كاتب الموضوع :
عهد Amsdsei
المنتدى :
روايات أونلاين و مقالات الكتاب
د. نبيل فاروق يكتب: الستار الأسود.. جدّي الحبيب (1)
كان المنزل له طراز قديم مشيّد وحده
"جدك توفّي أمس.. احضر لتسلّم الميراث.."
برقية قصيرة، وصلتني حاملة تلك الكلمات المختصرة، من بلدة بسيطة، على الحدود السورية اللبنانية..
ولقد أدهشتني تلك البرقية في الواقع..
هذا لأنني لم ألتقِ بجدي لأمي هذا قط، منذ وعت عيناي الدنيا..
كل ما عرفته عنه هو تلك الصورة الكبيرة التي كانت تحتفظ بها أمي له، والتي كانت تثير خوفي منذ طفولتي؛ بسبب نظراته القوية القاسية فيها، وشاربه الضخم، الذي يحتلّ نصف وجهه، ويمنحه مظهراً يناسب بدايات القرن العشرين، وخاصة مع تلك الحلة الثمينة النمطية، التي يرتديها في الصورة، مستنداً إلى عكّاز ضخم، من الواضح أنه كان يتكئ عليه من باب الوجاهة، لا من باب العجز..
وكانت أمي، اللبنانية المولد والجنسية، تتحّدث عنه دوماً بفخر واعتزاز، وتحكي الكثير عن قوته وشهامته وبطولاته، في مواجهة المحتلين..
وفي مرة أو مرتين فحسب، تحدّثت عن غضبه منها، ومقاطعته لها؛ عندما تزوّجت من مصري، وأقامت معه في مصر، حيث وُلدت أنا ونشأت..
ولكن جدي هذا لم يحاول الاتصال بي قط، على الرغم من أن أمي كانت تؤكّد دوماً أنني حفيده الوحيد؛ نظراً لأنها ابنته الوحيدة، وأنا ابنها الوحيد..
ولم تذكر شيئاً أبداً عن ثرائه..
أو حتى عن مهنته..
ولقد توفّيت أمي منذ سنوات قليلة، وانقطع بوفاتها الحديث عن جدي، وانقطعت كل صلة سماعية لي به تماماً..
ثم فجأة تصلني تلك البرقية!!
لم أكن قد زرت لبنان قط، ولم تكن تلك الزيارة ضمن مخططاتي القريبة، أو حتى البعيدة، حتى وصلت تلك البرقية..
كانت تحمل توقيعاً لشخص يُدعى عدنان الموالي..
واسم تلك البلدة التي أرسلت منها..
ولكن الحديث عن الميراث، جعلني أعد حقيبتي، وأستقل أوّل طائرة إلى بيروت، وأنا أحلم بذلك الميراث، الذي لا أعلم مقداره أو حدوده، ولكنه أثار في نفسي خيالات عديدة، وأملا في الخلاص من الأزمات المالية التي أمرّ بها منذ وفاة والدي، وضياع ثروته، مع الأزمة الاقتصادية العالمية..
وفي مطار بيروت وقفت أنتظر وصول عدنان هذا، والذي أبلغته برقياً بموعد وصولي..
ولقد وصل بالفعل، بعد عشر دقائق فحسب، من خروجي من المطار..
ولم أشعر بالارتياح قط وأنا أصافحه للمرة الأولى..
لقد جاء في سيارة قديمة للغاية، ولكنها نظيفة ومعتنى بها جيداً، والعجيب أنها ما زالت تعمل بكفاءة، على الرغم من أن عمرها يتجاوز نصف القرن..
والرجل نفسه كان يتجاوز هذا العمر أيضاً..
كان لديه شعر أشيب كثيف، وشارب يماثل شارب جدي ضخامة، ووجه كثير التجاعيد، وعينان ضيقتان، تكاد تتبيّن لونهما في صعوبة بالغة، من شدة ضيقهما، كما كان صوته خشناً غليظاً، إلى حد يدهشك..
وكان قليل الكلام، إلى حد مستفز..
ولقد صافحني عدنان في برود عجيب، ثم اصطحبني إلى سيارته القديمة، التي قطعنا بها رحلة طويلة مجهدة، لم أتصوّر قدرتها على قطعها، قبل أن نصل إلى تلك البلدة الصغيرة، التي عاش بها جدي ومات..
