لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > سلاسل روايات مصرية للجيب > روايات أونلاين و مقالات الكتاب
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

روايات أونلاين و مقالات الكتاب روايات أونلاين و مقالات الكتاب


إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 19-05-12, 10:53 AM   المشاركة رقم: 11
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو فخري


البيانات
التسجيل: Jul 2007
العضوية: 32680
المشاركات: 18,283
الجنس أنثى
معدل التقييم: عهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسي
نقاط التقييم: 9761

االدولة
البلدYemen
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عهد Amsdsei غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عهد Amsdsei المنتدى : روايات أونلاين و مقالات الكتاب
افتراضي

 
دعوه لزيارة موضوعي

السلام عليم

آسفة اتأخرت بالفصوول ^^

د. نبيل فاروق يكتب.. "الستار الأسود": جدي الحبيب (7)


كان الباب السري خلف المكتبة تماما

إرهاق شديد، ذلك الذي شعرت به، منذ استيقظت هذا الصباح..
إرهاق، ربما لم أشعر بمثله، في حياتي كلها..
فذلك الكابوس، الذي هاجمني أمس، زلزل كياني كله..

كابوس رؤية جدي الراحل واقفاً إلى جوار فراشي..
أو فراشه، لو صح القول..
والعجيب أنني، في كابوسي، شاهدته في وضوح..

تماماً مثلما كنت أشاهده طيلة حياتي..
نفس الشارب الضخم..
والملامح الصارمة القاسية...
وتلك النظرة..

نظرة قاسية مخيفة، كانت دوماً تثير رعبي، منذ وعت عيناي الدنيا..
وفي الكابوس كان يرتدي نفس تلك الحلة النمطية القديمة، التي كان يرتديها في صورته التي أحفظها عن ظهر قلب..

ولكن أعجب ما في هذا الكابوس هو أنني لم أستيقظ بعده، كما يحدث مع كل الكوابيس..
رأيته فيه واقفاً، يتطلع إلي في صمت، وضوء البرق ينعكس على وجهه المخيف..
وانتفض جسدي كله..
ثم غرقت في نوم عميق..

أعمق نوم حظيت به في حياتي كلها..
ومع أول ضوء من أضواء النهار استيقظت فجأة..
كان الجو صحواً، بخلاف ما كان عليه في الليلة الماضية، والشمس مشرقة، في سماء خالية من السحب..

وعلى ضوء الشمس، الذي ملأ الحجرة، بدت لي الأمور مختلفة تماماً، حتى إنني جلست على طرف فراشي، أتطلّع إلى الحجرة في حيرة، وكأنني أراها لأول مرة، وأنا أشعر بهذا الإرهاق، الذي جعلني أحتاج إلى ربع ساعة كاملة، قبل أن أستطيع النهوض، وارتداء ثيابي..

وكالمعتاد، كان عدنان قد أعدّ لي طعام الإفطار..
بيضة مسلوقة، وقليل من اللبنة، ورغيف صغير من الخبز...

والعجيب أن رؤيته لم تستفزني، كما كان يحدث سابقاً، كما لو أنني قد اعتدت وجوده، وأسلوبه المستفزّ..
وبينما أتناول إفطاري، سألته:
- متى تحسّن الطقس؟!
نظر إليّ في دهشة، وهو يقول:
- أنه على الحال نفسه منذ أمس.

أشرت بيدي، قائلاً:
- وماذا عن الرعد والبرق والمطر أمس؟!
توقّف عدنان بغتة، وتطلّع إليّ في حيرة، وهو يقول:
- أي رعد وبرق ومطر؟!

شعرت بالتوتر، وأنا أقول:
- ألم تشعر بكل هذا أمس؟!
وعلى الرغم من عينيه شديدتي الضيق، شعرت وكأنه يتطلّع إليّ بنظرة حائرة مشفقة، قبل أن يقول:
- هل راودك حلم آخر أمس؟!

انعقد حاجباي في شدة، دون أن أجيب..
ما الذي يعنيه بسؤاله هذا؟!
هل كان ذلك الطقس الرهيب جزءاً من كابوسي؟!
ولكن كيف؟!

إنني لم أشهد في حياتي كلها كابوساً بهذه الدقة!
تطلّعت إلى عدنان في صمت، دون أن أجيب سؤاله..
ماذا يحدث في منزل جدي؟!

"أريد أن أزور قبر جدي..".
لست أدري حتى لماذا نطقت تلك العبارة فجأة، ولكن تلك الدهشة العجيبة، التي ارتسمت على وجه عدنان جعلتني أضيف في إصرار:
- واليوم بالتحديد.
تأملني عدنان لحظات، ثم قال:
- لماذا؟!

قلت في حدة:
- ولماذا لا؟
هز كتفيه، مجيباً:
- ربما لأننا هنا لم نعتد هذا.

سألته في تحدّ:
- ألا يزور اللبنانيون قبور موتاهم؟!
قال في بطء:
- ربما يفعلون، ولكننا لا نفعل.

سألته في دهشة:
- أليس من المفترض أنكم منهم؟!
هزّ رأسه في بطء، دون أن يرفع عينيه عن وجهي، وهو يقول:
- إنهم لا يعتبروننا كذلك.

تصاعدت دهشتي وأنا أقول:
- ولماذا؟!
هزّ كتفيه اللينين، وهو يجيب:
- يمكنك أن تسألهم.

قلت في عناد:
- سأفعل.
خيّل إليّ أنني ألمح شبح ابتسامة على شفتيه، فكرّرت في حدة:
- أريد أن أزور قبر جدي.

صمت لحظات، ثم قال في هدوء:
- إنك تجلس فوقه.
عبارته جعلتني أثب من مقعدي، في حركة غريزية، وأحدق في الأرضية، قائلاً في انزعاج حقيقي:
- فوقه؟!

حملت شفتاه ابتسامة ساخرة واضحة هذه المرة، وهو يقول:
- ليس بالمعنى اللفظي.
حدقت فيه متسائلاً، فأضاف:
- جدّك لم يدفن.. لقد أوصى بحرق جثمانه، ووضع رماده في قبو المنزل.

ازداد تحديقي في وجهه، فأشار بيده إلى الأرضية، قائلاً:
- هل ترغب في رؤية رماده؟!
قلت في توتر:
- بالتأكيد.

صمت لحظات، وكأنما يحسم أمراً ما في ذهنه، ثم أشار إلي، قائلاً:
- اتبعني.

فوجئت به يتجه إلى حجرة المكتب الصغيرة، في الطابق الأرضي، فلحقت به وكلي فضول يلتهم كياني، وعندما دخلنا حجرة المكتب، لم أجد سوى المكتب القديم، ومكتبة صغيرة خلفه، ومقعدين أثريين أمام المكتب...

وعندما رآني أتلفّت حولي، قال في لهجة شبه ساخرة:
- لا تتعجل.

اتجه مباشرة نحو المكتبة الصغيرة، وجذب كتاباً قديماً فيها، و...
وقفزت دهشتي مرة أخرى..

فمع جذب الكتاب، دارت المكتبة حول محورها في بطء، كاشفة مدخل سرياً خلفها، ذكّرني بالأفلام الأسطورية القديمة، فغمغمت في توتر:
- أية أسرار أخرى يخفيها هذا المنزل؟!
أجابني في هدوء مستفز كعادته، وهو يعبر ذلك المدخل السري:
- الكثير..

لحقت به، ووجدت أمامي درجات سلم دائرية، تهبط إلى أسفل، حيث ينبعث ضوء خافت، وقال عدنان، وهو يهبط في درجات السلم القديمة:
- كن على حذر.

هبطت خلفه في درجات السلم، حتى بلغنا باباً أخر، يعلوه مصباح خافت، هو مصدر الضوء الذي شاهدته، وأمسك هو مقبض الباب، ثم التفت إلي، وهو يقول:
- استعدّ.

لم أدر ما الذي ينبغي أن أستعدّ له، ولا كيف أفعل، حتى أدار هو المقبض، وفتح الباب..
وانطلقت من حلقي شهقة كبيرة....

فبعبور هذا الباب الأخير، كنت كمن قفز فجأة من عالم إلى آخر..
أو من زمن إلى آخر..

