كاتب الموضوع :
futurelight
المنتدى :
الارشيف
كانت نظاراته الطبيه تعكس الاضاءة الصادرة عن شاشة الحاسوب وما بها من معلومات..
شبك أصابعه تحت ذقنه النامية قليلا والإستغراق في التفكير يغزو ملامحه..
بعد اقتناع بما رآه قام بطباعة الصفحة.. نهض من مكانه ليغادر عيادته ويعود بعد دقائق حاملا أوراقاً في إحدى يديه..
أستند الى المكتب وهو يحدق في جدول إحدى المؤتمرات التي يعتزم حضورها... رن الهاتف ليرفع سماعته بذهن شارد.. قال بصوت حاد وحاجبين معقودين:
"نعم"
لحظات وانفرجت أعظم أسرار الكون التي تعشش في ملامحه.. غزت البسمة وجهه لتتجلى عند شفتيه..
قال بصوت نسجه الحبور والأمل:
"أوه.. إنها قمر.. كيف حالك يا صغيره؟"
اخترق صوتها سماعة الهاتف جارحاً ومدافعاً وكما توقعه:
"توقف عن مناداتي بهذا الاسم!"
رمي بجسده على المقعد بسعاده.. استند الى مقعده ليهزه بتسلية.. قال ببرود في محاولة منه للحصول على ردات فعل أكبر منها:
"لماذا؟!... تعجبني هذه التسميه"
وصله صوتها يفح بغيض لم تستطع التحكم به:
"أولا.. لا يحق لك ان تطلق علي اي اسم او لقب..
ثاينا.. انت تعلم منذ زمن ان اي شيء له علاقة بالحجم هو موضوع محظور لدي!"
لم تتغير هذه الفتاة ابدا.. فهذه هي الفتاة المندفعة التي أعرف، تقول ما تفكر به دائما دون أي تردد أو خوف..
كانت دائما ما تشعرني بأنها لو واجهت جيشا بأكمله سوف تنتصر عليه وبقوة إرادتها فقط..
انها لو أرتدت المعطف الذي يتدثر به الملوك عادة.. إن أمسكت في كفها الصغيرة صولجانا.. و وضع على هامتها ذلك التاج الذهبي ..
ثم جلست فوق كرسي الملك لأدت دورها بكل جدارة وسهوله حتى وإن لم تطل قدماها الأرض..
تسللت إلى عيني صور من احد دهاليز ذاكرتي.. تسللت لأراها وهي تتشاجر مع اثنين من الصبية وكأن ذلك يحدث الان..
كان أحدهم يشد شعرها من الامام بينما الآخر فقد قام بتثبيت يديها من الخلف..
لكن تلك الطفلة لم تكن لتستسلم لشيء كهذا.. كانت ترفع ساقها لتضرب بقدمها كل ما تطاله من الصبي الذي يشد شعرها..
ركضت نحوهم وأنا أصرخ على الصبية اللذين ما إن انتبهوا إلي حتى فروا هاربين..
تركوها لكنها لم تتوقف عند هذا الحد بل انطلقت لتلحق بهم دون تردد لولا انني اوقفتها.. التفت الي بغضب:
"دعني الحق بهم.."
قلت وانا انفض شعرها القصير جدا عن الغبار:
"لقد انتهى هذا القتال"
ابعدت يدي بغضب وهي تقول:
"الم اقل لك من قبل أن لا تتدخل في معاركي!"
قلت وانا اهز كتفي لاسحبها معي نحو اقرب حنفية للماء:
"لو كان قتالا متكافئا.. شخص لشخص.. لم اكن لاتدخل.. لكن اثنان ضد واحد!"
غسلت الجرح الذي يعلو انفها.. بينما سألتني هي بغضب:
"هل تشك بقدرتي على هزيمتهما معا؟!"
