كاتب الموضوع :
futurelight
المنتدى :
الارشيف
انطلقت نظرة جانبية من عينين نجلاويين باتجاه الشخص الذي يجلس على بعد عدة سانتيمترات منها..
كان مستغرقا في الحديث بهاتفه.. أعادت بصرها الى الامام دون ان تجرؤ على التحديق في وجهه..
كثير من التغيرات التي بدأت تلحظ وجودها في زوجها..
القلق.. الارتباك..
كل مكالمة ترد الى هاتفها يتأكد من مصدرها بنفسه.. يقضي الكثير من وقته في المنزل وكأنه يراقبها..
يتلقب خلال نومه كثيرا وكأن حواسه تعمل طوال الوقت..
كثيرا ما سألت نفسها..
هل كُشِف الغطاء عن ماضيها؟!
اقنعت نفسها بأن الأمر ليس كذلك كونه لم يَرْمِها في الشارع حتى الآن..
نزلت جود من السيارة لتلوح مودعة لزوجها قبل ان تغادر مبتعدة..
ما إن دخلت بهو المنزل حتى أغلقت باب منزل الجده خلفها.. بقيت في ذلك المكان دون أن تتخذ أي خطو أخرى..
واحد.. إثنان.. ثلاثه..
أربعون.. خمسون..
ثمانية وخمسون..تسعة وخمسون.. ستون...
سمعت صوت السيارة وهي تنطلق مغادرة المكان..
أغلقت عينيها عن المكان حولي وبكل ذكرياته لترتحل أفكارها عند ذلك الرجل الذي الذي ينتظرها دوما إذا نزلت في مكان ما.. ينتظرها لدقيقة كاملة قبل ان يغادر..
كأنه يخاف عليها ان تضيع في المسافة بين باب السيارة وباب المنزل على الرغم من انه يعلم أن حقيبتها الصغيرة تحوي نسخة من مفتاح الباب..
ابتسمت لصورة زوجها المنسوجة في عقلها إلا أن هذه الابتسامة سرعان ما تلاشت وهي تفتح عينيها..
آه.. كم أكره هذا المكان..
فتحت حجابي وأنا أسير الهوينى وفي نيتي الدخول الى المنزل.. بوجه يخلو من أي أثر للسعادة التي كنت أشعر بها قبل قليل ..
وصلني صوت من خلفي:
"يبدو انك سعيده!"
استدرت بجسدي بسرعه نحو مصدر الصوت.. لم يكن الا كما توقتعه.. فتلك الفتاة كانت تقف بغنج مستندة الى الجدار.. وقد امالت رأسها لتتساقط بعض خصلات شعرها الاسود القصير كشلال مخفية لبعض ملامحها..
راسماً حدوداً مُبرزةً للون عينيها الازرق التي اجادت تحديدهما بالكحل..
فاتنة بكل المقاييس كما كانت دوما..
على الرغم من أنني اعلم انها ترتدي عدسات ملونه الا ان ذلك لا يغير من الواقع الكثير..
عندما رأت بأنني لم اتحرك من مكاني ولا انوي التوجه اليها هزت كتفها بابتسامة جانبية لتقول:
"يجدر بك ان تكوني سعيدة بكل تاكيد"
هزت راسها باتجاه الشارع لتتراقص خصلات شعرها وكأنها تحتفل انها تحيط بوجه جميل كهذا.. فعلت ذلك وهي تقول:
"فانت تمتلكين زوجا كهذا"
رصصت قبضتي .. طعنت اظافري المطلية باللون الزهري راحتي.. الا انني لم اقو على الكلام..
انتظرت ردة فعلي الا انها لم تحصل عليها.. تقدمت الى الامام وحذاءها ذو الكعب العالي يطرق على الارض..
توقف حولي كل شيء.. الا من تلك العينين وصوت الحذاء الذي يعلو شيئا فشيئا.. وقفت بجواري تحدق الى الامام بينما بقيت أنا احدق الى الخلف..
لم ارد ان اقابل عينيها ويظهر انها شعرت بالمثل ايضا..رفعت كفها اليمنى لتضعها على كتفي الأيمن وهي تقول:
"ماذا تعتقدين سيحدث.."
توقفت عن الحديث لتمد اصبعها السبابه فتغرس ظفرها في عنقي مرسلة قشعريرة كبرقية مستعجلة الى جميع نواحي جسدي وهي تقول:
".. لو علم ابنة من انت ؟!"
اختفى كل شيء.. سحبني الفراغ نحوه رويدا رويدا..
اظلم كل شيء.. ومن تلك الكلمات التي ترددت في اذني كرثاء لشخص لم يعلم بأن الحياة غادرته..