لقد عبرته، وكأنني أعبر آلة زمن من القرن الثامن عشر إلى القرن الثاني والعشرين دفعة واحدة..
فعلى عكس المنزل كله، كانت أمامي قاعة مضاءة بضوء ساطع قوي، لم أتبيّن مصدره بالضبط..
قاعة حديثة، أو إنها حتى تسبق الزمن الذي أعيش فيه..

كانت قاعة واسعة، بمساحة المنزل كله تقريباً، جدرانها من مادة تشبه البلاستيك، ذات لون أبيض ناصع، يزيد من سطوع الضوء في المكان، وقد تراصّت فيها أجهزة حديثة، ذات شاشات رقمية كبيرة، تتصل كلها بمجموعة من أحدث أجهزة الكمبيوتر، التي لم أرَ مثيلاً لها من قبل..

وفي منتصف القاعة كانت هناك مائدة كبيرة، أشبه بالموائد الجراحية، يعلوها جسم مستدير ضخم، تراصّت فيه مجموعة من المصابيح الكبيرة، وإلى جوار المائدة كانت هناك أخرى صغيرة، استقرّ فوقها جهاز عجيب، لم أفهم طبيعته بالضبط..

وهناك، في نهاية القاعة، كان هناك صندوق من زجاج سميك، في منتصفه وعاء زجاجي أنيق، يحوي كمية من الرماد..
رماد جدي على الأرجح..

وقفت ذاهلاً مشدوهاً، أدير عيني في القاعة، وسمعت عدنان يقول، بذلك الهدوء، الذي كاد يفقدني أعصابي:
- جدك أوصى بعدم إطلاعك على قاعة أبحاثه الخاصة، إلا عندما تطلب بنفسك زيارة قبره.
غمغمت بكل انفعالي:
- هل كان جدي جراحاً؟!

أجابني في احترام واضح:
- جدك رجل عظيم.
التفتّ إليه، أكرر في عصبية:
- أكان جراحاً؟!

قال في فخر:
- جدّك عالم وباحث، يسبق زمانه بقرن من العلم على الأقل.
سألته، وأنا أدير عيني مرة أخرى في القاعة:
- وفيم كان يبحث بالضبط؟!

أجاب بغموضه المعتاد:
- يبحث في أمور شتى.
ثم اتجه إلى دولاب من زجاج، حوى عدداً من الملفات وأسطوانات الكمبيوتر، وهو يكمل:
- وستجد هنا كل التفاصيل.

حدّقت في ذلك الدولاب الزجاجي، وقد انعقد لساني، من فرط الدهشة والمفاجأة والانفعال، في حين أضاف هو في حزم:
- لكي تكمل أبحاثه.
انتفض جسدي، وأنا أهتف في دهشة مستنكرة:
- أنا؟!

بدت لهجة شديدة الصرامة، وهو يقول:
- هكذا أوصى جدك.
قلت في حدة:
- فليوصِ كما يشاء، ولكنني لست أدري شيئاً عن مثل هذه الأمور!

أشار إلى الدولاب الزجاجي، قائلاً بنفس الصرامة:
- هنا ستجد كل ما تريد.
حدّقت في الدولاب الزجاجي، وأنا أقول:
- مستحيل! هذا أمر يحتاج إلى دراسة طويلة، وعلم كبير، و...

بترت عبارتي فجأة، عندما سمعت صوت الباب من خلفي يغلق، فالتفت إليه في ذعر، تضاعف عندما وجدت أن عدنان قد أغلق الباب بعد انصرافه، فاندفعت نحو الباب، وأنا أهتف:
- ماذا تفعل؟!

ثم اتّسعت عيناي في ذعر أكثر..
فباب المعمل المغلق في إحكام، لم تكن به وسيلة لفتحه من الداخل..
وهذا يعني أنني قد أصبحت سجيناً..
سجين في معمل منزل جدي...
الحبيب.
يتبع

 
 

 

عرض البوم صور عهد Amsdsei   رد مع اقتباس
قديم 19-05-12, 10:54 AM   المشاركة رقم: 12
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو فخري


البيانات
التسجيل: Jul 2007
العضوية: 32680
المشاركات: 18,283
الجنس أنثى
معدل التقييم: عهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسي
نقاط التقييم: 9761

االدولة
البلدYemen
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عهد Amsdsei غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عهد Amsdsei المنتدى : روايات أونلاين و مقالات الكتاب
افتراضي

 
دعوه لزيارة موضوعي

د. نبيل فاروق يكتب.. "الستار الأسود": جدي الحبيب (8)



جدي كان يبحث في حلم راود مئات العلماء وهو أكسير الشباب


بعد خمس ساعات من الحبس الانفرادي الإجباري، في معمل جدي، صرت أجزم بأنه كان عبقريا، سبق زمانه بقرن على الأقل..

ولكن قراءة أبحاثه أرعبتني بعض الشيء..
هذا لأن جدي كان يبحث في ذلك الحلم، الذي راود مئات العلماء والكيميائيين، عبر قرون وقرون..
حلم إكسير الشباب..

ذلك العقار الأسطوري، الذي يتناوله المرء، فيبقى شاباً لقرون وقرون، دون أن تبلى خلاياه، أو يصيبها التلف وتواجهه أعراض الشيخوخة..

ولست أدري لماذا ذكرتني أبحاثه برواية ماري شيلي الشهيرة "فرانكنشتاين"، والتي لم أتقبّلها كفكرة علمية أبداً في حداثتي وشبابي؛ إذ إنها تتحدث عن إحياء جثث الموتى، باستخدام الكهرباء، التي كانت طاقة رهيبة إبان كشفها، حتى إنها أثارت خيال العديدين، فلم يتصوروا حدوداً لها..

تماماً كما فعلت الطاقة النووية بخيالنا بعدها..
وكما ستفعل أية طاقة جديدة فيما بعد..

ثم إن رواية ماري شيلي كانت تحمل من الفلسفة أكثر مما تحمل من الخيال؛ إذ تتحدث، من خلال إطار خيالي، عن مسئولية الخالق عن المخلوق، أو المبدع عن إبداعه، أو حتى الأب عن أبنائه..

أما أمامي، عبر الملفات والوثائق، التي تركها جدي، فهو -نظرياً- واقع جديد، يثير ألف خيال وخيال..

لقد تعامل مع الأمر، على نحو علمي تماماً..
درس لسنوات طويلة تلك التغيرات، التي تصيب الخلية البشرية، مع تقدّم الإنسان في العمر، وتوصّل، منذ ما يقرب من نصف القرن، إلى أن سرّ الشيخوخة، هو تراكم سموم مؤكسدة، على الغلاف الخارجي للخلية، تمنعها من الاستفادة بالأكسجين، الذي يضخّه الدم، فتهلك، وتتداعى، ويصعب تجديدها بالمقدار نفسه..

ولقد سبق العلم الحديث بنصف قرن، في هذا المضمار؛ إذ لم يتم كشف علاقة الأكسدة بضعف الخلية، وظهور عوامل الشيخوخة على البشر وباقي الكائنات، إلا في السنوات الأخيرة فحسب.. (حقيقة علمية).
وطوال نصف القرن التالي، أجرى جدي الراحل آلاف التجارب، التي تستهدف منع أكسدة الخلية، أو إزالة الأكسدة عنها..

كان يتعامل مع الأمر، كما لو أنه صدأ تكوّن عبر السنين، ووسائل تجاوز تأثيره، تعتمد على منع تكوّنه، أو إزالته بمزيل للصدأ..

والعقار، الذي ظلّ يعمل عليه طويلاً، يمكن تشبيهه بمزيل الصدأ هذا..
وثائقه وأوراقه حوت الكثير من المعلومات، عن العقار الذي حاول ابتكاره..
والقليل جداً عن عينات البحث، التي استخدمها..

ففي كل أوراقه ووثائقه، وحتى أسطواناته الرقمية، لا توجد إشارة واحدة، إلى من أجرى عليهم تجاربه..
أو ما أجرى عليه تجاربه..
أكانت حيوانات تجارب معملية معتادة..
أم........

