كاتب الموضوع :
futurelight
المنتدى :
الارشيف
اللون الاول..
تعانقت عيناه اللتان سرقتا من الليل ظلمته بعينيها اللتين غرقتا بلون العسل.. أراد الوقوف من المقعد المتواجد خلف مكتبه الا ان قواه قد فرت هاربةً منه لمرآها بعد كل هذه السنوات.. تقدمت هي خطوة اخرى الى الامام إظهاراً لتصميم مزيف واخفاءاً لرعب حقيقي..
مرر يدا صبغتها الشمس بأشعتها في خصلات شعره وهو يحاول أن يخبر عقله بانها الفتاة الحقيقيه وليست احدى خيالاته .. اما هي فقد عقدت أصابعها امام جسدها الضئيل بارتباك من يعلم انه يقوم بخطوة جريئةٍ إلا انه لا مفر امامها..
مال بجسده الى الوراء ليسند ظهره الى المقعد لتعود به الذاكرة الى الوراء ليقول بصوت حالم:
"أوه.. إنها قمر الصغيره"
قال تلك الجملة بينما علت شفتيه ابتسامة لطالما علتهما قبل سنوات كانت لتكون سابقا مصدر اطمئنان لها اما الآن فبسببها سرت قشعريرة باردة في جسدها..
كان لها تأثير سحري قبل العديد من سنوات، عندما كانت هي طفلة في الثامنه أما هو فابن الخامسة عشر..
لكن لا يمكن أن أسمح لنفسي بالاطمئنان اليه.. هذا ما ذكرت به نفسها..
لا يمكن أن تلين حتى ولو كان هذا الشخص مناصرها سابقا في المعارك التي تدخل فيها مع اولاد الحي..
حتى لو كان هو الشخص الذي تحتل أحد جيوبه دوما ضمادة كي يستخدمها في حال احتاجت واحده بعد إحدى المعارك أو الالعاب..
حتى لو كان هو الشخص الذي يستمر بمواساتها بعد كل نزال تخسره أو لعبة تفشل فيها بكوز من الايسكريم..
حتى لو كانت تراه في صغرها كبطلها الخاص الذي خرج من التلفاز لأجلها..لكن الأن لا يمكنني أن اقبل بذلك..
بعد ستة عشر عاما لا يمكنها بالتأكيد أن تتراجع او تتساهل..
قالت بصوت حاد:
"لقد قمت سابقا بالإتصال بك عبر الهاتف"
توقفت لتزدرد ريقها قبل أن تكمل:
"لقد اتصلت بتحويلتك هنا بعيادة الاطفال لكنني وعلى عدد المرات التي تم تحويل مكالمتي فيها من هاتف إلى آخر لم استطع التحدث معك.. لذا رأيت أن مقابلتك شخصيا هو امر لابد منه"
توقفت قليلا لتلتقط انفاسها.. غرقت نظراته المصوبة تجاهها في بحر من الصمت..
حملت عيناه المختبئتين خلف نظارته الطبيه تعبيرا لم تفهمه.. الكثير من الرسائل بلغات لا تمت لما تعرفه بصله..
أو ربما هي فهمت كل شيء الا انها قررت فقط تجاهله..
قال فجأة:
"انتظريني دقيقة فقط"
لم يكد ينهي جملته حتى امسك القلم بيده وبدأ يكتب في الاوراق المتواجده أمامه على المكتب وهو يمرر يده الاخرى في شعره الذي يقارب طوله السانتيمترين .. أغلق الملف الحاوي على الاوراق وهو ينادي الممرضه..
أطلت تلك الممرضه في الغرفة وهي تقول:
"نعم دتكور ضياء"
سلمها الملف قائلا:
"لقد أنتهيت من هذا المريض.. تجدين بالداخل تحاليل المختبر وورقة بالموعد القادم..."
رفعت عينيها الى تلك المراة التي تقف عند الباب وقد عقدت كفها بكف طفلة تزينت بفستان الزهري..
نقلت بصرها في بقية أرجاء الغرفة.. كانت الأفكار تتشقلب في عقلها.. تتخذ منحى لتترحل نحو اتجاه اخر..
تلك الغرفة التي تشح بالاوان كانت غنية بالأفكار..
اختارات الجدران اللون الابيض بينما كل قطعة اثاث موجودة هنا انتقيت بعناية لتحمل اللون الرمادي..
بينهما تشربكت الكثير من الخيوط التي نسجتها أفكارهما..
تسلحت افكارها هي بنار ارادة اشتعلت بين حناياها .. أما هو فقد تكللت أفكاره بعطر ذكريات عبقَ فأسكر خلاياه..