اخرجت ضمادة من جيبب بنطالي لاضعها على الجرح ثم قلت كاذبا كي لا ادفعها للتشاجر معهما مجددا :
"كنت قلقا عليهما وليس عليك انت"
حاولت ان تحتقظ بغضبها وان تمنع ابتسامتها التي تأبى الا وان تتسلل الى شفتيها لتقول بغرور:
"ساسامحك هذه المرة فقط.. لكن اياك ان تتدخل في المرة القادمة حتى لو كنت اتشاجر مع ابناء الحي كله"
انا اعلم.. انها حتى لو حدث ذلك لن تذرف دمعة واحده..
تلك المخلوقة القصيرة تمتلك طاقة تفوق طولها بأمتار!!
او على الاقل لم يكن الالم الجسدي شيئا يسحب دموعها خارج اطار عينيها... لذا في المرة الاولى التي شاهدتها فيها وهي تبكي بحرقة، وقفت لاشاهدها وانا عاجر عن ان اقوم بأي تصرف..
لماذا يبكي شخص لم يكن يفترض به ان يبكي!
فقد كانت قمر ذات الثمان سنوات تدفن رأسها بين ركبتيها المثنيتين على احد مقاعد الحديقة التي تتوسط حينا..
لقد اختفت من المنزل ولذا طلبت والدتها من أمي بحكم الجيرة ان اذهب للبحث عنها ، وذلك لأن والد قمر لم يكن موجودا في المدينة في ذلك الوقت فلم يكن هناك احد غيري ليقوم بهذه المهمه..
بالذات ان ما يحدث بيننا وبين الدولة الشرقية كان في بداية مناوشاته..
كانت تبكي بدون صوت.. لم يكن هناك اي دليل على بكاءها الا الطريقة التي كانت تشد بها بقبضتيها الصغيرتين على ساقيها كي تمنعهما من الارتجاف..
اقتربت منها لأضع كفي على رأسها بينما وكما النعامة دفنت رأسها أكثر بين ركبتيها..
ناديتها هامسا كارها ان اقاطع خلوتها:
"قمر"
رفعت رأسها ليقع بصري على ملامحها التي تستنجد غارقة بالدموع.. مرت لحظات وهي تحدق بي قبل ان تقول وصوتها يتهدج بالبكاء:
"ضياء.. اخبرني ماذا افعل؟!"
جلست على المقعد بجوارها لتكمل بصوت باكٍ:
"انا لا انفع كفتاة.. كما انني لست الصبي الذي يتمناه الجميع.. انا لا انفع لشيء؟!"
كنت بالكاد استطيع ان تفهم ما تنطق به... فقد كانت تشهق بين كل كلمة واخرى.. لم تتوقف ايضا عن رفع يدها لتمسح بظاهر كفها دموعها وكأنها ستتوقف الا انها تستمر بالظهور وكأنها لا تعرف لكلمة النهاية اي معنى!
"تقول جدتي انه بعد انتظار طويل لقدوم الولد جئت انا كفتاة ليخيب امال الجميع.. ايضا انا لا انفع كفتاة فأنا لست كبقية الفتيات.. فانا لا العب بالدمى وافضل اللعب مع الاولاد على ذلك، كما وانني لا البس فسانا الا واتسخ او تمزق خلال وقت قصير!..
ماذا افعل؟!..
لماذا جئت الى هذه الدنيا اذا لم اكن الطفل الذي ينتظره الجميع؟!.. لماذا لم اولد كصبي منذ البداية؟!.. سيكون والداي اكثر سعادة اذا حدث ذلك"
اخذت امسح على رأسها وانا اقول مطمئنا:
"لا تقلقي.. انا متأكد من انهما سعيدان بك ويحبانك كثيرا..
هل تذكرين الطريقة التي يبتسمان بها اليك وكيف ينظران اليك؟..
انت تعلمين انهما يحبانك لذا توقفي عن البكاء"
نظرت الي بعينين تملأهما الدموع:
"هل تتوقع هذا؟!"