توقّف ذهني في خوف حقيقي، عندما بلغت كلمة "أم" هذه..
فماذا لو أنه كان يُجري تجاربه على البشر؟!
أمن الممكن أن تتجاوز معه الأمور، إلى هذا الحد؟!
هل يمكن أن يكون هذا تفسير العبارة، التي قالت: إن من يحضر إلى هذا المنزل لا يعود قط؟!
هذا لو أنها قيلت بحق!!

عادت الأمور ترتبك في ذهني مرة أخرى، وعاد ذلك الصداع العجيب يهاجم رأسي، ويجعلني راغباً بشدة في النوم، فأرحت رأسي على سطح ذلك المكتب الصغير، في ركن المعمل، وتطلّعت لحظات إلى الوعاء الأثري الأنيق، داخل ذلك الصندوق الزجاجي، والذي يحوي رماد جدي الحبيب، وغمغمت، وأنا أسبل جفني، في إرهاق عجيب:
- ماذا تريد منى يا جدي؟! بل ماذا تتوقع مني؟!

سمعت صوت رتاج باب المعمل يتحرّك، وصوت الباب يُفتح، إلا أنني لم أستطع حتى الالتفات إليه..
وعلى الرغم من أن عقلي كان قد فقد معظم إدراكه فعلياً، إلا أنني أكاد أقسم إنني قد سمعت شخصين يتحدثان، قبل أن أسقط في ظلام عميق..
عميق..
إلى أقصى حد..

وفي هذا الظلام، عاودني كابوس مشابه للأول..
كابوس رأيت فيه جدي، يرتدي معطف معمله الأبيض، ويحملني مع عدنان إلى تلك المنضدة الجراحية، في منتصف معمله..

وكان هناك دخان كثيف، يخرج من ذلك الوعاء، الذي يحوي رماده..
دخان كثيف للغاية..
وكان لذلك الدخان لون الدم..

وفي كابوسي، بدا جدي أكثر قسوة، مما يبدو عليه في صورته..
وعندما قيّدني بمعاونة عدنان على منضدة الجراحة، صرخت:
- لا يا جدي.. لا تفعل بي هذا..
وبكل قسوته، أجاب :
- هذا لصالحك.

قالها في كابوسي، دون أي شعور أو انفعال، حتى لقد بدا وكأنه شخص بلا حياة.. أو أنني رأيته في كابوسي هكذا؛ لأنني أعلم أنه فعلياً بلا حياة..
وعلى الرغم من عبارته، فقد واصلت صراخي، وأخذت أصرخ..
وأصرخ..
وأصرخ..

"استيقظ.. إنه كابوس..".

كان صوت عدنان هو الذي أخرجني من كابوسي، أو انتزعني منه انتزاعاً، وهو يهزّني في قوة، هاتفاً بعبارته السابقة، ففتحت عيني دفعة واحدة، وحدقت فيه برعب حقيقي، جعله يتراجع مغمغماً:
- لم أقصد أن أفزعك، ولكنك كنت تصرخ، و...

لم يحاول إتمام عبارته، باعتبار أن نصفها الثاني واضح، ولكنني انتبهت إلى أنني لست داخل معمل جدي، وإنما في حجرة نومه، فهتفت في عصبية:
- لماذا نقلتني إلى هنا؟!

تراجع في دهشة، مغمغماً في استنكار:
- نقلتك؟!
لم أعد أحتمل هذا الأسلوب، لذا فقد صحت به في حدة:
- اسمع يا عدنان.. لقد سئمت هذه الألاعيب.. لقد غلبني النوم، من شدة الإرهاق، في معمل جدي، و...

قاطعني بهتاف، يحمل كل الدهشة والاستنكار :
- معمل جدك؟! أي معمل؟!
كان هذا كفيلاً بأن تتفجر كل انفعالاتي، لأصرخ في ثورة:
- كفى.. هذا لم يعد يُحتمل.. لقد قضيت خمس ساعات كاملة، أقرأ وثائق جدي، وأطالع أسطواناته الرقمية، وما زلت أذكر كل ما جاء بها، من أبحاث ونتائج، حول إكسير الشباب، وأذكر، وبمنتهى الدقة، تفاصيل كل ركن في معمل جدي، من أجهزة الكمبيوتر، وحتى ذلك الوعاء، الذي يحوي رماده، مروراً بالمنضدة الجراحية، و...

تلك النظرة الذاهلة التي حدّق بها عدنان في وجهي، جعلتني أبتر عبارتي دفعة واحدة، وجعلت صوتي ينخفض في يأس، وأنا أقول في عصبية:
- لا تقل لي: إن كل هذا لم يحدث!

ظلّ صامتاً، يتطلع إليّ لحظات، قبل أن يهز رأسه، مغمغماً:
- لن أقول شيئاً.
نطقها في إشفاق، جعل قلبي يرتجف بين ضلوعي، في انتظار الخطوة التالية، فقلّب هو كفيه، مستطرداً:
- ولكنني سأتبعك إلى حيث تشاء.

قلت في عصبية:
- ما الذي يعنيه هذا؟!
قلّب كفيه مرة أخرى، وزفر في أسى، مجيباً:
- صحيح أن جدّك رجل عظيم، ولكنه لا يتعامل بتلك الأجهزة الحديثة، التي تتحدث عنها..

اندفعت أصيح فيه:
- لا تحاول أن...
قاطعني، محاولاً تهدئتي:
- قلت: إنني سأتبعك إلى حيث تشاء، بغضّ النظر عن أي شيء.

هتفت في حدة:
- وأنا سألتك عما يعنيه هذا.
هز رأسه في أسى، قائلاً:
- لست أدري ماذا أصابك منذ وصلت إلى هنا، ولكنك تتحدث عن معمل وأجهزة حديثة.. قُدْني إليها إذن.

استرجع عقلي في لحظة، كل الخطوات التي قام بها، فاندفعت أغادر الحجرة، وأنا أهتف في تحدّ:
- نعم.. سأقودك إليها.

سمعت وقع قدميه، وهو يسرع للحاق بي، فتابعت، وأنا أسبقه، في الهبوط في درجات السلم:
- كل هذا هناك، خلف تلك المكتبة الصغيرة، في الطابق الأرضي، حيث المدخل السري، إلى معمل جدي.

سمعته من خلفي يقول مشفقاً:
- معمل حديث، ومدخل سري؟!! هل تكثر من قراءة روايات المغامرات؟!
أغاظتني عبارته الأخيرة، فاندفعت نحو مكتب الطابق الأرضي، حيث تلك المكتبة الصغيرة، وقفزت يدي إلى نفس الكتاب، الذي استخدمه لفتح المدخل السري، وجذبته بالوسيلة نفسها، و...

ولم يحدث شيء..

تراجعت كل الدهشة، وأنا أحدّق في الكتاب، ثم في الفراغ، الذي انتزعته منه، ثم انقضضت بكل غضبى على المكتبة، أحاول زحزحتها من مكانها، فهتف هو منزعجاً:
- حذار أن تسقط الكتب.

صرخت بكل انفعالي:
- المدخل السري خلف هذه المكتبة.
قال بنفس اللهجة المشفقة:
- اهدأ، وسنتعاون معاً في دفعها.

تعاون معي بالفعل، ورحنا نزيح تلك المكتبة الصغيرة معاً..
كانت ثقيلة للغاية، شأن كل أثاث زمنها، إلا أنها راحت تنزاح رويداً رويداً، وكلما انزاح جزء منها، شعرت نفسي باليأس، مع الجدار المصمت، الذي يظهر خلفها..

وكمحاولة يائسة أخيرة، رحت أطرق الجدار بقبضتي في قوة؛ في محاولة لأن استشفّ أي فراغ خلفه..
ولم يكن هناك أي فراغ..
ولا أي مدخل سرّي بالتالي..

وانهرت على أقرب مقعد صادفني، وقد تحوّل كياني إلى كتلة من اليأس..
ولم يعد هناك مفر من أن أعترف، بأن عدنان على حق هذه المرة..

شيء ما أصابني، منذ وضعت قدميّ في هذا البيت..
شيء مزعج، غامض، عجيب..
ومخيف..
للغاية..