توقفت عيناها المتنقلتين عند محطة معينه.. فعكستا أحدى الرسومات الكارتونيه المعلقة على الجدران.. حدقت فيها حتى هدأت.. فالغضب لن يحل شيئا...
هذا ما خاطبت به نفسها مرارا وتكراراً..
رفع ورقة في يده وهو يكمل:
"هذه الورقة لحجز موعد عند عيادة الاعصاب.."
الطريقة التي كان يستقيم بها في جلسته كانت تحكي الكثير.. أصابعه التي تعلقت الورقة بينهما كان ترسم لوحة شخص ولد ليكون ارستقراطيا..
لم تكد تغادر الغرفة حتى ناداها وهو يشير لقمر بالجلوس:
"لا تدخلي اليّ أي مريض حتى اخبرك بعكس ذلك"
لقد كبر ليصبح دكتور اطفال..
أضافت الغيرة وقودا لتلك النار المشتعلة بجوفها.. فهو كبر ليصبح شخصاً مميزا اما هي فلازلت كما النحلة تتنقل من مشكلة الى أخرى..
مع هذه الفكرة قالت له بصوت تجاذبه القهر والضيق ما إن التفت بإتجاهها:
"ذلك الموضوع الذي تحدثت به مع عمي.. جوابي هو الرفض"
استقام في جلسته.. اسرتخت ذراعاه على ذراعي المقعد.. امال برأسه الى الجنب قليلا وهو يقول بهدوء:
"لماذا؟!"
لم يكن يبدو مرحبا بهذه المحادثة فقط بل كان مستمعا بكل لحظة فيها.. استقامت في جسلتها بتحدٍ ظاهر.. حافظت على استقامة رأسها وحدة نظراتها علها توصل له رسائلها.. قالت بصوت مشدود:
"عندما خطبتني من والدي كان ردي بالرفض"
توقفت للحظات قبل ان اكمل .. اقفلت في ذلك الوقت بوابة الذاكرة وأنا أرص على مزلاجه داخليا و أسناني ظاهريا :
"وهذا لم يتغير أبدا بعد وفاته"
أنا أعلم انه توفي..
انتزعت من عقلي فكرة عودته سالما الي..
اقسمت لنفسي انني لن اتخيل وقفته أمامي..
قررت منذ ذلك الوقت انني سأتجنب رائحة العود التي دائما ما تعلقت في ملابسه..
لكن.. ومع كل هذا..
أن أترك خبر وفاة والدي - رحمه الله - يمر فوق لساني لهو شعور قاتل.. جذبت نفسا وأنا ارمش بعيني كي أمنع نفسي من البكاء لأقول بقوة:
"سوف يكون الرفض هو جوابي هذه المرة أيضا"
نكس رأسه للحظات ليقول دون أن يرفع رأسه:
"وهل هو كذلك؟!..
اعني.. لقد اخبرني عمك بموافقتك"
رصصت قبضتي لأقول بضيق:
"بسبب بعض الظروف لم استطع ان اقول لعمي ..لا..
لهذا أنا هنا"
"أي نوع من الظروف؟"
هززت كتفي وأنا أقول بإستغراب:
"وهل تتوقع مني أن أخبر شخصا غريبا بذلك؟!"
رشقني بنظرات وجهها نحوي كالرماح في استنكار.. قال بحده:
"شخص غريب!!!.. أنا خطيبك أمام كل هؤلاء الناس"
هززت رأسي لأقول بثقه وبرود:
"لن يدوم ذلك طويلا"
عقد كفيه واضعا اياهما على المكتب وهو يضحك ضحكة خافتة:
"ولماذا تعتقدين ذلك؟"
لم يحاول اخفاء الشعور بالتسلية .. فقد كان ذلك مطبوعا على كل ملامح وجهه!
رفعت كفي في الهواء لألوح بهما وأنا اقول في نفاذ صبر:
"أي انسان طبيعي لا يرغب بالزواج من شخص يرفضه"
ضرب كفيه على مكتبه ليستقيم واقفا ، قال وهو يرص على حروف كلماته:
"إذن.. اعتقد انني لست بشخص طبيعي!!"
خمسة وثمانون.. ستة وثمانون..
ازدردت ريقي.. فوق المائه!!
أنا أكره الاشخاص ذي الرقم المرتفع!!
لم أكن أرغب بأن يميل ببصره الى الاسفل لتقع عيناه علي فيكتسب بذلك شعورا بالقوه فيقلل من تقديري.. لذا وقفت حتى أكون في نفس مستواه، لكن وللأسف لم يحدث ذلك تغييرا كبيرا..