وأوّل ما لاحظته، عندما وصلنا إلى تلك البلدة، هو ذلك النفور العجيب، الذي يصيب كل من نمرّ به، عندما يتبيّن السيارة، وهوية قائدها..
كان نفوراً يمتزج بلمحة من الخوف والتوتر...
ولكن عدنان هذا لم يبالِ، وهو يواصل طريقه، إلى درب ضيق، يقود إلى أحد الجبال اللبنانية، التي شاهدتها في أفلام السينما فحسب..
وعبر ذلك الدرب الضيق، تواصلت رحلتنا، وعدنان يجيب تساؤلاتي العديدة بكلمات غاية في الاقتضاب، مشيراً إلى أنني سرعان ما أعرف كل شيء..
وأخيراً توّقفت بنا السيارة، عند قمة الجبل تقريباً، أمام منزل من طابقين، له طراز قديم، مشيّد وحده، في تلك البقعة، التي تطل على الحدود السورية اللبنانية مباشرة..
وهنا، أشار عدنان إلى المنزل، قائلاً بصوته الغليظ الخشن:
- هذا هو ميراثك.
أدهشني أن تنتهي بي الرحلة الشاقة إلى هذا، فغمغمت معترضاً:
- فقط؟!
رمقني عدنان بنظرة عجيبة دون تعليق، ثم حمل حقيبتي الوحيدة، واتجه بها نحو ذلك المنزل، فتتبعته دون مناقشة، ودخلت معه، ولأوّل مرة، المكان الذي عاش به جدي..
لم يكن المنزل من الداخل يختلف كثيراً عن طرازه من الخارج؛ إذ كان كل شيء فيه عتيقا، يعود إلى قرن من الزمان على الأقل..
الأثاث، والتحف، وتلك المدفأة القديمة..
كل شيء..
وكان هناك غبار خفيف، يكسو كل شيء فيه تقريباً، حتى لتتصوّر أن يداً لم تمتد إليه بالعناية، منذ زمن ليس بقليل..
وكانت الإضاءة فيه خافتة، إلى حد مستفز، حتى إنني سألت عدنان هذا، فور رؤيتي له:
- كم يبلغ ثمن هذا المنزل؟!
أجابني في غلظة:
- إنه ليس للبيع.
أجبته في غلظة مماثلة:
- لو أنه ميراثي، فهذا شأني أنا.
رمقني بنظرة لم ترُقْ لي إطلاقاً، وهو يصعد بحقيبتي إلى الطابق الثاني، مكرّراً:
- إنه ليس للبيع.
غاظني قوله هذا كثيراً، ليس لتدخّله في شئوني فحسب، ولكن لأنه، ومنذ النظرة الأولى، اتخذت قراراً بعدم الاحتفاظ بهذا المنزل الكئيب، أياً كانت الظروف..
وفي سرعة، ومن خلال خبرتي في العمل التجاري، رحت أقيّم تلك التحف الكثيرة، التي تملأ كل الأركان، وقدّرت أنها وحدها تساوي ثروة، تكفي لإخراجي من أزمتي المالية تماماً..
وبغضّ النظر عن موقف عدنان المتعنّت، اتخذت قرار البيع، قبل حتى أن أصعد خلفه إلى الطابق الثاني، الذي يحوي ثلاث حجرات، وضع عدنان حقيبتي في واحدة منها، تحوي حجرة نوم عريقة الطراز، تشبه تلك التي نراها في الأفلام التاريخية، بفراشها الضخم ذي الأعمدة، وقطع الأثاث الكبيرة، والإضاءة شديدة الخفوت، والتي قرّرت استبدالها بإضاءة قوية، في الصباح التالي مباشرة..
ولقد وضع عدنان حقيبتي، ثم استدار لينصرف، دون كلمة إضافية، فسألته في لهجة قاسية بعض الشيء:
- وماذا عن الحجرتين الأخريين؟!
تجاهل سؤال تماماً، وهو يغادر الحجرة، فعدوت خلفه، أسأله في خشونة حادة:
- ماذا بهما؟!
التفت إليّ في بطء مستفز، وهو يجيب:
- أشياء خاصة.
