفت عند قمره..
كل ما إحتاجته هو عدة لحظات لكي يتشاجر الالم، الراحه ، الحزن، السعاده، الشك، الامل، الخسارة الكبرى والحصول على طوق النجاه..
لا يوجد في العالم شخص كهذا..
شخص قد يمتلك كل هذه المشاعر في لحظة واحدة الا هي..
كل تلك المشاعر تشاجرت مع بعضها ليغزو المنتصر منها ملامح وجهها، ارتسم الحماس على وجهها وهي تقول:
"هل استطيع الرفض منذ هذه اللحظه؟!"
ماذا؟!..
ألا يكفي التنازل الذي قمت حتى تقوم بالسخرية مني إلى هذه ادرجه.. هل امتلك عقل طفل كي تسأل مثل هذا السؤال؟!..
لا اعلم الى اين سأصل باقتراحي لكنني بالتأكيد لن اصطدم في ذلك الحائط الذي يستقر على بعد سانتيمترات مني... لذا احتفظت بغضبي لنفسي وانا اقول:
"حسنا.. شهرين!!..
إذا بقيت على رأيك بعد ذلك سوف ألغي أنا بنفسي كل شيء.."
ارتسمت سعادة قاتلة على وجهها!!
هل تريد التخلص مني الى هذه الدرجه!!..
كيف يمكن لها ان ترفضني بهذه الطريقه دون اي سبب مقنع؟!!!
استدارت لتغادر المكان إلا انها توقفت بعد خطوتين لتقول دون أن تلفت بإتجاهي:
"شكرا... انا حقا شاكرة لك"
يجدر بي أن اكون سعيدا إذ أنني تسببت في إسعاد شخص ما.. إلا انني أكاد أخنقها بيدي..
وضعت هدفي نصب عيني وابتسمت..
أردت ابقاءها بجانبي لذا ابتسمت لكنني لا أستطيع إلا التفكير بأنني شخص بغيض دون ان يكون لدي علم بذلك!!!
او ربما احمل مرضا معديا لتنفر مني الى هذه الدرجه!!
رصصت اسناني بغيض وانا احرك السيارة باتجاه المنزل..
دخلت الباب الداخلي للمنزل لتهب في استقبالي وزارة الداخليه – والدتي المسئولة عن الشئون الداخلية للمنزل– فتسحبني من ذراعي بإتجاه غرفة الجلوس حيث تم الاجتماع..
القيت التحية على الجميع، في هذا المنزل وحيث أنا الإبن الوحيد توجد هناك أختان تكبرانني في العمر وأخريتان اصغر عمراً مني..
اشارت علي وزارة الماليه – اختي الكبرى حسناء وذلك لإهتمامها بتنظيم ميزانية المنزل – بالجلوس في المقعد المجاور لها..
ما ان استقريت في مكاني حتى وصلني صوت اختي التي تكبرني مباشره وهي تضع ساقا على الاخرى وتعقد كفيها على ركبتيها:
"نحن نطالب باقمة حفلة خطوبه"
وزارة العدل .. اختي حوراء هي دائما المتحدث الرسمي للعائلة والتي تهتم بجميع الاوراق الرسمية التي تخص هذه العائلة..
تنهدت وانا افرك فروة رأسي بانزعاج:
"لماذا؟!.. الا نستطيع المضي في الخطوبة دون اقامة حفله!!"
قالت حسناء وهي تستقيم في جلستها:
"اخي الوحيد ولا تريدني ان اعيش كل لحظة من لحظات زواجه!!"
قالت حوراء بحماس:
"يجب ذلك.. يجب ان تعرف هذه الفتاة من أي شخص تزوجت"
وضعت امي يدها على نحرها لتهز يدها الاخرى في وجهي وتقول بكلمات تكاد تقتتل مع بعضها تحت ضغط سرعة والدتي في الكلام:
"لا تعجبني.. انا لم ارغب بها، فقد رفضتك هذه الفتاة من قبل.. لكن ما باليد حيلة فأنت عنيد يا بني"
قلت بضيق وانا اعلم كم ستغضب "هذه الفتاة" بسبب اقامة الحفله:
"ليس هناك داع لتثبتوا لها اي شيء.. الا يكفيكم انني سعيد!!"
مدت اختي حلا - التي تصغرني بعدة اعوام – ذراعها في اعتراض وهي تقول:
"انا لا احبها.. كيف استطاعت ان ترفضك يا اخي وأنت دكتور!!"
