كاتب الموضوع :
futurelight
المنتدى :
الارشيف
رد: رماد ملون
اخترقت الطائرة سماءً برتقالية اللون..
تحركت كف سمراء لترفع الستار عن النافذة الصغيرة المجاورة له..
أغمض عينيه ليلفح وجهه هواء بارد اندفع من فتحة التبريد بكل جرأة في محاولة لمواجهة لهيب جسده..
لكنه لم يفلح.. فها هو جسده ينبض بحرارة تكاد تحرق من حوله... عقد ذراعيه امام صدرة ليحتوي مكنونات صدره التي تكاد تنفجر..
انحرفت الطائرة عن مسارها ليغرق جسده تدريجيا في الضوء الدافئ المتسلل عبر النافذة من قرص الغروب الأحمر لتعوم أمام عينيه صور مختلفة ومقتطفات لهذا اليوم الحافل..
استعاد صورة قدميه اللتان تعبران رصيفا امتلأ بأوراق الأشجار المتساقطة والمختلفة الألوان ..
التحف جسده بالأسود من رأسه الى أخمص قدميه.. اختار ذلك اللون في محاولة لمطابقة لمزاجه العَكِر ليبدو شكله مناقضا للصورة التي احتوته وللشارع الذي حمل نكهة الخريف في أوراق أشجاره بألوانها الصفراء والحمراء والبرتقالي..
كان بإمكانه ركوب سيارة أجره لتقله عبر هذا الطريق الذي يتجه صعوداً الى أعلى قاصدا مستشفى الصحة النفسية الذي يقع في نهايته لكنه فضل السير على الأقدام فهو لم يجهز ذاته بعد لما قد يواجهه هناك..
وقف أمام أبواب المبنى للحظات يسحب نفسا فيزفره وكأنه يحمل نفسه عتاد الحرب الذي سيمكنه من مواجهة كل ما سيعرفه خلف تلك الأبواب .. امتدت ذراعه ليشتد حولها كم معطفه بينما ضغطت راحته على احد الأبواب لتفتحه..
توقفت قدماه في البهو الواسع ليبدو وجوده باللون الأسود الذي يرتديه مناقضا للون الأبيض الذي يغلب على المكان ..
تقدم الى الامام في خطوات تتعثر بذاتها لتبدو بطيئة فوق الواقع.. استقبله موظف الاستقبال مبتسماً بترحيب..
سأل دون تردد:
"حسناء عبد الخالق.. هل هي أحد النزلاء هنا؟"
لحظات صمت مريب ليسأل الموظف بعدها بأسلوب رسمي:
"هل من الممكن أن اعرف من أنت؟"
أخرج غسان من محفظته بطاقات تثبت هويته ليقدمها الى الموظف قائلا:
"أنا زوج ابنتها"
بعد بحث قصير أجراه الموظف في حاسوبه رفع رأسه بابتسامه ليقول:
"أهلا بك سيد غسان.. لكنها المرة الأولى يأتي فيها شخص لزيارتها عدا السيد وليد"
أغمض عينيه بينما سالت قطرات عرق بارده فوق ظهره وكأنها تربت عليه في مواساة للحقيقة التي اكتشفها تواً..
إذا كانت لعمي والد جود زيارات متعددة الى هذا المكان بينما كنت انا مجرد زوج ابنته المغفل!!
نكس رأسه ليرص عينيه بينما اعتصر قلبه خلف أضلعه.. لقد تواطأت عائلتهم لتنسج كذبة ارتديتها أنا!!
عشت بسعادة كل هذا الوقت قبل أن تظهر لي الهوية المهترئة لتلك الملابس ولتتمزق حياتي أمام عيني ..
كيف استطاعت جود بكل تلك البراءة أن تخدعني!!..
ربما كان الأمر مجرد تشابه أسماء لا اكثر..
ربما تشابه أسماء كان القصد منه إفساد حياته بطريقة أقل عنفا من غيره لكن أشد تأثيرا ..
عقد حاجبيه وهو يصل الى قرار.. سوف يقابل تلك المدعوة بحسناء ويسألها.. لا يمكن أن يرتطم بالجدار الآن..
لا يمكن أن يسمح بحياته بالتوقف..
لا يمكن أن يخسر نفسه.. لا يمكن أن يتوقف قلبه عن النبض!!
فتح غسان عينيه المنهكتين ليطلب تصريحا لزيارتها.. ارتدى تصريحا بالزيارة بعد أن عبأ أوراق تصرح بذلك ..
عبر باباً خلف الآخر برفقه أحد الممرضات يسحب قدميه خلفه بينما تعلقت ظلاله بأرض المكان وكأنها تمنعه من التقدم في طريقه في محاولة لثنيه عن هدم حياته بيديه ..
قادته كل تلك الأبواب التي حملت الكثير من الأقفال الى ممر طويل حوى جانبه الأيسر على العديد من الأبواب أما جانبه الأيمن فقد كان زجاجيا يكشف عن حديقة داخليه..
