كاتب الموضوع :
عهد Amsdsei
المنتدى :
روايات أونلاين و مقالات الكتاب
رد: الستار الأسود .. بقلم الد.نبيل فاروق .. " أنت عمري" .. متجدد
د.نبيل فاروق يكتب.. "الستار الأسود" : الذئب
لم تكن عقارب الساعة قد أشارت إلى السادسة صباحا بعد، وعندما هبّ الدكتور نبيه طبيب تلك الوحدة الصحية النائية الغائبة وسط جبال صعيد مصر مستيقظا على طرقات على باب سكنه الصغير الذي بعد الوحدة الصحية..
لم يكن قد اعتاد أبدا مثل تلك الطرقات القوية التي تشف عن لهفة صاحبها وتوتره بعد قضاء ما يقرب من عامين في تلك المنطقة النائية..
فسكان تلك المنطقة من أهل الصعيد القدامى الذين يتشبثون بعادات وتقاليد صارمة لا يتنازلون عنها أبدا مهما كانت الظروف أو الخطوب.
فحتى عندما كان أحدهم يصاب بطلق ناري من جراء مشاجرة كانوا يحملونه إلى الوحدة الصحية وينتظرون أمامها ويرسلون علي ممرض الوحدة لطرق بابه، لو أن هذا قد حدث بعد ساعات العمل الرسمية..
والممرض دوما ما يطرق الباب في هدوء ورصانة..
مهما كانت شدة أو خطورة الإصابة..
هذا لأنه ومع طول عمله بالوحدة الصحية لم يعد يتأثر كثيرا بما يراه..
ولكن في هذه المرة كانت الطرقات قوية..
وهلعة..
وبثياب النوم اندفع الدكتور نبيه يفتح الباب وهو يتوقع رؤية أب مكلوم أو أم ترتجف من أجل إسعاف ولدها..
ولهذا فقد اتسعت عيناه في دهشة بالغة عندما وجد الممرض أمامه يرتجف وقد اتسعت عيناه في هلع لم يعهده فيه من قبل..
- ماذا هناك يا علي؟
ألقى السؤال في توتر شديد فلوّح الممرض بيديه لحظات وهو عاجز عن الإجابة قبل أن يندفع في انفعال شديد:
- حالة طارئة يا دكتور.. أرجوك أسرع.
اختطف الدكتور نبيه معطفه الطبي وراح يرتديه وهو يهبط درجات السلم متسائلا:
- أهو أحد أقاربك؟
هزّ رأسه نافيا في قوة وهو يقفز نزولا في لهفة هاتفا:
- لا.. إنه عبيد بك.
وارتفع حاجبا الدكتور نبيه في دهشة أكبر..
عبيد.. الابن الأكبر لعمدة القرية والمرشح المنتظر لمنصب العمدة بعد رحيل والده، والذي يحمل شهادة بكالوريوس التجارة ويتمتع بجسد قوي وبنيان متين وقوة شخصية واضحة تجعله يفوق العمدة نفسه مهابة في القرية كلها.
وهذا يثير علامة استفهام ودهشة أكبر..
ففي مثل هذه الحالات وعندما يتعلق الأمر بإصابة لكبير القرية أو أي من شيوخها تزدحم ساحة الوحدة الطبية في المعتاد بأهل القرية الذين يحتشدون، إما للاطمئنان على المصاب أو لإثبات ولائهم له..
أما في تلك اللحظة فقد كانت الساحة خالية.. تماما.
وبكل دهشته وانفعاله اندفع الدكتور نبيه إلى حجرة الكشف و... وتوقف مبهوتا.
فالعمدة القادم المنتظر عبيد لم يكن يرقد على مائدة الكشف الطبي، وإنما كان يجلس عليها ويتطلع إليه بنظرة انكسار عجيبة لم يعهدها في عينه قط..
والأهم أن جلبابه كان ممزقا تماما بقطعات طويلة شبه منتظمة، وتبدو كأنها ناشئة من مخالب حادة لحيوان ضخم الجثة..