قلت في حدة:
- لقد ورثت المنزل بكل ما فيه.. أليس كذلك؟!
صمت لحظات، متطلّعاً إلي بعينيه شديدتي الضيق، قبل أن يجيب في بطء:
- يفترض هذا.
أغاظتني إجابته، فقلت في شيء من العصبية:
- ماذا يعني هذا؟! إما أنه ميراثي أو لا.
واصل صمته لحظات أخرى، ثم أجاب، وهو يشيح بوجهه، مكملاً انصرافه:
– إنه كذلك.
وتوّقف قليلاً، قبل أن يلتفت إليّ نصف التفاتة، مضيفاً:
- لو أنك تستحقه.
بدا لي شديد الوقاحة بقوله هذا، فأمسكت كتفه في غضب، صائحاً في وجهه:
- إنك لم تخبرني بعد، ما شأنك بكل هذا.
وعلى الرغم مني، سرت في جسدي قشعريرة عجيبة، عندما أمسكت كتفه..
لقد كانت كتفه لينة، على نحو عجيب..
أو مخيف، لو شئت الدقة..
كانت وكأنها، على الرغم من نحوله، لا تحوي أية عظام..
على الإطلاق..
كانت رخوة، حتى لتشعر وكأنك قد أمسكت قطعة من المطاط اللدن، المستخدم لصنع ألعاب الأطفال..
وبحركة حادة، أبعدت يدي عنه، وتراجعت خطوتين إلى خلف، وأنا أحدّق فيه في مزيج من الدهشة والذعر..
وهنا، لمحت على شفتيه شبح ابتسامة ساخرة، وهو يجيب في بطء، وبنفس اللهجة الغليظة والصوت الخشن:
- تستطيع أن تقول: إنني مدير هذا المنزل.
سألته في عصبية، وأنا أحاول تجاهل ملمس كتفه:
- ومن وضعك في هذا المكانة؟!
أجابني في حسم:
- جدك.
ثم مال نحوي، على نحو مخيف، وهو يضيف، في شيء من الصرامة:
- وهذا أحد شروط الميراث.
كانت أوّل مرة أشتمّ فيها رائحة أنفاسه الكريهة..
وسرت في جسدي قشعريرة أخرى.
لقد كانت أنفاسه أشبه برائحة قبر، انفتح بعد طول إغلاق..
رائحة تحمل هواء الموت الفاسد، وأنفاس مئات السنين من النسيان..
وتراجعت في خوف حقيقي، وأنا أتساءل: لماذا فعل جدي بي هذا؟!
لماذا؟!
وبكل عصبيتي وانفعالي، سألته:
- وأين وصية جدي، التي قالت هذا؟!
أجابني بغلظته وخشونته في برود:
- سآتيك بها، في الصباح الباكر.
وقفت لحظات أتطلعّ إليه، وأتبادل معه نظرة عصبية، قبل أن أشير إلى الحجرتين المغلقتين، قائلاً ما استطعت استكماله في نفسي من صرامة:
- افتح الحجرتين.. أريد أن أنظر ماذا بهما.
وقف يتطّلع إليّ بعينيه شديدتي الضيق لحظات، قبل أن يجيب في بطء:
- لست أدري أين وضع جدك مفتاحيهما.
قلت في حدة:
- أي قول هذا؟!
أجاب في برود، وهو يبتعد عني:
- سأبحث عنهما في الصباح.
تابعته ببصري، وهو يهبط إلى الطابق الأرضي، ويختفي داخل حجرة وحيدة فيه، ولم أشعر بالارتياح على الإطلاق وأنا أتطلع إلى الحجرتين المغلقتين، وبذلت جهداً حقيقياً في محاولة فتحهما، إلا أنني لم ألبث أن شعرت باليأس، فتركتهما، واتجهت نحو حجرة النوم الخاصة بي، و..
وفجأة، سمعت ذلك الأنين..
أنين شخص يتعّذب بشدة..
أو يحتضر..
وفي هذه المرة، لم تسرِ في جسدي قشعريرة..
بل انتفض كله..
وبمنتهى العنف..
فقد كان ذلك الأنين ينبعث من إحدى الحجرتين المغلقتين..
مباشرة.
***
يُتبَع
|