وقفت أمام أحد الأبواب لتفتحها وتطلب منه الدخول ..
نسمة هواء بارد لفحت وجهه منذ وطأ أرض الغرفة بينما تراقصت ستائر بيضاء في غرفة تغرق في النور لتجعل من الانتعاش حكاية بينما انتشت ذرات الهواء برائحة الورود..
سرعان ما اجتذب كيان ما بصره لتتسع عيناه..
ارتفع صدره بينما اقتحمت دفعة كبيرة من الهواء رئتيه محملة بصدمة لتتجول بين شعبياته الهوائية قبل أن يمتص الدم اكسجين الصدمة لينقله على ظهر كريات الدم الحمراء الى جميع خلايا جسده ناشراً شعورا بالتخدر في كل ما يمر عليه.. ..
لوهلة فصل جسده عن الواقع ..
انهار واقفاً!!
هوى صدره ليلفظ ما في جعبته من أنفاس ..ارتمت ذراعاه الى جانبيّ جسده .. ارتخى منكباه.. مال برأسه جانباً.. عضلة قلبه توقفت عن الانقباض والانبساط..
كان كدمية للتو فصلت عنها الخيوط التي يتم تحريكها بها.. فقد القدرة على الحكم بكل ما يمت للواقع بصله.. شلت جميع حواسه عدا واحده..
تشرب عقله صوره المرأة التي تجلس الى مقعد بجوار النافذة المفتوحة..
تراقصت الستائر حول جسدها الذي ارتدى لباسا أبيض بينما انسابت جديلة سوداء طويله فوق أحد كتفيها ..
كانت تحدق بابتسامه في قطعة الصوف الزهرية التي تحيكها بأناملها..
تحركت شفتاه بصوت لم يخرج.. تحركت ليهمس من دون صوت:
"جود"
من تجلس أمامه كانت زوجته جود بعد عدد من السنوات!!
انتبهت الى وجوده لترفع رأسها .. ما أن وقع بصرها عليه حتى رسمت ابتسامة بريئة قائله:
"عزيزي.. لقد أتيت!"
رفعت كفها بما تحيك لتقول بفخر:
"انظر.. لقد صنعت هذه بنفسي.. سوف ترتديها جود كي تحميها من برد الصباح أثناء ذهابها الى المدرسة"
توقف قلبه عن النبض لوهلة قبل أن يبدأ في التراقص بسرعه..
اجتذب نفساً قصيراً ينعش به نفسه بينما تراجع خطوة الى الوراء..
تحولت ابتسامتها الى استغراب بريء أما هو فتراجع خطوة أخرى قبل أن يغمض عينيه ويدير ظهره لها مخاطباً الممرضة بصوت مبحوح:
"أخرجيني من هنا الآن"
لم تستوعب الممرضة طلبه في حين أنه لم يصل الا تواً.. زالت ابتسامتها تماما حين صاح فيها بصوت حاد:
"الآن"
.
.
قضى طريق العودة كله في محاولة استيعاب ما حدث.. لكنه لم يفلح في الوصول الى عمق الموضوع..
فكلما حلل ما يجري حوله وجد أنه في تخبط أكثر..
لماذا؟!
ما الهدف من الكذب؟!
كيف استطاعت خداعة طول هذا الوقت؟!
هل هو مغفل عاش متجاهلا لكل ما حوله؟!..
أم انها كاذبة محترفة الى درجة مخيفه؟!
منذ البداية وعند سؤالهم عن منزلهم صدق كلمات أقاربهم الذين يعيشون في العاصمة.. هل هؤلاء الأقارب متواطئون معهم أم هم مجرد مجموعة من المغفلين؟!
أوقف عدة مرات سيل الأفكار رافعا كفيه ليضغط على جانبي رأسه بقوه في محاولة لتخفيف الصداع الذي يفلق رأسه.. لكن كل ذلك كان دون نتيجة..
فها هو يقف امام باب منزله دون أن تهدأ عواصف عقله بصداع متزايد وبقلب يكاد ينفجر!
دخل غسان المنزل ..
خلع حذاءه بهدوء قبل أن يقطع الممر الرخامي ويلج غرفة الجلوس.. وقع بصره عليها وهي تحتل المقعد المجاور للنافذة لترسم صورة مشابهة للمرأة التي رآها صباحاً!
استقامت واقفة بفستان أبيض قصير عاري الكتفين بعد أن رسمت على شفتيها ابتسامة لم تجد لها صدىً في ملامحه..
تكسرت أنفاسه خلف واجهة معطفه السوداء لمرآها..
تلاعبت بي..
دمرتني..
حطمت الحياة السعيدة التي اعتقدت أنني امتلكها..
توقفت خطواته أمامها لتتنقل عيناه بتجهم فوق ملامحها التي اضمحلت ابتسامتها..
لقد قتلتني هذه الفتاة بكمال ارادتها.. اغتالت روحي عندما سرقت مني معشوقتي..