وكانت هناك بعض الدماء على أطراف القطعات ولكن نسبتها القليلة لم تكن تتناسب مع عددها الكبير..
وبكل دهشة سأل عبيد:
- ماذا حدث؟
ظل عبيد صامتا لحظات ثم خفض عينه أرضا وهو يجيب في اقتضاب:
- الذئب..
سأله في دهشة:
- أي ذئب؟
عاد عبيد إلى صمته بضع لحظات أخرى قبل أن يجيب:
- إنه يهاجم ماشيتنا منذ أكثر من ثلاثة أشهر.
حاول أن يستنتج باقي الموقف وهو يدفع عبيد في رفق ليعاونه على التمدد فوق مائدة الكشف، ولكن هذا الأخير قاومه في عصبية وهو يكمل:
- كان لا بد من القضاء عليه.
كرر محاولته وهو يسأله:
- هل هاجمك؟
في هذه المرة استجاب عبيد له ورقد على مائدة الكشف وهو يجيب في لهجة حملت كثير من المرارة:
- لقد كشفت أمره.
كان الدكتور نبيه يهم بفحص جراحه، وعندما بدأ أمسك عبيد معصمه في قوة ورفع نصف جسده عن مائدة الكشف مكملا في عصبية شديدة:
- سيقضي على الماشية، ثم يلتفت إلى سكان القرية.
حاول الدكتور نبيه تهدئته وهو يسأله:
- ألهذا خرجت لمطاردته؟
اتسعت عينا عبيد كما لو أن السؤال قد أصاب أمرا يفزعه وتراجع بنصفه العلوي ليرقد مرة أخرى على مائدة الكشف مغمغما في مرارة:
- لا بد أن أحمي أهل القرية.. هذا واجبي.
بدا الدكتور نبيه يفحص جراحه في هدوء وهو يزيد تمزق جلبابه حتى يمكنه أن يلقي نظرة فاحصة عليها وهو يقول للممرض:
- جهّز صبغة اليود وبعض الخيوط الجراحية، و...
بتر عبارته دفعة واحدة في دهشة وهو يُلقي نظرة على جسد عبيد قبل أن يهتف:
- ولكن جسدك خالٍ من الإصابات.
أشاح عبيد بوجهه دون أي تعليق، في حين غمغم الممرض يسأله:
- هل أحضر لك جلبابا آخر يا عبيد بك؟
أجاب عبيد دون أن يلتفت إليه:
- أخبرهم أن جلبابي ممزق ببعض الأشواك.
أومأ علي الممرض واندفع لإحضار الجلباب المطلوب دون أن يحاول حتى استئذان الدكتور نبيه الذي عقد حاجبيه في ضيق وهو يقول:
- من العجيب أن تمزق مخالبه جلبابك على هذا النحو دون أن يصيبك ولو خدش واحد.
بقي عبيد صامتا بلا إجابة، فعاد الدكتور نبيه يتساءل:
- ولكن من أين أتت الدماء؟
أجابه في خفوت:
- منه.
لم يفهم الدكتور نبيه ما يعنيه هذا، ولكنه وضع يده أسفل ظهر عبيد وكأنما يدعوه إلى النهوض وهو يغمغم:
- في المرة القادمة لا تذهب وحدك.
اعتدل عبيد جالسا وهو يقول في صرامة:
- في المرة القادمة سأقتله.
لم يحاول مناقشته مع انفعاله الواضح، وجلس خلف مكتبه وهو يسأله:
- أما يثير الأمر دهشة أهل بيتك عندما يذهب علي لطلب جلباب جديد؟
صمت لحظة ثم أجاب في اقتضاب شديد:
- كلا.
ألقى الدكتور نبيه نظرة على ساعته وهو يقول:
- ولكن الوقت ما زال مبكرا و...
قاطعه عبيد في شيء من الحدة:
علي ابن عمومتنا، ونحن هنا نستيقظ مع مطلع الفجر.