قال فجأة:
"ألا تشربين الحليب؟!"
ضربت بكفي على الطاولة وأنا أقول بغضب:
"أوقف هذا الموضوع ولنعد الى موضوعنا الأساسي"
قال بإستغراب وكأنه لم يسمعني:
"من الغريب أن يسمحوا لك بالدخول إلى هنا دون أن يسألوك عن اهلك!!"
يا له من لئيم!!
لكنه لئيم من النوع الذي يصيب عين الحقيقه.. إذ لم أدخل إلى هنا إلا بعد شجار حول عمري.. فوجهي الطفولي وطولي الذي لا يتجاوز المئة والخمسين سانتيمتر يسببان لي الكثير من المشاكل..
بسبب طولي اكتسبت عادة سيئة بتوقع طول الاشخاص.. أعلم بأنني أطعن كبريائي بنفسي الا انها عادة خارجة عن السيطره!!
رصصت على أسناني في غضب بينما عيناه تضحكان بتلك الخطوط المرتسمة على جانبيهما..
كنت لأرد عليه إلا انني لم أرغب للموضوع الذي جئت لأجله بأن يخرج عن منحاه..
كما وأنه ليس بالشخص الذي سأناقش مسألة طولي معه!!
قلت متصنعة الهدوء:
"ما ردك؟"
عقد ذراعيه أمام صدره .. رفع ذقنه الى اعلى .. قال بهدوء وحزم:
"أنا أرفض رفضك"
فغرت فاهي صدمة:
"لماذا؟!!"
حرك كتفيه باستغراب:
"حتى وإن كنت لا ترينه طبيعيا الا أنه من الطبيعي جدا بالنسبة لي أن أتزوج من الفتاة التي أحب.."
فتحت عيني على إتساعهما.. ما الذي يقوله هذا الشخص؟!
ما الذي يعنيه بكلامه؟!.. هل يحبني أنا؟!
صحيح أن الكثير من الأحداث جمعت بيننا في طفولتنا بصفته إبن جيراننا..لكن أن يحبني!!
لماذا؟!!...
رماني في شباك نسجتها الحيرة بينما كان هو ينقل بصرة بسرعه في تحركاتي.. في التعبيرات التي يحملها وجهي..
مرت تلك المفاجأة كالشبح في عيني ... عبرت بشكل سريع قبل أن أرمي الموضوع خلف بوابة الذاكره..
اخفيتها بسرعة لأن ذلك اللئيم يبحث عن صدى لكلماته في وجهي.. أنه ينتظر بصدق الكلمات التي سأتفوه بها!
متى حدث ذلك؟.. لماذا يحبني أنا؟!
لا أفهم ولا أريد بأن أفهم..
أنا لست في موقف يسمح لي بمحاولة فهم شيء كهذا.. ابتلعت ريقي وأنا أقول:
"لا زلت مصرة على رأيي"
رفع حاجبه الايمن في استنكار لردة فعلي الباردة اتجاه اعترافه.. سرعان ما أبعد ذلك التعبير ليقول متشدقا:
"وانا أيضا لا زلت مصرا على رأيي"
كم تمنت في تلك اللحظة ان تسلم زمام أمرها الى ركبيتها.. فترتخيان وتنهار هي على المقعد..
تنهار وقد انهكها الحمل الذي استقر على منكبيها.. أرهقتها ليال سهاد ابى فيها النوم أن يطرق جفنيها المتعبين..
كم يبدو جميلا أن تخور قواها بعد ان هاجمتها الذكريات دفعة واحدة..
ذكريات يوم احتل من التقويم تاريخا يسبق هذه اللحظات بقرابة العام.. عندما سرق حادث سيارة حياة والدها..
حدث ذلك بعد بداية الحرب الباردة التي تعانقهم بعواقبها يوما بعد يوم..
تقوم الدولة الشرقية بارسال جماعات تعيث فسادا او تغتيال شخصية ما بغية زعزعة البنى التحتيه للدوله.. تثأر الدولة الغربية لكرامتها المجروحه.. تستمر الهجمات ويزداد الضحايا..
وهكذا انتهت حياة والد قمر ليخلد ذكراه معنونا بالشهادة في سبيل الوطن..
هكذا خسرته عائلته وافتقدت ابنته قدوتها في الحياة..
لقد بقيت لسنوات ابنته الوحيده التي جاءت بعد ثمان سنوات من الزواج وعبر تلقيح صناعي والتي لم ينجب بعدها إلا بعد أربعة عشر عام تقريبا..