قالت زهور - اصغر فتيات العائلة – بسعادة وهي تغطي خديها بكفيها:
"يجب ان نقيم احتفالا كي استطيع ارتداء فستاني الجديد"
شهقت حلا قبل ان تقول:
"يجب ان اكون جميلة كي اجذب انظار النساء وتخطبني واحدة منهن لإبنها!"
هاتان الاثنتان هما رعاع الشعب – هذا ما يطلقان على نفسيهما- فعملهما الوحيد هو زيادة الاعمال على بقية أفراد العائله..
التفت ضياء على حلا ليقول بسخرية:
" لا افهم كيف يحتوي رأسك على عقل سطحي الى هذه الدرجة فالعمل ليس كل شيء في هذه الحياة.. كما انه لم يتواجد في العالم بعد شخص تعيس كفاية كي يتزوج بك"
التفت على الصغرى زهورليكمل قائلا:
"اختك هذه انا فقدت الامل فيها لكن اياك ان تتعلمي الغباء منها.. اذا اصبحت مثلها فتأكدي انك لن تتزوجي ابدا"
توقف للحظة قبل ان يكمل بصوت عال وصارم:
"أرفض قراركم.. إنتهى هذا الإجتماع"
إلتفت نحو اختيه حسناء وحوراء مكملا:
"عودا الى منزليكما.. أمامكما طبخ العشاء"
التفت الى حلا وزهور:
"أما انتما.. "
التزم الصمت للحظات يقلب الافكار في رأسه علّه يصل الى شيء يمكنهما القيام به إلا انه اكتفى في النهاية بقول:
"عيثا في الارض فساداً كعادتكما"
استقام جسده واقفا ليقول مخاطبا والدته:
"سوف أذهب للنوم"
لم يكد يتحرك خطوتين حتى وصل الى مسامعه صوت وزارة الماليه:
"أنظر الى هذا"
التفت ليحدق في الورقة الصغيره التي رفعتها لتقول وزارة العدل:
"نسينا ان نخبرك اننا حجزنا قاعة الاحتفال ومتعهد الطعام"
أكملت وزارة الداخليه:
"كما أنني بدأت في توزيع الدعوات"
أما رعاع الشعب فكانتا في منتصف حديثهما عن المكياج الذي سيضعنه في ذلك اليوم لتنتقلا بسرعة خارقة الى نوع الاحذية التي سترتديانها..
رفعت يدي لأدلك مؤخرة عنقي.. وهكذا كنت مجبرا على القيام بشيء لا أريد القيام به بسبب هذه العائلة الكريمه..
اعتقد ان هذه هي ضريبة العيش مع عائلته يغلب عليها النساء.. وأسوأ ما في ذلك هو اني فهمت الكثير من اسماء قصات الشعر التي كانت تفكر بها حلا والتي تقترحها زهور!!..
لم يكن يفترض بي ان افهم هذا!!.. لا يفترض بي ان اعرف شكل كل واحدة من هذه القصات..
يجدر بي حقا ان اتزوج بسرعه واغادر هذا المنزل قبل ان اتعلم كل شيء عن مساحيق التجميل!!
استدرت لاكمل طريقي خارج الغرفة وصوت حلا يرن في اذني:
"لا توجد ديموقراطية في هذا المنزل.."
ما إن وصلت الى غرفة نومي حتى رميت بجسدي على السرير..
هذه هي النهاية..
ستقام هذه الحفلة كما أردن وكما خططن إلا في حالة هرب العروس!!
أما إذا حدثت معجزة وقررت العروس الحضور فسيقام الإحتقال بعد اسبوعين، رفعت هاتفي الجوال في ضيق وتخوف من ردة فعلها لأرسل رسالة إلى الرقم الذي أعطتني إياه في آخر مرة إلتقيت بها.. كتبت فيها:
"سوف تقام حفلة لخطوبتنا.. لذا ليتوقع أهلك اتصالا من اهلي..
تقبلي مني اعتذاري.. فقد كان القرار خارج إرادتي"
وضع هاتفه الجوال على الوضع الصامت ثم غرق في نوم عميق رافضا التفكير بأي شيء..
في صباح اليوم التالي عندما أستيقظ وجد في هاتفه أكثر من اربعين مكالمة لم يرد عليها ورسالة واحدة تحتوي على ثلاث كلمات فقط:
"سوف أفقع رأسك!!"
عندما تعتقد إنك تمسك بجميع الخيوط..
أنك تعرف كل ما يجري حولك..
أنك المتحكم في كل شيء..
عندها فقط ينزلق الخيط الأول من قبضتك..
****************************************
|