لم يعلم بأن الزمان ارتحل آخذاً معه كل شيء..
تعالى الضجيج..
لا اعلم من اين ياتي تلك العواصف في جو هادئ كهذا لتلفح جسدي..
ربما هي تلفح قلبي لكنني لم اعد امتلك القدرة على التمييز..
تمددت كلماتها التي تفوهت بها لتحتل كل بقعة في عقلي.. تجتاح كل شيء ويستسلم لها كل شيء..
اقتربت مني لتنفخ في اذني وكانها تدفع كلماتها اكثر فاكثر .. ابتعدت بعد ذلك ليشارك صوت حذاءها على الارض ضحكة بسيطه ليتلوها قولها:
"لن يعلم بكل تكيد ما لم يخبره احد ما"
ثم اختفت..
اختفت بعد ان اخذت معها قدرتي على الوقوف.. استندت الى أقرب جدار الي لاغمض عيني..
هل تهددني بقولها؟!.. هل تعني انها من ستقوم باخباره..
لماذا؟!
أتكرهني؟!... أترغب في هدم حياتي؟!
"ما لم يخبره احد بذلك"
ترددت الكلمة مرة اخرى وترددت.. كلما ترددت اكثر كلما اختنقت انفاسي بدخان لا وجود له.. لسعت جسدي سياط حرارة لا تحيط بي..
رفعت كفي لاغطي بهما أذني وأنا اهز رأسي..
ابتعدي ..
توقفي ايتها الكلمات عن الدوران في رأسي.. انا لا يمكن ان أغرق في ذلك المحيط..
لا يمكن ان أسمح لك بتمريغي في الوحل..
سحبت نفسا مرتجفا يتلوه آخر..
يجب علي ان اهدأ.. فأنا لا زلت امتلك السيطرة على الامور..
انا لا زلت امتلكه هو..
لم ولن يبتعد عني.. غسان سيبقى معي دائما..
بعد دقائق قضتها في ذلك المكان تنشد بها بعض الاتزان دلفت الى داخل المنزل..
الى اكثر مكان ترغب بالهرب منه..
فعبور بوابة هذا المنزل هي تذكرة لرحلة نحو ماضي تكرهه..
وجوه من اعتادت على رؤيتهم هنا تذكرها بما تحاول الهرب منه..
فاليوم هو يوم الجمعة.. اليوم الذي تلتلقي فيه العائلة عند بيت الجده..
لذا توجهت نحو غرفة الجدة حيث يجلس والدها وزوجته مع عمتيّها..
واحدة منهما تزوجت وهاهم اطفالها يلعبون مع إخوتها لأبيها.. أما عمتها الأخرى فلم تتزوج ولازت تعيش مع الجده في هذا المنزل الذي يسكن والدها الدور العلوي منه..
وقع بصرها عليها تجلس في الزاوية هناك.. رفعت حور ابنة عمتها كفها محيية إياها وكانها لم تحاول تحطيميها قبل قليل..
تجاهلتها والقت التحية بهدوء مصافحة الجميع بالدور لكن ما إن تلقت يدها كف شقيقتها ياسمين التي تبلغ الثامنه حتى سحبت يدها وهي تقول:
"تعالي جود.. إلى غرفتي"
هربت من هذه الجموع إلى غرفتها التي تسبح في اللون الزهري..
بعدما تزوج والدي مرة اخرى انجب ثلاثة من الاولاد وابنتان لتختتم ياسمين هذه العائله...
اخرجت لي من حقيبتها المدرسيه قطعة من الحلوى وهي تقول:
"هذه الحلوى التي اخبرتك عنها.. انها لذيذه جذا"
قلت مشدوهة بذلك:
"حقا!!"
اخذت اقلب الحلوى في يدي تحت نظرات شقيقتي المتحمسه.. لم اكن اعتقد انني استحق رفاهية تناول الحلوى..
كنت اعلم انني مختلفة عن الجميع منذ أن كنت في السابعة.. فأنا لم أكن استحق ما يعتبره الاخرون شيئا طبيعيا..
مشاعري نحو ذلك اليوم تعدت حد الكره بكثير لدرجة حتى لم اعد اميز فيها مشاعري..
لكنه دائما يجعلني ارغب بالبكاء .. إلا أن هذه الدموع لم تكن حقا ولا ملكا لي..