لذا عشت حياتي منذ صغري وأنا احلم باليوم الذي يرى فيه حياتي عندما أكبر وأسمعه يقول لي:
"لم أكن اتوقع أقل من ذلك من ابنتي.. ولية عهدي"
كان يفتخر بكل شيء افعله..
لا زلت اذكر ضحكته عندما انتصرت على احد الصبيان في شجار ما..
لقد ربت على رأسي بفخر عندما وقفت امامه حاملة ضفدعا بين كفيّ سعيدة بإنجازي بينما تعالت اصوات البقية اشمئزازا..
حتى عندما كبرت.. كنت كلما اشتريت شيئا جديدا لبسته أمام والدي لاسمعه يقول:
"هذه هي مدللتي ..اجمل الفتيات"
على الرغم من إنني كنت أعلم أن ذلك ليس صحيحا..
فأنا لم اكن فتاة جميله.. فشعري باهت اللون، مسترسل بطريقة تفتقد الى الانتعاش والحيويه..
عيناي صغيرتان..
إذا كنت سآتي الى هذه الحياة عبر تلقيح صناعي ألم يكن عليهم اختيار صفات افضل؟!!.. انا استطيع تحمل صفاتي بالذات أن أنفي جيد فقد ورثت أنف والدي..
لكن.. على الأقل مسألة الطول كانت تحتاج منهم إلى دراسه!!..
بعد سنوات من عدم الانجاب وبعد عدد من المحاولات الفاشله ألم يكن عليهم الاعتناء بمسألة إختيار الصفات الوراثيه لطفلتهم؟!..
اعلم انه ليس من الجيد لي التفكير بهذه الطريقة لكن افلام الخيال والطفرات الوراثيه تفعل أكثر من ذلك بعقل الانسان!!
ومع كل ذلك حاولت كثيرا أن أكون تلك الفتاة الجميله.. أردت أن أكون الفتاة المثالية في عيني والديّ.. لكن ذلك لم ينفعني بشيء..
لم يكن ذو فائده ابدا في ذلك اليوم الذي ترفض احداثه ان تفارق ذاكرتي..
كان احداث ذلك اليوم الماطر تأبى أن تتخلى عني وتتركني لأرتاح..
فالمطر الذي يغرق عقلي لم يتوقف حتى الان.. لازال في كل مرة يقسط فيها على مشاعري يزلزلها بكل قسوة..
احداث ترفض أن ترأف بي حتى في نومي!!
لقد كان صوت عمي يزورني ككابوس وهو يقول:
"قمر.. أريد محادثتك بموضوع"
لا زالت صورته وهو يخنق أنفاسه دافنا وجهه بين كفيه تخترق ضباب عقلي لتحفر في خلاياه.. ليقول من بين كل ذلك:
"لقد توفي أخي"
توقف للحظات ليكمل بصوت مبحوح وهو يجهش بالبكاء:
"لقد ذهب كبير عائلتنا!"
لقد فعلت تلك اللحظات ما لم ولن تقو ايام عمري كلها على فعله بعقلي..لقد حفرت خلايا عقلي لتغرس ألما لا يمكن الفرار منه..
لتترك حزنا سيبقى ليظلل عقلي وقلبي إلى الأبد..
ليثمر ذلك الغرس ألما أحصده كل يوم..
كان يبكي بحرقه كطفل صغير بينما أنا وضعتني تلك الظلال في حالة من الخدر..
كانت مشاعري تأبى أن تعمل تحت لسع سياط أخبار مثل هذه..
لذا لم أبكِ..
غرقت في بحر صامت ومتلاطم ليلقي بي على شواطئه دون حراك لعدة ساعات..
ليتني أصبت الصمم.. ربما لو لم أكن اسمع لما فجعت أذناي بسماع أخبار مثل هذه..
ليتني أصبت بالعمي.. ربما لو لم اكن ارى لما رأيت عيناي عمي وهو يبكي بهذا الشكل..
ليتني لم أولد.. ليتني لم أتواجد في هذا العالم الذي إنهارت فيه والدتي باكية دون أن أمتلك أي قدره على إيقاف دموعها..
لماذا أنا ضعيفة هكذا؟!.... أنا حتى لم أمتلك القوة والقدرة على البكاء..
كل هذا كثيرا..
بكاء عمي الوحيد.. انهيار والدتي والذي كما يبدو ليس له نهاية..
اخوتي واسألتهم التي تأبى أن ترحمني وتتوقف..
مشاعري المتبلدة ودموعي التي تعاندني..