قلت بابتسامة مؤكدا بثقة شخص يكبرها بسبع سنوات:
"بكل تاكيد واذا راودك الشك يوما ما فتستطيعن سؤالهما عن ذلك!"
وقفت وأنا اكمل ماداً يدي بإتجاهها :
"والدتك قلقة جدا.. فلنذهب إلى المنزل"
في طريق عودتنا إلى المنزل استوقفتني لتسألني:
"ضياء.. جدتي تقول انه عندما اكبر، لن يرغب اي شخص بالزواج من فتاة مثلي"
ضحكت وانا اقول:
"لا تقلقي.. سيكون هناك بالتأكيد شخص سيتزوجك"
قلت هذا دون ان يخطر ببالي ابدا انني سأكون هذا الشخص.. فبعد فترة ارتبطت في عقلي فكرة الزواج بهذه الفتاة..
قال وهو يرص بيده على سماعة الهاتف محاولا بذلك السيطره على ضحكاته:
"ربما يجدر بي التفكير في لقب اخر"
مرت لحظات تشاجر فيها الصمت مع اسلاك الهاتف ليصلني صوتها بعد ذلك:
"لا ترهق نفسك.. فهذه هي المرة الاخيرة التي تسمع فيها مني شيئا"
عقد حاجبيه وهو يستقيم في جلسته:
"لا اعتقد ذلك"
قالت متجاهلة كلامه:
"إذا لم تغير رأيك فليس لدي أي شيء لأقوله لك"
بهذه الجملة اختتمت المكالمة مغلقة الهاتف في وجهه..
أبعد سماعة الهاتف عن اذنه ليحدق فيها فترة من الزمن قبل ان يقول:
"اتغلقين الهاتف في وجهي؟!.."
كيف امكنها ان تفعل بي ذلك.. ماهذا؟!
هذه الفتاة كبرت لتنحدر اخلاقها!!
اعدت سماعة الهاتف الى مكانها للحظات قبل ان اعاود رفعها مرة اخرى وفي نيتي الاتصال بها.. لكنني اعدت السماعة مكانها مرة اخرى..
بنفس القدر الذي استنكرت واغضبني فيه تصرفها، بالقدر نفسه كنت متيقناً في قرارة نفسي من ان اتصالي عليها سيجعلني اخسر هذه اللعبة وسأفقد الفتاة الى الأبد..
استندت الى المقعد وانا أغمض عيني.. كيف اسمح لهذه الفتاة التي انقذتني ذكرياتي معها بالهرب مني؟!
أطبقت أصابعي بقوة على ذراع المقعد.. عندما اكتشفت سر أبي الذي حاول اخفاءه على الجميع..
عندما حاولت كشفه تخلص مني.. رماني عند جدي في الشمال..
قضيت شهورا هناك.. كان جدي شخصا صارما.. اجبرني على التصرف كرجل على الرغم من انني لم اتجاوز سنوات مراهقتي الأولى ..
ارتسمت ابتسامة واهنة على شفتي والذكريات تعود..
ارتحلت الى ذلك اليوم الذي حرمني في جدي من تناول الطعام لأنني رفعت صوتي في نقاش محتد مع إبن الجيران..
"الرجل النبيل هو فقط من يستحق تناول الطعام.. أنا لا أقدم الطعام لمن يتصرف بطريقة غير لائقة"
في ذلك المساء حاولت سرقة الطعام كي أغذي عصافير بطني.. إلا أنني لم أفلح.. فقد كشفت.. وانتهي الامر بي في المبيت بالخارج..
قضيت الشهور الأولى على طبول حرب أقمتها مع جدي..
أطرافها رجل عجوز ذو خبرة واسعة في الحياة ومراهق يريد أن يختبر كل شيء..
في كل مرة أشعر بالوحدة أتذكرها..
الطريقة التي تحارب فيها لإثبات وجودها..
الصبر الذي تظهره والذي لا يليق بفتاة صغيرة مثلها..