"ماذا الآن؟!"..

ألقى عدنان سؤاله في حذر، فغمغمت، دون أن أرفع عيني إليه:
- لست أدري.
صمت لحظات، ثم سألني في حذر:
- أما زلت تذكر كل شيء في وضوح، كما لو أنك قد عشته بالفعل؟!

أومأت برأسي إيجاباً في يأس، وأنا أكاد أبكي، من شدة الحيرة، فصمت لحظة أخرى، ثم قال في صوت خافت:
- العجيب أنك قد ذكرت أمراً لم أخبرك به بعدُ.
رفعت عيني إليه متسائلاً، فتابع في حذر:
- رماد جدّك.. لست أدري كيف علمت بشأنه.

سألته في دهشة، وجسدي يرتجف من المفاجأة:
- أهو موجود بالفعل؟!
أومأ برأسه إيجاباً، وأشار بيده، قائلاً:
- في ذلك الوعاء في حجرتك، على المائدة الصغيرة، إلى جوار النافذة..

هتفت في دهشة منزعجة:
- أيحوي رماد جدي؟!
أومأ برأسه إيجاباً في بطء، قبل أن يغمغم:
- وهذا يضعني أمام تفسير واحد.

سألته في توتر:
- وما هو؟!
أجابني في سرعة:
- إنها محاولة اتصال.

كررت في دهشة حذرة:
- محاولة اتصال؟!
أومأ برأسه إيجاباً مرة أخرى، بنفس البطء، قبل أن يقول في مهابة:
- نعم.. محاولة اتصال من جدك.

بدت الدهشة على ملامحي، فأضاف في رهبة:
- أو بمعنى أدق، من روح جدك.
وخيّل إلى أن الموقف كله ينقصه سطوع البرق، حتى يكتمل المشهد..
مشهد الرعب.
***

يُتبَع

 
 

 

عرض البوم صور عهد Amsdsei   رد مع اقتباس
قديم 19-05-12, 10:55 AM   المشاركة رقم: 13
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو فخري


البيانات
التسجيل: Jul 2007
العضوية: 32680
المشاركات: 18,283
الجنس أنثى
معدل التقييم: عهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسي
نقاط التقييم: 9761

االدولة
البلدYemen
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عهد Amsdsei غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عهد Amsdsei المنتدى : روايات أونلاين و مقالات الكتاب
افتراضي

 
دعوه لزيارة موضوعي

د. نبيل فاروق يكتب.. "الستار الأسود": جدي الحبيب (9)


قضيت ليلتي أتطلّع إلى الوعاء في رعب


ليلة عصيبة تلك التي قضيتها، بعد ما قاله لي "عدنان" عن محاولة روح جدي الاتصال بي على هذا النحو..

ذلك الوعاء الأنيق المجاور للنافذة، والذي كنت أراه مع شروق كل شمس صورة مبدعة للجمال، قضيت ليلتي أتطلّع إليه في رعب، متصوّرا أن تخرج منه روح جدي في أي لحظة..

وعلى الرغم مني، رحت أُفكّر في هذا الاحتمال..
ماذا لو أن روح جدي تحاول الاتصال بي حتما؟!
ماذا لو أن لديه ما يريد إخباري به؟!

لقد قرأت وشاهدت أعمالا كثيرة، تتحدّث عن هذا..
عن روح هائمة، تريد إيصال رسالة إلى عالم الأحياء..
أو تحذير ما..

وفي قلق شديد، رحت أتساءل: ما الذي يمكن أن تحاول روح جدي الحبيب إبلاغي به بالضبط عبر هذا الاتصال؟!
أهو أمر يتعلّق بموته؟!
هل مات قتيلا مثلا؟!
أم إنه هناك ما يريدني بالفعل أن أكمله؟!

قضيت شطرا طويلا من الليل أفكّر في هذا، قبل أن يغلبني النوم في النهاية قبيل الفجر بساعة واحدة..
ثم هاجمني ذلك الكابوس مرة أخرى..

كابوس تصوّرت فيه أنني أفتح عيني؛ فأجد جدي واقفا عند طرف فراشي، يتطلّع إليّ بنظراته الصارمة، وهو يرتدي حلته التقليدية القديمة..

ثم فجأة، تحوّلت الحلة إلى معطف معامل أبيض..
وتحوّلت حجرة النوم إلى ذلك المعمل في القبو..
وإلى جوار جدي، وقف عدنان يتطلّع إليّ بدوره..

كانت دائرة المصابيح الضخمة كلها مضاءة، تصبّ على وجهي وجسدي، وكل أجهزة الكمبيوتر الحديثة في المعمل تعمل، وشاشاتها ترسم آلاف الرموز العجيبة..

ولأول مرة في كابوسي، سمعت صوت جدي الخشن، وهو يقول:
- خلاياه الأصلية بدأت تستيقظ.
أجابه "عدنان" في اهتمام:
- يبدو هذا، ولكنني كنت أتوقّع وقتا أطول.

هز جسدي رأسه في صرامة، وهو يقول:
- خلاياه البشرية ليست في قوة الخلايا الأصلية.
كنت أتطلّع إليهما بنظرة خاوية، وبلا أي انفعالات تقريبا، ورأيت جدي يميل نحوي ويسألني:
- هل تراني في وضوح؟!

أردت أن أجيب بشيء ما، ولكن -وكما يحدث في الكوابيس- انعقد لساني، ولم أستطِع قول شيء..
أي شيء..
وفي غضب، اعتدل جدي، وقال "عدنان" بنفس هدوئه المستفز:
- أخبرتك أنه سيحتاج إلى وقت أطول.
هز جدي رأسه نفيا في قوة، وقال في صرامة شديدة:
- كلا..

ثم عاد يميل نحوي في شدة، وتطلّع إلى عيني المفتوحتين مباشرة، وهو يقول في صرامة غاضبة:
- لقد حان الوقت.. استيقظ.
وانتفض جسدي في عنف..
واستيقظت..

كانت الشمس تغمر حجرتي عندما فتحت عيني، وشعاع منها ينعكس على ذلك الوعاء، ثم يتجه نحو وجهي مباشرة..
ولأول مرة ألاحظ هذا..
شعاع الشمس، أظهر بريقا خاصا في ذلك الوعاء..
بريق يعكس كل ألوان الطيف مجتمعة..

لست أدري كيف لم أنتبه إلى هذا في المرات السابقة، ولعل السبب هو رؤيتي الشخصية لذلك الوعاء في السابق، ورؤيتي له اليوم..
ربما!!

نهضت من فراشي، واقتربت في شيء من الحذر من ذلك الوعاء..
إنه وعاء جميل المظهر ولا شك، ولكنه مصنوع من مادة غير عادية، أو من قطع صغيرة من مواد مختلفة، لكل منها نوعه وبريقه..

والأضواء التي تبعث من انعكاس أشعة الشمس عليه، تمتزج مع بعضها البعض، لتبعث في نفسك شعورا عجيبا..
شعور هو مزيج من الرهبة والخوف مع استرخاء لا يناسب كليهما..
وبمنتهى الحذر والتوتر، مددت يدي ألمس ذلك الوعاء للمرة الأولى..

ثم تراجعت في ذعر..
الوعاء معدني تماما، كما يوحي شكله وبريقه، ولكن ملمسه ناعم إلى حد مدهش، أشبه بملمس مخملي رقيق..
ثم أنه بارد إلى درجة عجيبة، كما لو كان مصنوعا من الثلج، وليس من المعدن..
وعلى بُعد مترين منه، رحت أتأمله في توتر، وعقلي يطرح على عشرات الأسئلة..

من أي شيء صنع هذا؟!
وكيف؟!
وهل يحوي بالفعل رماد جدي؟!
ولماذا هو هنا؟!
لماذا؟!
لماذا؟!
لماذا؟!

ملت نحو الوعاء في حذر، وأمسكت غطاءه البارد وجذبته في رفق؛ لألقي نظرة على رماد جدي..
ولم يرتفع الغطاء..
جذبته مرة ثانية..
وثالثة..
ورابعة..