أريد ان أبكي..
الا انها لم تبكِ.. تجلدت بتبلد في المشاعر..
توقفت احاسيسها عن القيام بدورها حتى تلك الليله..
فبعد انتصاف الليل استقيظت شاهقة.. شاركتها وسادتها البكاء تلك الليلة، فقد اغرقتها دموع فقد والم وحسره..
تبكي حلما غادر بمحتواه عقلها فلم تعد تذكر منه شيئاً.. غادر ليرميها بألم ساحق.. ارتحل ليجلدها الحزن بسياطه.. ارتحل لتعمل غددها الدمعية دون توقف..
استقامت في جلستها بعد ان سد انفها لتغرق هي في نوبة سعال صارعت كي تجتذب فيها الهواء..
دفنت وجهها بين ركبيتها بعد ان أفرغت محتويات انفها لتستسلم لسيول خلفها إعصارُ فقدٍ حفر أخاديدا على وجنتيها..
ربما لو تمكنوا من الحصول على حكم بالقصاص على ذلك المجرم لكانت تشعر بالراحة الآن.. الا ان ذلك لم يعد ممكنا اذ سرعان ما طالبت الحكومة الشرقية بالتكفل بمحاكمته لكي تطبق أحكام وقوانين البلد عليه..
رفضت ورفضوا لكن.. لم يسمع لشكواهم صدى..
لكن..
من اجل عائلتي قررت بان أنسى قاتل أبي وأبذل جهدي من أجل عائلتي.. فهذا ما كان سيقوله لي أبي - رحمه الله - على أية حال؟
توصلت الى هذا الاستنتناج بعد ان تلاحقت الاحداث فتدهورت صحة والدتي حيث دخلت على اثر ذلك المستشفى، لقد ساءت صحتها دون اي تحسن كبير..
حدث ذلك بعد وفاة والدي بعدة اشهر.. لكن وحتى هذه اللحظه حيث مضى على دخولها المستشفى اكثر من ثلاثة اشهر دون ان تبدي تحسنا كبيرا..
عندما أدخلت أمي إلى المستشفى لم يسمح لنا عمي بالبقاء لوحدي مع اخوتي في المنزل.. فما يحدث في البلد شيء لا يمكن التغافل عنه.. حتى منزلي الذي لم اعرف غيره منذ طفولتي لم يعد آمناً..
لذا أنتقلنا الى بيت عمي بعد أن عزلوا لنا شقة في الدور العلوي وذلك حتى تعود والدتي الى المنزل.. ربما حتى وان عادت لن نعود الى منزلنا حتى تستقر اوضاع البلد..
لم تكد تهدأ أوضاعنا حتى دخلتُ في أزمة اخرى..
حدث ذلك عندما اكتشفت ان عمي قام بتحويل بعض الاموال الى حسابي البنكي..
كان السبب في ذلك هو كون والدي كان مثقلا بالديون والتي بعد سدادها لم يبق لنا الكثير من المال..
كل ذلك تم بإستخدام إرثي أنا أما أخواي فسيتم الإحتفاظ بما لهم حتى يصلوا إلى السن القانوني.
بقيت لعدة أيام اسأل نفسي بعد أن قارب المال الذي لدينا على إنتهاءه.. من أين سنعيش؟..
بما أن مال الشئون الاجتماعيه لا يكفي فهل هذا يعني اننا سنصبح عالة على عمي؟!!!
ليس لأنني لا أرغب بذلك.. لكنني لا استطيع العيش مع فكرة أنني عالة على شخص ما حتى وإن كان عمي من أقرب الناس الى نفسي..ثم..
علمتني أوضاع البلد أن لا أثق بالظروف أبدا..
لذا ومن اليوم الذي بعده شددت خطواي نحو أي فرصة وظيفية وبكل الطرق الممكنه..
لم يكن تخصص اللغة الانجليزية بالشي النادر ولذا كان إيجاد وظيفة شاغرة أمر صعب..
مضت اكثر من ثلاثة اشهر وأنا أتنقل بين التجاهل والرفض للعديد من الوظائف.. ثلاثة اشهر وأنا بالكاد استطيع النوم..
ثلاثة اشهر وأنا أتسبب بالازعاج على شخص لم يكن يفترض به أن يتحمل مسؤلية عائلتي..
في كل مرة أصل الى هذه الفكرة تصاب نفسي بالغثيان.. لكن ليس بامكاني أرفض مساعدة عمي لكي لا يشعر أخواي بالنقص.. لكي استطيع توفير طلبات المدرسة التي لا تنتهي.. كل شيء يرغبون بتناوله..