تناولت الحلوى وأنا أتابع شقيقتي وهي تتحدث عن معلمتها:
"أتذكرين تلك المعلمة الشريرة.. كان يفترض أن تلقي خطابا عن الأدب إلا أنها وقعت في طريق صعودها الى المسرح..سمعتهم يقولون أنها لوت قدمها"
ضحكت وانا اقول:
"اتعنين أنها لوت كاحلها؟"
ارتسمت ابتسامة واسعة على شفتيها:
"هذا.. هذا ما كنت اعنيه.. لذا لم تلق تلك المحاضرة علينا وهذا شيء جيد.. كيف يريدون مني أن أتعلم شيء عن الأخلاق من شريرة مثلها!!"
قلت بابتسامة وأنا أربت على رأسها:
"ربما يجدر بك أن تشفقي عليها بدل ان تسخري منها"
اختفت ابتسامتي.. أنا أيضا أشفق على نفسي... لو تعلمين يا ياسمين انني لا اتصرف على سجيتي إلا أمامك أنت..
ثم وبطريقة لا أفهمها أنسى كيف أتصرف على طبيعتي أمام غيرك من الناس حتى أمام أبي الذي لم أفارقه إلا عند زواجي..
أعتقد انني تجاوزت وقت العودة منذ زمن..
بدأت أخاف من الليل اكثر واكثر..
اخشى نفسي اكثر من ذلك بكثير..
عندما عدت الى غرفة جدتي جلست في المقعد الفارغ الوحيد والمجاور الى عمتي أم أمين.. كان الجميع يتشارك مستجدات الحي ويقررون الزيارات التي يتوجب عليهن القيام بها الى نساء من الحي، إما بسبب المرض أو ولادة إبنتها أوزواج إبنها وإلى ما هنالك من المناسبات..
التفتت عمتي إلي لتسألني:
"هل ترغبين بالمجيء معنا؟!"
رفعت يدي لأهزها في إرتباك وأنا أقول:
"اعتقد أنني سأعتذر عن ذلك.. فليس لدي الكثير من الوقت بين العمل والعناية بالمنزل"
وحتى لو كان وقت العالم كله متواجدا بين يدي لما ذهبت.. فأنا لا ارتاح في اماكن تحوي عددا كبيرا من الناس..
أنا اكره مثل هذه الاجتماعات.. فأنا اعلم جيداً وعن خبرة شخصية ..حقيقة واحدة، فبقدر ما تبدو هذه الاجتماعات مسالمة من الظاهر فهي تملك قدرة خارقة على تدمير حياة شخص ما وبشكل كامل..
ارادت عمتي أن تعود إلى أحاديثها إلا أنها قررت الإدلاء بتعليق قبل ذلك:
"في كل مرة أراك فيها تزدادين جمالا.."
توقفت قليلا لتحدق فيّ بتأمل:
"اصبحت تشبهين امك كثيرا.. بل وكأنك صورة ناطقة لوالدتك في شبابها!"
ما إن قالت جملتها حتى التفت والدي الذي كان مستغرقا في حديث مع جدتي ليقول بصوت حازم:
"أم أمين!!"
أما أنا وعلى الرغم من انني أسمع هذه الجملة كثيرا الا أنها وفي كل مرة تغلف عقلي وتشلني عن الحركه لتسرق مني القدرة على التفكير..
يتوقف الهواء.. يسكن كل شيء يحيط بي..
مرت لحظات قبل أن تنهض وهي تقول بابتسامة كان من السهل جدا إدعائها:
" سوف أذهب لإعداد الشاي"
من وراء الباب المغلق وصل الى مسامعها صوت والدها الغاضب وهو ينهر عمتها قائلا:
"أنت تعلمين أن ذكر والدتها هو شيء محظور امامها"
اكملت طريقها نحو المطبخ لتغلي بعض الماء بينما قادتها ساقها بعد ذلك الى الحمام..
هناك وقفت منكسة الرأس لفترة قبل أن ترفع عينيها تدريجيا لتحدق في وجهها عبر ذلك الزجاج العاكس..
كم أكره هذا الوجه..
ففي كل مرة أنظر فيها إليه اشعر وكأن أطنانا من الدخان تحيط بي من كل جانب لتكتم انفاسي..
يذكرني دوما بأنني لا أستحق العيش.. بأنه ربما كان يجدر بي الإستسلام في ذلك اليوم.. يقول لي أنه كان من المقدر لي ان اختفي هناك..
وصلني صوتها عبر ظلمات لطالما تمنيت أن لا يكون لها وجود..
ذلك الصوت الذي مهما حاولت الفرار منه الا انه يجد طريقه لي.. فيتكرر ويتكرر..
"قلمي الأزرق..يرسم زورق ..
وسماء بها شمس تشرق...."
رفعت كفهت لتضعها على وجهها..
"قلمي الأحمر..أخذ المنظر
لون كل الورد الأحمر...."