وفي كل مرة كنت أجذبه بقوة أكبر..
وأكثر..
ثم بدت لي الحقيقة واضحة..
الغطاء مثبت في الوعاء على نحو ما، بحيث لا يمكن رفعه عنه أبدا، وكأنما حرص جدي، أو حرص "عدنان"، على ألا يفتحه أحد؛ خشية أن يتناثر رماد جدي؛ جرّاء خطأ ما أو هفوة ما..

دفعت أكبر قدر من الشجاعة إلى جسدي، وحاولت أن أطغي به على كل مشاعري، ومددت يدي ألتقط الوعاء، وأرفعه عن تلك المنضدة الصغيرة..
وهنا انتفض جسدي مرة أخرى..
وبمنتهى العنف..
الوعاء كان مثبتا أيضا بالمنضدة..

حقيقة كشفتها، عندما حاولت رفعه أولا في رفق ثم في قوة، تحوّلت بعدها إلى إصرار، بل وعنف، على الرغم من ملمسه البارد الذي صار يؤلم يدي..
وهنا تراجعت، ورحت أحدق فيه مرة أخرى..
أي وعاء هذا؟!
والسؤال الأهم: أهو بالفعل وعاء لحفظ الرماد، أم إنه شيء آخر؟!

استمر تحديقي فيه لحظات، انتقلت خلالها مشاعري كلها من الخوف إلى الضيق، ثم إلى غضب، جعلني أهتف في حدة:
" - عدنان".. أين أنت؟!
لم يجِب سؤالي الذي كررت النداء به عدة مرات؛ فاندفعت خارج الحجرة، وأنا أهتف به مرة أخيرة، قبل أن أهبط للبحث عن "عدنان" هذا..

كان المنزل هادئا ساكنا، تغمره أشعة الشمس، عبر كل نوافذه المفتوحة، وكان مرتبا نظيفا للغاية، وتلك السيارة عتيقة الطراز تقف أمامه، في نفس موضعها، ولكن لم يكن هناك أثر لـ"عدنان"..
أي أثر !!

قضيت ما يقرب من نصف الساعة في البحث عنه، وفحصت خلال هذا تلك المكتبة الصغيرة مرة أخرى، ولكنه كان قد اختفى تماما..

وعلى نفس المقعد الذي اعتدت تناول طعام إفطاري عنده، جلست أدير عقلي في كل ما حدث، منذ وصلت إلى هذا المكان..

كل شيء، وكل حدث، وكل موقف، كان يدعو لحيرة، لا حدود لها، كما لو أنني أحيا في فيلم سينمائي، من أفلام الرعب الأمريكية، وليس في عالم الواقع..
أغمضت عيني، وتساءلت: أمن الممكن أن يكون كل هذا حلما؟!
أو حتى كابوس، من نوع لم أمرّ به من قبل؟!

ولكن الأحلام وحتى الكوابيس لا تأتي بهذا الوضوح، وبكل هذه التفاصيل الدقيقة، والمشاعر الواضحة المميزة..
ولو أنه ليس حلما، فما هو؟!
لو لم أجد جوابا؛ فهذا لن يعني أن ما يحدث في منزل جدي الحبيب أمر عادي، بأي مقياس عملي أو علمي أو حتى منطقي..
ما يحدث هو أمر عجيب..
عجيب..
عجيب إلى أقصى حد..

ثم فجأة، قفزت تلك الفكرة إلى رأسي..
إنه "عدنان" ولا شك..
"عدنان" يريد إصابتي بالجنون أو بالرعب ودفعي لمغادرة المنزل، حتى يمكنه الاستيلاء عليه لنفسه..
فالمنزل، بكل ما يحويه من تحف نادرة، يساوي ثروة بلا شك..
ثروة كبيرة..
ثروة، ربما تقدّر بالملايين..
نعم.. هو "عدنان".. هذا هو التفسير الوحيد..

نهضت في حزم، عند هذه النقطة، أناديه مرة أخرى في قوة، على الرغم من ثقتي في أني لن أتلقّى جوابا..
ومع الصمت والسكون اللذين أجاباني، طرح عقلي عليّ سؤالا جديدا..
لو أن "عدنان" هو من يفعل هذا حقا؛ فكيف يفعله؟!
كيف يدس كل هذا في عقلي، ويقنع به مشاعري؟!
كيف؟!
" إنه الوعاء."...

هتفت بالكلمة في انفعال، عندما بدا لي أنه يستخدم ذلك الوعاء العجيب الذي يعكس أشعة الشمس على وجهي كل صباح؛ لكي يضعني في حالة أشبه بالتنويم المغنطيسي، يمكنني معها أن أحيا في عالم من الوهم، متصورا أنه كل الحقيقة..

مع هذا الاستنتاج اندفعت أصعد إلى أعلى، عائدا إلى حجرة النوم، وإلى ذلك الوعاء مباشرة..
وأمام الوعاء توقفت متوترا، وأنا أتطلّع إلى بريقه العجيب، ثم غمغمت في عصبية:
- سامحني يا جدي الحبيب، لو أن رمادك داخل هذا الوعاء بالفعل.

اعتمدت على المنضدة بقدمي اليمنى، واستنفرت كل قوتي، وجذبت الوعاء..
كان ملتصقا بالمنضدة في قوة، إلا أن أصابعي شعرت ببدء حركته، فوجدت نفسي، ودون أن أشعر، أصرخ بكل قوتي:
- ساعدني يا جدي.
ومع نهاية صرختي، انفلت الوعاء، وفقدت مع انفلاته توازني، وتراجع جسدي في عنف، وأنا أتشبّث بالوعاء، بكل ما أملك من قوة..

وعلى الرغم من قوة ارتطامي بالأرض، لم أشعر بأي ألم، وكأن مشاعري كلها قد توقّفت عند ضرورة الحفاظ على الوعاء..
وبأي ثمن..
ولكن ارتطامي بالأرض، أطار غطاء الوعاء الذي بدا لي شديد الإحكام، فصرخت بكل ارتياعي:
- لا.. رماد جدي..
وعبر الوعاء المفتوح، تناثر رماد جدي الجبيب في هواء الحجرة، وتساقط بعضه على وجهي، فسعلت في قوة، وأغلقت عيني في شدة..

وسمعت تلك الأصوات من حولي..
ومع خفقات الرعب في قلبي، فتحت عيني اللتين اتسعتا عن آخرهما، في رعب ذاهل..
فما رأيته أمامي كان مذهلا..
وبكل المقاييس..

يتبع

 
 

 

عرض البوم صور عهد Amsdsei   رد مع اقتباس
قديم 19-05-12, 10:56 AM   المشاركة رقم: 14
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو فخري


البيانات
التسجيل: Jul 2007
العضوية: 32680
المشاركات: 18,283
الجنس أنثى
معدل التقييم: عهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسي
نقاط التقييم: 9761

االدولة
البلدYemen
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عهد Amsdsei غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عهد Amsdsei المنتدى : روايات أونلاين و مقالات الكتاب
افتراضي

 
دعوه لزيارة موضوعي

د. نبيل فاروق يكتب.. "الستار الأسود": جدي الحبيب (10)


كان وجه جدي يحمّل تلك النظرة الصارمة


مستحيل!! لا يمكن أن يكون ما آراه حقيقياً!!
إنني لم أعد في حجرة نوم جدي..
لم أعد ممسكاً بذلك الوعاء، ولا يحمل وجهي أثر رماده!!

لقد فتحت عيني، لأجد نفسي مقيداً إلى تلك المنضدة الجراحية، في معمل جدي، الذي أكد عدنان أنه لا وجود له..
وأمامي مباشرة يقف عدنان مبتسماً ابتسامة هادئة، خلف آخر شخص يمكن أن أراه في عالم الحقيقة..
جدي..
كان حياً تماماً، ويحمل تلك النظرة الصارمة، التي حفظتها من صورته الكبيرة في منزلنا، ولكنه لم يكن يرتدي حلته العتيقة النمطية..
كان يرتدي معطفاً أبيض اللون، يشبه معاطف الأطباء، ويرتكن بيده على جهاز عجيب، لم أشهد مثيلاً له في حياتي كلها من قبل..