حتى لو رفضت دون ان يكون لدي مصدر دخل استطيع الإعتماد عليه فإن عمي لن يقبل أبدا بذلك..
من أجل أخواي لم أكن استطيع فعل ذلك.. من أجلهم لم أسمح لدموعي بأن تخرج..
سوف أبني سدا تلو الاخر ولن أسمع لدموعي بأن تسيل قبل أن تستقر حياتي..
لن أبكِ قبل أن أعود إبنتك القوية يا أبي... ليس قبل أن أستحق اللقب الذي أطلقته علي..
"ولية العهد"
لهذا لم أبكِ الا في ذلك اليوم عندما هاتفتني إحدى الشركات لتخبرني بقبولي في قسم الترجمة لديها..
لقد بكيت كثيرا تعويضا عن الأشهر التي حرمت نفسي فيها من رفاهية الدموع..
في ذلك اليوم الذي ذهبت فيه لمقابلة عمي كي أطلب منه التوقف عن إرسال الأموال حدثني بذلك الموضوع..
أنا أردت أن أخبره أنني وأخيرا أصبحت شخصا بإمكانه أن يكون مسئولا عن عائلته بينما هو قال لي أن الشخص الذي رفضته تقدم لخطبتي مرة اخرى...
لقد كرهت حياتي في الشهور السابقة ولهذا لا أرغب أبدا بتجربة العيش كعالة على شخص مرة اخرى، حتى لو كان ذلك الشخص عما او زوجا..
لم أكد انطق بالرفض حتى لمحت التماعة في عيني عمي..
لقد بدا متفاءلا.. بدا سعيدا..
حثني عمي على الموافقة معلنا أنه سيتكفل بالعناية باخوتي حتى خروج والدتي من المستشفى وأنه ليس هناك أي داع أن أحمل هم ذلك..
كان متأكدا من موافقتي لأنه يعلم بأن وضع الدوله الحالي يجبرني على ذلك.. كدت أخيب ظنه لولا أنني رأيت ذلك..
عيناه اللتان اظلمتا شهوراً أنارتا قليلا..
لم استطع أن أكون الشخص الذي يعيد الظلمة الى عينه .. ليست لدي القدرة على فعل ذلك..
لذا لزمت الصمت بينما فسر هو صمتي كعلامة قبول ورضا..
لماذا اعتبر الصمت كعلامة للرضا؟!...
ألا استطيع التزام الهدوء والسكوت دون أن يفسر ذلك بشيء آخر؟!!
أنا اعترض على ذلك!.. فلولا هذه القاعده لما كنت أنا في موقف مثل هذا..
اخرجت نفسا حبسته خلف أضلعها لوقت طويل.. لفظته بغيض وهي ترفع يدها اليمنى لتدلك بأصابها صدغيها وهي تقول:
"أوقف أسلوب الأطفال هذا"
ابتسم بكل بساطه بينما أكملت أنا بضيق وأنا أرفع إصبعي السبابة والوسطى:
"لديك يومان فقط حتى أسمع من عمي خبرا عن رفضك.. عن إنساحبك من هذه المهزلة"
سحبت نفسا وأنا أقول بغضب:
"من الأفضل لك أن يحدث ذلك وإلا.."
قلت ذلك وسرت مبتعدة نحو الباب.. لم تكد يدي تلامس مقبض الباب حتى سمعته يقول مستفسرا:
"وإلا... ماذا؟!!"
قلت وأنا اصفع بالباب خلفي:
"أترك ذلك لمخيلتك.."
من الأفضل لذلك أن يأتي بثماره.. لأنني لا أعلم ماذا سأفعل بـ"وإلا" هذه!!..
سوف يكون ذلك سيئا وليس بيدي إلا الدعاء..
في اليوم التالي جلست قبالة طعامها لتقلبه دون رغبة حقيقية في تناوله..
فطعام كافتيريا شركتها ليس بطعام مميز.. والضيق الذي تعلق بفتحة معدتها يشعرها بالامتلاء الى درجة الانفجار على الرغم من أنها لم تتناول أي وجبة منذ غداء الأمس..
تسللت ذكرى الامس مهما حاولت منعها لتزم شفتيها الرقيقتين..
أعلم أنني بما فعلته خسرت شيئا رائعا.. إنه شخص رائع حتى أنني في طفولتي قد عقدت العزم على الزواج به عندما أكبر..
لذا عندما قال لي بأنه يحبني لم أرغب بالتفكير بالموضوع لكنني ومع ذلك لم استطع النوم بالامس..