شعر الدكتور نبيه كأنه يطلب منه عدم الخوض في هذا الحديث، فأطبق شفتيه وتظاهر بفحص أشياء وهمية على مكتبه حتى سأله عبيد فجأة:
- أهناك أي حالات طبية تتحدث عن أولئك المذءوبين الذين نراهم في أفلام السينما؟
كان السؤال مباغتا ومقلقا، حتى أن الدكتور نبيه حدّق فيه في دهشة وهو يقول:
- مُطلقا.. إنها ليست حالات طبية.. إنها خرافة شعبية نشأت في الريف الإنجليزي ونشرتها الروايات وأفلام السينما على العامة.
تطلّع عبيد إليه مباشرة وهو يسأله:
- أأنت واثق من هذا؟
قبل أن يجيبه الدكتور نبيه وصل علي لاهثا يحمل الجلباب الجديد وهو يقول:
- يريدون الجلباب الآخر لتنظيفه.
أجابه عبيد في خشونة:
- دعك منهم.. سنحرقه.
لاحظ الدكتور نبيه أنهما قد تبادلا نظرة عجيبة وعبيد يتناول الجلباب الجديد من يد علي، على نحو يوحي بأنهما يتشاركان سرا لا يرغبان في البوح به لأحد، ولكنه لم يحاول إلقاء أي أسئلة، وغادر حجرة الكشف أو وقف خارجها حتى خرج عبيد منها مرتديا جلبابه الجديد، في حين راح علي يصنع حفرة في ساحة الوحدة الصحية ليقوم بحرق الجلباب الممزق فيها..
وكأنما استعاد مهابته وثقته وقوته مع جلبابه الجديد، صافح عبيد الدكتور نبيه في قوة وقال في صرامة:
- لا أريد أن يعلم أحد بما حدث.
ثم همّ بالانصراف قبل أن يتوقف لحظة ثم يلتفت إلى الدكتور نبيه مستطردا بنفس الصرامة:
- خرافة أو غير خرافة.. أغلق بابك عليك جيدا يا دكتور..
ثم مال على أذنه هامسا في حزم:
- وبالذات في تلك الليالي التي يكتمل فيها القمر بدرا.
ترك الدكتور نبيه جلباب عبيد القديم يحترق وصعد إلى سكنه يفكر فيما سمعه منه..
وفي عقله المتوتر راحت الأسئلة تعربد..
ما الذي يعنيه عبيد بالضبط؟!
هل يشير إلى أن هناك مذءوبا في القرية؟!
أهو ذلك الذي هاجمه ومزّق جلبابه على هذا النحو؟!
ولكن هذا مستحيل..
المذءوبون مجرد خرافة.. لا وجود لهم في عالم الواقع!
ولكن ماذا عن تحذيره؟!
ولماذا الليالي التي يكتمل فيها القمر بالذات؟!
لماذا؟!
أسطورة المذءوبين تقول إنهم مجرد بشر أصابتهم عدوى خرافية من أحد الذئاب بحيث يتحولون إلى ذئاب بشرية في الليالي التي يكتمل فيها القمر بدرا.
ولكنها أسطورة..
مُجرد أسطورة..
شغل الأمر الدكتور نبيه عدة أيام، ثم سرعان ما طرحه عن ذهنه مع استغراقه في العمل وتفكيره في إجازته التي يحصل عليها لمدة ستة أيام كل أسبوعين، والتي اقترب موعدها.
وفي تلك الليلة كان يستعد للسفر لقضاء إجازته، وكان الجو صحوا، والنسيم عليل، على عكس ليالي الصعيد الحارة..
وكان القمر بدرا يضيء ساحة الوحدة الصحية ويمنحها مظهرا جميلا أغراه بأن يهبط إلى حجرة الكشف ويخرج منها مقعدا، وضعه في منتصف ساحة الوحدة الصحية وآخر فرد ساقيه عليه، واسترخى في هدوء وهو يغلق عينه مستمتعا بنسمات الهواء التي تداعب وجهه وجسده.