حدقت فيهما ذاهلاً، قبل أن أغلق عيني في قوة، وأغمغم بكل توتري:
- ليس هذا حقيقيا.. إنه حلم.. كابوس..
شعرت بملمس يد جدي على وجهي، وهو يقول في صرامة خشنة:
- بل هو حقيقة.. أنت لست نائماً.

وأضاف عدنان في ارتياح:
- لقد استيقظت.
فتحت عيني أحدّق فيهما مرة أخرى في ذهول، قبل أن أقول بصوت مرتجف:
- ولكن جدي مات بالفعل.
اعتدل جدي، وهو يقول في صرامة:
- كانت هذه هي الوسيلة الأفضل لجذبك إلى هنا.

حدقت في جدي مرة أخرى، غير مصدق أنه على قيد الحياة، وقلت بنفس الصوت المرتجف:
- إذن فأنت لم تمت.
مطّ شفتيه، وهو يقول:
- ليس بعد.

هززت رأسي في قوة، وأنا أقول:
- ولكنك تبدو كصورتك تماماً، التي أحفظها منذ طفولتي.. لا أحد يبقى على الهيئة نفسها، لأكثر من ثلاثين عاماً.
أجاب، وهو يتحسس شاشة جهازه:
- إنها هيئتي، منذ جئت إلى هنا.

لم أفهم ما الذي تعنيه عبارته، ولا لماذا يقيدانني إلى المنضدة، التي تكاد دائرة الضوء فوقها تغشي بصري، فقلت بكل توتري:
- لست أفهم شيئاً.
أجابني عدنان هذه المرة، بنفس هدوئه المستفز:
- أنت في نصفك واحد منا، وكان من الضروري أن تصل انفعالاتك إلى ذروتها، حتى تبلغ خلاياك الحد الأقصى؛ لإيقاظ النصف الخاص بنا، على حساب نصفك البشري.

حدقت فيه ذاهلاً، وأنا أحاول التخلص عبثاً من قيودي، مكرراً:
- لست أفهم شيئاً.. لست أفهم شيئاً!!
تحسّس جدي وجهي مرة أخرى، قبل أن يقول:
- الواقع أننا جنس يحيا على الأرض، منذ ملايين السنين، ولكننا لم نفصح عن وجودنا قط، منذ بدأت الحضارة البشرية على وجه الأرض.. وهذا المنزل هو النقطة الرئيسية، التي يمكننا عندها الاتصال المباشر بعالم البشر.. وستتعلم الكثير عن جنسك الحقيقي، مع مرور الوقت.

رددت ذاهلاً:
- جنسي الحقيقي؟!
مطّ شفتيه، وهو يقول بصرامته الخشنة:
- أمك خالفت القواعد، وفرّت من هنا، وتزوّجت بشرياً، وكنت أنت نتاج هذا الزواج.. لم نكن نعلم ما إذا كنت تحمل في جيناتك خلايانا أم لا، وكان من الضروري أن نحضرك إلى هنا؛ حتى نكشف هذا.

استرخى جسدي، من فرط ذهولي، وعقلي يسترجع كل ما مرّ بي، منذ وصولي إلى منزل جدي، وما بدا لي كأمور يستحيل فهمها، وغمغمت مستسلماً:
- إذن فكل ما رأيته وواجهته هنا كان.....
قاطعني جدي، قائلاً:
- مجرد وهم.. وهْم صنعته واحدة من آلاتنا المتطورة، التي تجعلك تحيا فيه بكل حواسك، كما لو كان حقيقة ملموسة..
وأضاف عدنان، بابتسامة باهتة:
- الواقع أنك لم تعد في وعيك، منذ وضعت قدميك في السيارة، أمام مطار بيروت.. أجهزتنا أفقدتك وعيك مباشرة، ثم سيطرت على عقلك؛ لتحيا في عالم افتراضي، صنعناه لك.

قال جدي، وهو يشد جسده في صرامة:
- كان الهدف هو إنهاك عقلك بمتناقضات لا حصر لها، تجهد مشاعرك وخلاياك البشرية، حتى تتغلب عليها خلايا بني جنسك.
ثم مال نحوي بشدة، مضيفاً:
- ولقد نجح هذا تماماً.

أشار عدنان إلى الجهاز، وهو يقول:
- جهازنا أكد أن خلايا جنسنا قد انتصرت أخيراً، وأنك قد صرت بالفعل واحداً منا.
أضاف جدي بصرامته الخشنة:
- ولقد عملنا على ألا تستيقظ خلاياك البشرية، إلا بالقدر الذي لا يسمح لها بالسيطرة على كيانك مرة أخرى.
غمغمت في مرارة:
- أتعني أنني لم أعد بشرياً؟!

أجابني في حزم:
- في الجزء الأعظم منك.
ثم بدأ في حلّ قيودي مع عدنان، وهو يضيف:
- والواقع أن هذا سيضيف إليك قوة جديدة، تؤهلك لاحتلال موقعي، بعد أن حان وقت عودتي.
سألته في استسلام عجيب:
- عودتك إلى ماذا؟!

أجاب في صرامة:
- ستعرف كل هذا مع مرور الوقت.
كانا قد حلا قيودي كلها، فنهضت في بطء، أتطلع إليهما في استسلام كامل، في حين خلع جدي معطفه الأبيض، وناوله إلى عدنان، وهو يقول:
- هذا المنزل صار ملكاً لك، منذ هذه اللحظة، وعدنان سيبقى معك لرعايتك، وليشرح لك كل ما تريد معرفته، حتى موعد اللقاء.

سألته بنفس الاستسلام:
- أي لقاء؟!
أجاب، دون أن يلتفت إليّ:
- ستعلم في حينه.
ثم اتجه نحو ذلك الصندوق الزجاجي، الذي يحوي الوعاء، الذي أخبرني عدنان أنه يحوي رماده، عندما كنت أحيا في ذلك العالم الوهمي الافتراضي، وهو يضيف:
- وعليك أن تعلم، ومنذ هذه اللحظة، أنه لم يعد مسموحاً لك بمغادرة هذا المنزل بعد الآن.. أبداً.

كان هذا القول كفيلاً بإثارة كل غضبي وتوتري فيما مضى، ولكن العجيب أنني قد استقبلته في استسلام عجيب، وأنا أردد بلا انفعال:
- أبداً؟!
لمس الصندوق الزجاجي بيده، وهو يجيب في صرامة:
- أبداً.
وما أن لمس ذلك الصندوق، حتى بدا وكأن جسده كله يتلاشى، ثم يتحول إلى ما يشبه الدخان الأزرق الكثيف، الذي عبر زجاج الصندوق، مخالفاً كل قواعد الطبيعة، ثم غاص في قلب الوعاء الأنيق في منتصف الصندوق، وتلاشى بدوره..

وللحظات، جلست أحدّق في الصندوق الزجاجي بلا مشاعر، حتى قال عدنان في هدوء شديد:
- هذا يشبه ما تطلقون عليه، في العلم الأرضي اسم الانتقال الآني.
غمغمت متسائلاً:
- وإلى أين ينقله؟!
أجاب بنفس الهدوء:
- إلى عالمنا.

وقفت أمام نافذة منزل جدي، أراقب غروب الشمس، وأنا أستعيد في ذهني كل هذا، وأسترجع كل تفاصيل ذلك العالم الافتراضي، الذي عشت فيه..
كان المنزل يشبه تماماً ما رأيته فيه..
كل شيء فيه قديم عريق، ويمتلئ بالتحف الثمينة، فيما عدا عدة فروق أساسية..
الطابق العلوي كان يحوي حجرة نوم واحدة، ولا وجود للحجرتين الأخريين على الإطلاق..
وحجرة عدنان لم تعد خالية، ولا حتى مؤثثة بذلك الأثاث العريق..
لقد كانت تحوي حجرة مكتب، تضم العديد من الوثائق الأصلية، والكتب الثمينة..
والمعمل كان موجوداً بالفعل، خلف تلك المكتبة الصغيرة..
ولكن الأهم أن الإضاءة لم تكن خافتة على الإطلاق..
وفي داخلي تولّد شعور عجيب..
شعور بأنني لم أعد بشرياً..
ولم أكن كذلك على الإطلاق..