غرست اظافرها في وجهها.. كم أرغب في تغيير هذه الملامح...
"قلمي الأصفر..نظر ..
وفكر.....أين مكان اللون الأصفر؟"
سحبت يدها بقوة وببطء نحو الاسفل مخلفة خطوطا حمراء على بشرتها الرقيقه..
كم ارغب في خربشة الجلد الذي يغطي هذا الوجه..
أن اكون شخصا مختلفا.. احمل وجها مختلفا.. اغير نحت ذلك الجلد الذي يغلف عظامي..
اصوات لعب الاطفال في الخارج اعادتها الى واقعها لتحدق بعيني متسعتين وأنفاس متقطعه في جبينها المتصفد عرقا .. اجتذبت تلك الخدوش التي تعلو وجنتها اليمنى نظرها..
تحسسته في رعب.. ماذا افعل؟!..
إذا رأى غسان هذا ما الذي سأقوله له؟؟!..
هذه الفكره عششت في عقلها لترسم الارتجاف على كامل ملامحها..
غسلت الجرح ثم التفت لتبحث عن علبة الاسعافات الاولية .. استخرجت علبة المطهر بيدين ترتجفان..
بالكاد استطاعت فتح العلبة تحت سيطرة ذلك الارتجاف.. وضعته ثم وضعت ضمادة على الجرح..
ربما.. ربما اذا فعلت هذا سيختفي الجرح قبل نهاية هذا اليوم!!
تركت الحمام عائدة الى المطبخ ولم يمض الكثير من الوقت حتى غادرته نحو غرفة الجده وهي تحمل صينية الشاي بين يديها..
شاركتهم بقليل من الابتسامات والاحاديث قبل ان تغادر وفي نيها التوجه نحو الاطفال..
لطالما اعتقدت ان اللعب مع الاطفال والذي حرمت منه سابقا لا يزال بالنسبة لها اكثر متعة من الحديث مع الكبار..
حنت ركبتيها لتجلس بجوارهم على الارض.. اخفضت رأسها كي تقترب من مستوى البقية لتنزلق خصلات شعرها الطويل من على كتفها وتستقر على الارض بجوارها...
أمسكت بيدها دمية ما وبدأت باللعب مع الفتيات..
لو رآني غسان العب هكذا ما الذي سيفكر به؟.. لا اريد ان اعرف لهذا السؤال جوابا..
لكن.. ربما.. سيكرهني عند إذ..
لم يطل الكثير من الوقت حتى أطل والدها برأسه في الغرفة باحثا عنها..
نهضت معه لحديث خاص في الممر.. لم يكن خاصا في الحقيقة ،فهي تعلم تماما ما الشيء الذي ينوي التحدث عنه.. لكن وعلى الرغم من انه يعلم ان رأيها لن يتغير الا انه وفي كل مرة يفاتحها بهذا السؤال:
"سوف اذهب لزيارة والدتك.. هل ستأتين معي؟!"
زمت شفتيها وهي تهز رأسها قبل ان تقول :
"تلك المرأة ليست والدتي.. لا ارغب برؤيتها"
قال وهو يتنهد:
"كما تشائين.. إلا أنني لا زلت اعتقد انك تحتاجين الى القيام بهذه الزيارة مرة واحدة على الأقل..
من أجلك أنت وليس من أجلها هي"
اخفضت بصرها لتمر فترة من الوقت قبل أن تقول:
" لا تقلق علي.. انا سعيدة هكذا"
كانت مقلتاه تتنقلان بتفحص وبسرعه في ملامح وجهها:
"هل أنت متأكده؟"
رسمت ابتسامة صادقة وهي تفكر في زوجها:
"بكل تأكيد"
هز كتفيه ليتنهد قبل ان يقول:
"هل توصينني بشيء قبل مغادرتي؟!"
هزت رأسها وهي تشكره.. بقيت فترة في مكانها تراقب جزيئات الهواء وهي تتنقل من حولها ساخرة منها..
تصطدم بها متذمرة من شغلها لحيزٍ كان الأجدر به ان يكون لها..
قالت بصوت عالي مخاطبة خيال والدها الذي لم يعد له وجود:
"ربما يجدر بك أن تطلب منها أن تسارع في الإختفاء من هذا العالم.."
لقد سئمت الانتظار..
نبني قلاعا نعتقد أنها ستصمد اما كل شيء..
نحملها كمدخرات امام أيام هذه الحياة..
لكن..
مع نفخة هواء بسيطة..
ينهار كل شيء..
ونبقى نحن..
والفراغ..
*******************************
اعتذر لتأخري
في انتظار تواجدكم..
دمتم بسعاده..
ضوء،،
|