فأنا لم اكن مستلقية في السرير بل كنت أحلق بين أحضان السماء.. ذلك الشخص الذي كنت اعتبره بطلي يحبني انا!!..
حتى هذه اللحظه وكلما فكرت بذلك تسلقت ابتسامة حالمة من قلبي الى شفتي رغما عني..
فأنا قد رفضته في السابق لأنه يعني لي الكثير..
كان الامير في عالمي الصغير الذي عرفته في طفولتي..
الاعجاب الذي حملته لشخصه في ذلك الوقت لم يتبخر.. ولم يرحل بعيدا كما كنت اتمنى..
لازال موجوداً..
كم تمنيت ان يبقى مكانه في الذاكره؟!... خلف جدران بنتها سنوات وسنوات..
رفضته لانني لم امتلك الثقه الكافيه للارتباط به..
أعلم انه ينقصني الكثير.. انني لا امتلك تلك الاشراقة التي تتميز بها الفتيات..
أنني لا امتلك الحلم او الصبر في التعامل.. ربما لا اكون اما جيدة!!
لم أكون يوما فتاة رقيقة أو جذابه..
مهما نظرت الى الماضي الذي جمعنا.. مهما حاولت تذكر الماضي الذي جمعنا لا أجد سببا يدفعه الى التقدم الى خطبتي..
أكره الاعتراف بأنني وجدت الكثير من الاسباب التي تدفعه الى الفرار بحياته بعيدا جدا..
لا أعلم ما الذي يسكن ذاكرته من احداث تدفعه باتجاهي؟
لكنني رفضته لأنني لم أرغب بان يتعرف على ذاتي الآن.. أردته ان يحتفظ بصورة الماضي الذي يتذكره هو.. بعيدا تماما عن الواقع..
ثم أنني لا استطيع الزواج حتى أفي بالوعد الذي قطعته امام نفسي..
لا أريد أن أبدا حياتي الخاصة قبل ان اكون مصدر فخر حقيقي لوالدي - رحمه الله -
أما الأن وبعد كل هذا أصبح لدي دافع أقوى للرفض..
لا استطيع أن أترك اخوتي عند عمي ولا أن أخذهم معي..
إذا تزوجت فأنا سأكون مصدرا للمشاكل وعالة سواء هنا أم هناك..ولا أريد أن أفكر باليوم الذي إن تزوجته سيعيرُني فيه ضياء بالمسئوليات التي ألقيت بها على كاهله..
حسب ما أذكر منه هو أنه لم يكن شخصا لئيما من هذا النوع لكن هذه الحياة ليست متجرا لأجهزة إلكترونيه لذا ليس هناك أي ضمانات!!
تنهدت وانا اشرب الماء... يوما من الايام سأقوم بما لم يقم به احد..
لا أعلم ما هو إلا أنني متأكدة من ذلك..
وصل الى مسامعها صوت ناعم ليقطع تسلسل افكارها وهي تسألها برقه:
"هل هذا المقعد شاغر؟"
تعلقت عيني قمر للحظات بعينين تحملان لون الشوكولاته ومحاطتان برموش كثيفة.. كانت مشدوهة بجمالها لذا وعندما لم تعلق بشيء قالت بإعتذار:
"المكان مزدحم حقا.."
دارت برأسها في قسم الجلسات النسائية هنا.. كان الازدحام يعلن بوضوح تام وجود مجاعة بين الموظفات..
رسمت ابتسامة مرحبة على شفتيها وهي تقول:
"بالطبع.. تفضلي بالجلوس"
أعدت بصري الى طبقي وانا اتمتم لنفسي..
اربعة وستون.. خمسة وستون .. فوق المائه..
ما إن جلست امامي حتى رفعت حجابها لتترك شعرها يسترسل على كتفيها،استولت على عقلي فكرة واحدة فقط..
كيف يمكن أن تكون هناك فتاة بهذا الجمال!!..
بشرة بيضاء كالثلج مع شعر أشد سواداً من الليل يسترسل متموجا بشكل رائع..
لم أكد انهي تناول طعامي حتى رن هاتفها المحمول.. رفعته لتحدق فيه لفترة وعند اللحظة التي أعتقدت فيها أن الإتصال سينقطع اجابت بصوت هادئ بريء:
"أهلا عزيزي.. كيف حال يومك؟"
عندما قالت هذا انتبهت إلى الخاتم الذي يزين بنصرها الايسر، يبدو أنها تكلم زوجها على الأغلب..
كان واضحا من اسلوب كلامها أنها تعشقه حتى الجنون.. لابد وأن زوجها رجل سعيد حقا..