ومن خلفي، جاء عدنان يسألني، في احترام شديد:
- هل ترغب في أي شيء.. يا سيدي؟!
كانت أول مرة يخاطبني فيها بهذا اللقب، على الرغم من أنه بدا لي معتاداً، وأنا أقول:
- كلا.. يمكنك الانصراف.

تساءلت، والشمس تختفي في الأفق، عن ذلك اللقاء، الذي لم يخبرني أحدهم شيئاً عنه..
بمن سألتقي؟!
وكيف؟!
ولماذا؟!

ومع غياب الشمس، ابتعدت عن النافذة الكبيرة، ووقفت أمام مرآة عريقة في أحد جدران المنزل، لألقي نظرة على ملامحي الجديدة..
الملامح التي هي نسخة طبق الأصل من ملامح جدي..
الحبيب.

***
تمّت بحمد الله

 
 

 

عرض البوم صور عهد Amsdsei   رد مع اقتباس
قديم 23-05-12, 10:38 AM   المشاركة رقم: 15
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو فخري


البيانات
التسجيل: Jul 2007
العضوية: 32680
المشاركات: 18,283
الجنس أنثى
معدل التقييم: عهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسيعهد Amsdsei عضو ماسي
نقاط التقييم: 9761

االدولة
البلدYemen
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عهد Amsdsei غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عهد Amsdsei المنتدى : روايات أونلاين و مقالات الكتاب
Stoned د. نبيل فاروق يكتب.. "الستار الأسود": زهور الربيع

 
دعوه لزيارة موضوعي

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

قصة رااائعة قصيرة من الدكتور نبيل فاروق

د. نبيل فاروق يكتب.. "الستار الأسود": زهور الربيع



كان الطفلان يتسابقان في سعادة في هذا الوقت المتأخر



"هل تؤمن بالأشباح والعفاريت؟"

لم يكد برعي يسمع السؤال من تلك الصحفية الشابة، التي ألقته عليه في اهتمام، حتى انفجر يقهقه ضاحكا، وهو يشير بكلتا يديه، قائلاً:
- أي أشباح وأي عفاريت يا آنسة؟! إنني تربيت أبا عن جد، ولم أختبر مثل هذه الأشياء في حياتي قط، على الرغم من أنني أقيم وسط المقابر، منذ وعيت عيناي على الدنيا.

بدت الصحفية الشابة أكثر اهتماما، وهي تسأله:
- إذن فأنت تعتبر كل هذا مجرَّد خرافات!
هتف في حماس:
- بالتأكيد.

ثم مال نحوها، مستطردا:
- هذه أمور يتداولها العامة، تعبيرا عن خشيتهم من الموت، أما نحن الذين نحيا مع الموت، فهي لا تؤثر فينا قط.
قالت الصحفية الشابة، وهي تنهي حديثها:
- من الواضح أن لديك فلسفة خاصة.

أشار بسبَّابته، قائلاً:
- بل أنا رجل واقعي، خبر الحياة طويلاً، وليس لديّ مكان للخرافات ومخاوف الطفولة.
أنهت الصحفية حديثها وغادرته وهي تسرع الخطى حتى تخرج من منطقة المقابر، قبل غروب الشمس، فتابعها في سخرية، مغمغما:
- ويقولون إن الصحافة تتابع الأمور الهامة.

هزَّ كتفيه مستنكرا، واستنشق الهواء في قوة، ثم سعل مرتين بسبب الأتربة التي تُميز دوما هواء موسم الربيع، ودلف إلى منزله وهو ينادي على زوجته، لتعد له طعام الغداء..
ومع مهبط الليل ساد منطقة المقابر هدوء وسكون شاملان، اعتادهما برعي منذ طفولته، وجلس هو على باب منزله الصغير الذي يتوَّسط المقابر، يدَّخن أنفاس الشيشة في استمتاع، ويسعل بين حين وآخر مفسدا سكون وهدوء المنطقة التي خلت تماما من الناس، مع اقتراب عقارب الساعة من منتصف الليل، نهض يلملم أدواته استعدادا للنوم، و..

فجأة، تناهت تلك الأصوات إلى مسامعه..
أصوات واضحة لطفلين يمرحان وسط المقابر، وضحكاتهما البريئة تتردَّد في المكان على نحو كان يمكن أن يرقص قلبه طربا لها، لو أنه سمعه في مكان آخر، أو وقت آخر.

وبكل دهشته، سار برعي بين المقابر، متتبعا أصوات الطفلين وضحكاتهما، حتى لاحا له أخيرا وهما يعدوان في مرح، حول قبر حديث نسبيا لزوجة شابة، لقيت مصرعها في سن مبكَّرة، بعد صراع مع مرض عضَّال.
كانا يطلقان ضحكاتهما المرحة وهما يتسابقان في سعادة في هذا الوقت المتأخر، فهتف بهما، وقد حوَّل توتره إلى عصبية مفتعلة:
- ماذا تفعلان هنا؟

للوهلة الأولى، خٌيل إليه أنهما لم يسمعا نداءه، إلا أنهما سرعان ما التفتا إليه، وتطلعا نحوه في خوف، جعلهما يقتربان بعضهما من بعض، ويتلاصقان في خوف..

كانا طفلاً وطفلة، لا يتعَّدى عمرهما الخامسة، ويتشابهان إلى حد كبير، بملامحهما الجميلة البريئة، التي جعلتهما يبدوان كزهرتين يانعتين من زهور الربيع، نبتتا وسط الموت، حتى أنه شعر بالعطف والشفقة نحوهما، فاقترب منهما، وهو يقول في حنان، محاولاً تهدئتهما:
- من أنتما؟ من أين جئتما؟ وماذا تفعلان هنا؟
تراجع الطفلان في خوف، وقد التصقا ببعضهما أكثر، فواصل اقترابه في حذر، وهو يقول في حنان أكثر:
- لا تخافا مني.. اقتربا.. عندي لكما بعض الحلوى.

تراجع الطفلان في خوف أكبر، ثم افترقا فجأة، ودار كل منهما في اتجاه مخالف للآخر حول ذلك القبر الحديث نسبيا، فأسرع برعي نحوهما، هاتفا:
- لا تخافا.

دار حول القبر بدوره، قبل أن يتوَّقف ذاهلاً..
على الرغم من أنه قد رآهما بعينيه، وهما يدوران حول ذلك القبر، لكن الساحة الصغيرة خلفه كانت خالية تماما..
لم يكن بها أثر للصغيرين..
أو لأي شخص آخر..
ولثوانٍ تجمد برعي في مكانه، وشعر بأوصاله ترتجف، فبسمل وحوقل، وتلفَّت حوله أكثر من مرة، قبل أن يغمغم مضطربا:
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم..

دار حول القبر مرتين، فلم يجد أدنى أثر للطفلين، فبسمل وحوقل مرة أخرى، ثم ابتعد في خطوات سريعة، عائدا إلى منزله..
ولكن فجأة، سمع ضحكات الطفلين مرة أخرى..
وفي رعب لم يشعر بمثله في حياته قط، التفت يحدَّق فيهما..
كانا قد عاودا لعبهما، على النحو نفسه، وكأنهما يعيدان المشهد من بدايته، وضحكاتهما تتصاعد في مرح وسعادة..
وفي هذه المرة وقف يحَّدق فيهما في صمت..

لقد مضى أكثر من عام، منذ أودع طفل إحدى هذه المقابر، ولقد كان طفلاً واحدا، وليس طفلين..
ثم إنه لم يؤمن يوما بالأشباح والعفاريت..
دار صراع عجيب في داخله، وهو يراقب الطفلين يمرحان ويلعبان، ثم استجمع شجاعته، ليقول في صوت مرتجف:
- ماذا تريدان؟

لم يكن يأمل شيئا من سؤاله، إلا أنه فوجئ بهما يتوقفان فجأة، فور أن نطق بسؤاله، ويلتفتان إليه في صمت، وأعينهما تحمل حزنا شديدا، حار في تفسيره، فكررَّ عليهما سؤاله، وقد بدأ يتماسك نسبيا..
ودون أن ينطق أحدهما بكلمة، أشارا معا إلى ذلك القبر الحديث، ثم امتلأت أعينهما بالدموع، على نحو جعله يتساءل في حذر:
- أهي أمكما؟

علا نحيبهما فجأة، وهما يتشبثان بالقبر، ويبكيان في حرارة أدمت قلبه، فاتجه نحوها، قائلاً في حنان مشفق:
- لا تبكيان.
مع اقترابه، التفتا إليه بنفس الخوف السابق، إلا أنهما لم يدورا حول القبر هذه المرة، وإنما وثبا نحوه؛ جعلا جسد برعي يرتجف، من قمة رأسه، وحتى أخمص قدميه، عندما اختفيا في شاهده فجأة..