ومع مرور الوقت بدأ النعاس يداعبه، واسترخى جسده أكثر وأكثر و...
فجأة ارتجفت أذناه بتلك الزمجرة الوحشية التي انبعثت على بعد أمتار قليلة منه..
وعندما فتح عينه في سرعة ارتجف جسده كله..
بل انتفض بمنتهى العنف، وهو يحدّق في ذلك الشيء الرهيب الذي يقترب منه في تحفز..
وبرعب لا حدود له، صرخ:
- مستحيل!
فما يقترب منه في تحفز يوحي بالاستعداد للانقضاض كان شيئا وسطا بين الإنسان والذئب..
شيء له قامة إنسان ويرتدي جلبابا عاديا، ولكن وجهه وجه ذئب مفترس بأنيابه الحادة وعينيه الوحشيتين، وذلك الزبد الذي يسيل من شدقيه..
أما يداه فكانتا يديّ ذئب مفترس بمخالبه الطويلة الحادة..
وزمجرته هي زمجرة ذئب..
ذئب يستعد للانقضاض على فريسته..
وبكل رعب صرخ الدكتور نبيه:
- لا.. لا يا عبيد.. لا تفعلها.
مع صرخته تحرك جسده حركة عنيفة أسقطه من مقعده أرضا، فتراجع ذلك الذئب البشري خطوة ثم وثب نحوه وهو يطلق زمجرة وحشية رهيبة..
وصرخ الدكتور نبيه..
وصرخ..
وصرخ..
ثم دوت تلك الرصاصة..
وشهق الدكتور نبيه في قوة مع سقوط ذلك الذئب البشري فوقه، وتوقع أن تنغرس مخالبه الحادة في جسده أو تنقض أنيابه على عنقه أو..
فجأة وعلى الرغم من رعبه الذي بلا حدود أدرك أن شيئا من هذا لم يحدث..
وأن ذلك الذئب البشري قد همدت حركاته تماما..
ثم فجأة أيضا رفعت يد قوية جسد ذلك الذئب البشري من فوقه وسمع صوتا مألوفا يسأله:
- أأنت بخير يا دكتور؟!
حدّق ذاهلا في وجه صاحب الصوت وانعقد لسانه لحظات قبل أن يهتف بصوت مختنق:
- عبيد؟! ولكن..
لم يُتم تساؤله وهو يحدّق في عبيد الذي يمسك بندقيته في قوة، والدخان ما زال يتصاعد من فوهتها.. فتنهد عبيد وهو يغمغم:
- إنه علي.. ابن عمومتي.. صدقني.. إنه لا يدرك حتى ما يفعله.
استدار في دهشة بلا حدود، يحدّق في ذلك الوجه الذي راح يفقد ملامح الذئب تدريجيا، ويستعيد ملامح علي ممرض الوحدة في حين تابع عبيد في مرارة:
- لن يصدق أحد قصتي، ولا حتى بشهادتك.. الأمر سيفوق إدراكهم.. كل ما سيرونه هو أنني قد قتلت ابن عمومتي... وأشقاؤه سيسعون للثأر مني.
هتف الدكتور نبيه وهو يحاول النهوض:
- سأقسم لهم أن...
قاطعه في حزم، مكررا:
- لن يصدّقك أحد.
ثم حاول أن يبتسم في مرارة وهو يُضيف:
- ولكن لم يكن أمامي سوى هذا.. كان لا بد أن أحمي أهل بلدتي.
وانتفض الدكتور نبيه مرة أخرى، عندما رأى دمعة تنحدر من عين عبيد وهو يكمل:
- إنه واجبي.
ومن بعيد لاح أهل القرية وهم يهرعون نحو مصدر الرصاصة، ولكن عبيد والدكتور نبيه ظلا صامتين، وخلف كل منهما ظل طويل يلقيه ضوء قمر مكتمل..
في ليلة هادئة.
***
|