هممت بالنهوض إذ لا يجدر بي التنصت اكثر من ذلك، كان هذا ما عقدت عزمي على القيام به إلا ان شيئا قالته جذب انتباهي وأعادني الى مقعدي..
كانت تخبر زوجها عن الطعام الذي تتناوله للغداء.. قالت بدلال بريء:
"باستا.. سلطه.. عصير اناناس ولم أتناول تحلية اليوم"
كنت أنقل بصري بين طعامي وطعامها الذي يحتوي على..
قطعتان من الهامبرجر.. بطاطس مقلي.. مشروب غازي..
كان طعامها سيئا وبكميات كبيرة ايضا!!
أما طعامي أنا فكان .. باستا.. سلطه.. عصير اناناس!!
لماذا هذا؟!
إما ان اذهب لفحص أذني اليوم أو أن هذا الفتاة تكذب وبشكل علني!
أكملت بخفة:
"لكن لا أشعر بانني في صحة جيده.. لذا ليست لدي شهية لتناول أي شيء"
توقفت لفترة قبل أن تضحك بغنج:
"سوف أتناول طعامي.. سوف أهتم بنفسي.. لا تقلق"
أنهت مكالماتها لترفع الهامبرجر وتتناول قضمة كبيرة!
قبل قليل كنت أنوي النهوض أما الأن فإستندت إلى مقعدي أحدق فيها بدهشة وإستمتاع:
"تلك كانت كذبة متراكبة!"
رفعت عينيها الجميلتين إستفسارا فأكملت:
"أنت لم تتناولي طعامي.. أنت بصحة جيده وتأكلين افضل من جميع الموجودين هنا!"
وضعت الهامبرجر للتتوجه إلى البطاطس المقلية:
"هل تريديني ان أخبره عن وجبة مثل هذه؟!"
توقفت قليلا لترمش بعينيها:
"أيضا أنا أدعي التعب لأنني لا أريد أن أخسر فرصة أجعله يقلق بها علي"
سألت باستمتاع:
"وما الذي ستكتسبينه من إدعائك؟"
وضعت الهامبرجر مرة اخرى لتقول بتركيز:
"لقد قرأت في كتاب أن القلق يزيد من الحب بين الزوجين.."
وضعت وجهي على كفي مستندة بذراعي على الطاوله:
"أوكنت تطبقين ذلك؟!"
قلدت حركتي باتكاءها على الطاوله:
"نعم"
ابتسمت إستغرابا وأنا أقول:
"لكن ذلك لم يكن حقيقة .. كان كذبا!"
رفعت عينيها تحدق في السقف لتتحدث:
"ما هو الكذب؟.. ما هي الحقيقه؟.. قد يوجد هناك فرق بينهما بنفس النسبة التي قد تنفي وجود ذلك الفرق"
اشارت باصبعها السبابة على رأسها وهي تقول:
"بإعتقادي أنها كلها حواجز ومسافات قبل أن تكون مسميات وضعناها نحن في عقولنا دون أن يكون هناك فرق فعلي"
عادت لتتناول طعامها وهي تكمل:
"المهم هو أن تصل لما تريد"
هذه هي المرة الاولى لي التي اقابل فيها شخصا مثلها.. قلت في رغبة مني للتعرف عليها:
"قمر من الترجمة .. وأنت؟"
أجابت ببساطه:
"جود من المحاسبه"
هذه الفتاة بطريقة تفكيرها المختلفة قد تساعدني على رؤية جانب أخر من هذه الحياة وبطريقة مختلفة..
مر ذلك اليوم بهدوء وبنفس الطريقة لحق به اليوم الذي يليه..
خوفها مما قد يتأتى على مكالمتها له أسبغ على نقسها كرما فأضافت يوما ثالثا على ما وعدت به..
في اليوم الذي تلى كل ذلك توجهت الى الهاتف وبعد عدة رنات واصوات تم تحويلها عليها طرق اذنيّها صوته وهو يقول:
"دكتور ضياء"
قالت بصوت جاف:
"السلام عليكم"
تلا ذلك صمت غامض ليصل بعدها صوته يحمل نبرة لم تستطع فهمها:
"أوه.. إنها قمر.. كيف حالك يا صغيره؟"
لقد حان وقت "وإلا" هذه..
ثم ..
دقت نواقيس الحرب..
لا يهمني حقا التعرف على الافراد المشاركين في هذه الحرب..
المهم لدي هو ان اسحقهم ..
أن انتصر..
************************************
دمتم بسعاده
ضوء،،
|