قتلت زوجتي!!
تحركت شفتاه ليخرج صوته كفحيح غاضب:
"من أنتِ؟!"
بدا صوته غريبا حتى على أذنيه.. غدا شخصاً مختلفاً بعدما فقد حياته على يديها..
اختلجت عيناها.. هوى رأسها جانبا بثقل بينما رسمت ابتسامة مغتصبة على شفتيها لتسأل:
"ماذا تعني عزيزي؟"
تدعي البراءة!!
كان يحاول السيطرة على غضبه منذ البداية وحتى الآن .. كان يحاول احتواء ردة فعله كي لا تخرج عن حدها ..
كم ستستلذ روحه الثأر عندما يحرر غضبه الكامل فيحطمها تماماً!!
كم تاقت نفسه الانتقام لرجولة جريحه!!
لكنه لن يفعل..
ليس من مبادئه إيذاء النساء حتى وإن كانت الفتاة التي أمامه تستحق القتل!!
أغمض عينيه في محاولة لتهدئة ذلك الغضب الهائج والذي سرى في جسده لينشر رجفة في أوصاله..
فتح عينيه الداكنتين ليمد كفه السمراء المرتجفة بسرعه ويغطي براحته شفتيها بينما استقرت أصابعه على وجنتيها لتضغط فوقهما بقوه..
التمعت عيناها ببحيرة من الارتباك.. بدت بشرتها الشاحبة باهتة جداً مقارنة بكفه السمراء..
مهما حاول احتواء غضبه لا يمكنه السيطرة على ردة فعله بالكامل أمام قاتلته..
دفعها الى الخلف بقوة لتتعثر متراجعة حتى أوقفها جدار ارتطم رأسها فيه بقوه..
أفلتت منها صرخة ألم لتغرق في خطوط راحته.. اقترب منها أكثر .. كان جسده يحتضن جسدها الا أن ذراعيه لم تحيطا بها .. فواحدة منهما استقرت فوق شفتيها اما الأخرى فكورها بجانبه ليسيطر بها على غضبه..
أبيض وأسود.. لونان متناقضان..
وقفا جنباً الى جنب في صراع متوقعة نهايته فمن الطبيعي أن يكتسح الأسود بقوة حضوره هشاشة الأبيض..
لكن ماذا عن اللون الرمادي الذي سينتج عن ذلك؟!
التفت غسان باتجاهها لتهمس شفتاه في أذنها بصوت بدا كالسم في كيانها:
"كاذبه"
انزلقت دمعة على وجنتها قبل أن ترتطم بكف غسان..
انزلقت ليتبعها الكثير فيما بدت أنفاسه الحارة باردة جدا على وجنتها المبللة..
تحركت شفتاه لتحكي الكثير من الكلمات التي ترددت في جوفها كمجسم فارغ:
"هل كان ذلك ممتعاً؟!
كذبتِ علي طوال عامٍ كامل.."
صدرت عنه ضحكة قصيره لا تمت للضحك بصله:
"مجرد أحمقٍ يقبل بأي فتات ترمينه في وجهه"
تعلم انها تستحق كل ذلك .. كم تمنت أن تهرب من غضبه لكنها لم تتحرك قيد أنمله..
رصت عينيها بقوة فقط في محاولة لإيقاف سيل الكلمات الغاضبة التي تنساب بين شفتيه بسلاسة من العبور الى عقلها:
"كاذبة حقيرة.."
ضغط رأسها في الجدار أكثر وأكثر:
"ابنة قاتلة "
رفع كفه عنها لينهار جسدها وكأنها بقوة تلك الكف تمكنت من الوقوف كل تلك المدة..
تزحلق جسدها على الجدار فيما تشبثت به خصلات شعرها وكأنها تحاول منعها من السقوط..
اتكأت بكفيها على الأرض فيما اهتز جسدها لتخرج منها شهقة قصيرة تبعها الكثير.. تعلقت عيناها بالفراغ الذي يلف جسدها لكن ذلك لم يمنعها من سماع الكلمات الملوثة التي لفظتها شفتاه من علو:
"لا بد انك مجنونه حتى يكون باستطاعتك الكذب لمدة عام .."
استدار كي يمنعها من رؤية نظرة الألم التي بدت أسيرة عينيه فيما اكمل:
"رائع.. لقد تزوجت مجنونه"
التفتت ليريها جانب وجهه ويرمقها بنظرة احتقار فيما قال وهو ينفث حممه في كيانها:
"مجنونة أبنة مجنونه"
تحركت قدماه باتجاه غرفة النوم ليفتح بابها بعنف.. توقفت خطواته هناك ليرمي برصاصته الأخيرة تجاهها:
"أختفِ من أمام عيني ..
لا أرغب برؤيتك مرة أخرى ما حييت"
صاحت روحه فلم تجد لها صدى ..
تلفتت ذاته فلم تجد لها انعكاساً..
متى فقد حياته؟!
لا يعلم لذلك السؤال جواباً ..
*******************************
|