لهذا أنا أحق شخص بها..
عقدت حاجبي وأنا أزفر .. جدي العزيز.. تلك الفتاة لن تكون إلا لي أنا فقط..
رفع سماعة الهاتف بمزاج قاتم اللون كي يطلب من الممرضه ادخال المريض التالي..
فتح باب الغرفة ليصطدم في الجدار بقوه معلنا عن دخول وحش من الحجم الصغير..
كانت والدته تسحبه من ذراعه اليمنى بينما رفع هو كفه اليسرى ليضرب يديها وهو يصرخ:
"قلت لك لا اريد..
الابرة مخيفة .. لا ارغب بواحده..
قلت لي اننا سنذهب الى متجر الالعاب وخدعتني.. اكرهك.. الا تفهمين؟!"
سرعان ما استدار ضياء بمقعده ليدعي البحث عن شيء يقع خلفه.. عقد حاجبيه بضيق..
مثل هذه المناظر مؤلم للعين.. ترى..
هل اضمحلت الاخلاق لدى صغار الحجم هذه الايام؟..
كانت صرخات الصبي تعلو وتعلو.. كانت الرغبة تجتاحه بالوقوف امامه والقول بحده:
"يا صبي.. هذا المكان ليس ارض لعب كي ترفع صوتك.. الا تعرف شيئا عن احترام الكبير يا قليل التهذيب؟!"
ازدرد ريقه مبتلعا تلك الكلمات.. فهذا شيء لا يجدر به كدكتور اطفال التفهوه به..
رفع يده ليمسد تلك العقدة التي تشكلت بين حاجبيه.. لا توجد إلا طريقة واحدة للتعامل معهم.. هذا الصبي وتلك الفتاة..
رسم ابتسامة على شفتيه وهو يدور بمقعده ليستخرج قطعة من الحلوى.. مد كفه الى الصبي وهو اقول:
"ربما ليس هذا هو المتجر الذي تريد.. لكنك هنا تستطيع الحصول على الحلوى"
هذا ما يحتاج اليه الوضع.. فرصة لبداية جديده..
لذا سوف يتركها هذه المرة الا انها سوف تدفع الثمن غاليا اذا حدث ذلك مرة اخرى في الايام القادمه..
لم تطل هذه الايام اذ بعد اسبوع قريبا فتح باب مكتبه بقوة لتدخله كالإعصار الهائج..
لا.. لم تكن كالإعصار أبداً.. كانت قطة غاضبه.. دخلت مكتبه مشمرةً عن مخالبها وقد عقدت العزم على تقطيعه بين اللحظة و أختها..
كانت عيناها تشتعلان غضبا خلف ستار من الدموع... إلا انها لم تسمح لأي دمعة بالفرار من هذا الحصار.. وقفت لتضرب بكفيها المكتب مصدرة صوتا مدويا...
وقفت أنا وقد التفت الصدمة حول عنقي لتخنقني بقسوة و تلجم لساني وأنا اراقب لمعان تلك الدموع دون أن استطيع قول أي شيء..
إزدردت ريقها عدة مرات في محاولة منها للسيطرة على غضبها ومع ذلك خرج صوتها محترقا ببحة غضب:
"أعدك.."
شدت قبضتيها على المكتب لتكمل:
"سوف تندم على ذلك حتى اخر يوم في حياتك"
رفعت قدمها لتعيدها إلى الارض بقوه وهي تصرخ:
"اكرهك"
لم تكد تنهي كلمتها حتى استدارت مغادرة المكان وليضع الباب المرتطم بالجدار خاتمةً لتلك المحادثه!!
ما الذي حدث للتو؟!!
ترتدي الصدمة اقبح ثيابها عندما تعتقد انك على معرفة تامة بكل اركانها..
عند ذلك تأتي برائحتها النتنه وتقدم لك صفعة من الوزن الثقيل..
***********************************
|