ولقد ظل جسد برعي يرتجف لخمس دقائق كاملة بعد اختفائهما، وعيناه المتسعتان تحدَّقان في قبر المرأة، قبل أن تنجح قدماه في أن تتحرَّكا نحو القبر، ليفحصه في خوف، امتزج بحسه المهني..
ومع الوهلة الأولى، أدرك أن يدا قد عبثت بهذا القبر، منذ فترة قريبة..

وهي يد غير محترفة حتما..
لقد حفرت وأزاحت بلاطة القبر في عجالة، ثم أعادت وضعها، وأهالت عليها التراب، دون أن تسقي الأرض بالماء كالمعتاد..

كل هذا أدركه من النظرة الأولى..
وكل هذا رواه لضابط نقطة الشرطة، فجر اليوم التالي..
وفي حضور رجال الشرطة، تم فتح قبر المرأة..
وكانت الصدمة..
جثة المرأة ترقد ساكنة هادئة، وإلى جوارهما جثتان، لطفل وطفلة، في عمر الزهور، يرتديان الثياب نفسها، التي رآها برعي يرتدونها، وهما يلعبان حول القبر، في الليلة السابقة..

وعندما فحص الطبيب الشرعي المرافق الجثتين، أشارت إلى أن الطفلين قد لقيا مصرعهما قتلاً بالسم، منذ ثلاثة أيام..
وضرب برعي كفا بكف، وهو يستعيد ذكرى الليلة الماضية، في حين بدأت التحقيقات حول واقعة القتل..
وبسرعة راحت الحقائق تتكَّشف..

فالمرأة هي أم الطفلين، وقد تم قتلها بالسم أيضا، ليصبح بعدها زوجها الحالي وصيا على ولديها من زوج سابق، لقي ربه بعد ولادتهما بقليل، وترك لها ولهما ثروة معقولة..
وكان من الطبيعي أن يكون زوج الأم هو المشتبه فيه رقم واحد، ولكن التحقيقات أثبتت أنه كان يعالج في مستشفى بمدينة الإسكندرية، خلال الأسبوع الذي تمت فيه جريمة قتل زهرتي الربيع..

وعلى الرغم من ثقة الجميع بأنه مدبر الحادث، لكن أحدا لم يستطع إثبات هذا، وبخاصة مع عدم العثور على الفاعل الأصلي، فلم يكن هناك بد من إطلاق سراح زوج الأم لعدم كفاية الأدلة..
وفي جلسته الليلية المعتادة، بدأ برعي يجمع ساكني المقابر من الأحياء حوله، ويروي لهم قصته، وكل منهم يضرب كفا بكف، حتى كانت تلك الليلة..

كان القمر بدرا، والناس سئمت سماع قصته، فانفضوا من حوله، وجلس هو يدخَّن شيشته كالمعتاد..
ثم لمح ذلك الرجل..
رجل نحيل، متوسَّط الطول، يسير بخطوات مضطربة وسط المقابر، وهو يهمهم بكلمات غير مفهومة..
وعندما مرَّ أمامه، تعرَّفه برعي على الفور..
كان زوج الأم، بشحمه ولحمه..
ولكنه كان يختلف تماما عن آخر مرة رآه فيها، قبيل الإفراج عنه مباشرة..

أيامها كان واثقا، متغطرسا، يتحَّدث بنعرة عجيبة، ويتحدى أن يثبت أي مخلوق تورَّطه في جرائم القتل..
أما هذه المرة، فقد بدا ذاهلاً، رث الثياب، يسير كما لو أنه قد فقد كل شيء في الدنيا..
وفي فضول حذر، تبعه برعي..

كان يسير مباشرة نحو قبر زوجته، الذي أعيد إغلاقه في إحكام..
ولم يفهم برعي ما يحدث، فتقدَّم أكثر في حذر، ورأى الرجل يسقط على ركبتيه أمام القبر، وهو يقول في ضراعة بائسة:
- اجعليهما ينصرفان.. إنهما يزورانني كل ليلة، وأراهما يلعبان ويلهوان، في أماكنهما المعتادة.
سرت قشعريرة في جسد برعي، فأرهف سمعه أكثر، والرجل يبكي في انهيار، ويلمس شاهد القبر، مواصلاً:
- رجوتهما أن يرحماني واعتذرت لهما عما فعلته، فأشارا إلى صورتك، وعلمت أنهما يطلبان مني القدوم إليك.

تحوَّلت قشعريرة برعي إلى غضب، جعله يرهف سمعه أكثر وأكثر، والرجل يتابع، في انهيار تام: ولقد أتيت لأعترف أمامك.. لقد استأجرت قاتلاً، واخترعت موعد العلاج لتنفيذ جريمته..
أنا أعطيته السم.. نفس السم الذي قتلتك به، عندما سافرت إلى لبنان.. أنا فعلتها، أنا قتلتك وقتلتهما.. إنني أعترف.. ولكن ارحميني.. اجعليهما يبتعدان عني..

شعر برعي بغضب شديد، عندما سمع تلك العبارات الأخيرة..
كان الرجل منهارا بحق، إلا أنه لم يشعر تجاهه بذرة من الشفقة..
لقد رأى أمامه وحشا مفترسا، قتل زوجته، وزهرتين بريئتين، دون ذرة من الرحمة أو الشفقة، ببرائتهما وطهارتهما..

ولقد كان يهم بالاتجاه نحوه، ليعنفه في شدة، أو يلقي القبض عليه، ويخبر الشرطة بما سمعه منه، عندما لاحظ فجأة أمرا عجيبا، جعل انتفاضة عنيفة تسري في جسده..
لقد كانت بلاطة قبر المرأة التي أحكم إغلاقها بنفسه مرفوعة..
وكان القبر مفتوحا..

وفي نفس اللحظة، التي أدرك فيها هذا، اتسعت عيناه عن آخرهما، مع مرأى الطفلين، وهما يظهران فجأة، على جانبي الرجل، الذي أصيب برعب شديد، جعله يتراجع، صارخا:
- لا.. لا.. الرحمة.
كان الطفلان يتقدَّمان نحوه في بطء، فهب واقفا على قدميه، وهو يتراجع نحو القبر المفتوح، ملوَّحا بذراعيه في ارتياع، هاتفا:
- اتركاني.. لم أعد أحتمل.. لم أعد أحتمل..

تعثرت قدمه في بلاطة القبر مع تراجعه، فاختل توازنه، ورآه برعي يضرب بذراعيه في الهواء، بكل رعب الدنيا، محاولاً التشبَّث بشيء ما، قبل أن يهوى جسده كله داخل القبر، ويسمع برعي صوت ارتطامه بأرضيته..
ومع تأوهات الرجل داخل القبر، التفت الطفلان ينظران إلى برعي وأعينهما تحمل براءة الدنيا كلها.. لم ينطق أحدهما كلمة واحدة، ولكن رسالتهما وصلت إليه..

وكما لو أنه مسيَّر، استدار برعي عائدا إلى منزله، والتقط دلوا من الماء، وكيسا من الأسمنت، وعاد به إلى قبر المرأة..
وعلى الرغم من أن الطفلين لم يغادرا مكانهما، ولم يرفعا أعينهما عنه، وقف بينهما يلقي نظرة على الرجل الذي حاول الخروج من القبر، وهو ينظر إلى جثة المرأة في رعب، مردَّدا في انهيار:
- ارحميني.. ارحميني..

وبلا أي مشاعر تقريبا، وكأنما تضغط عليه قوة تفوق إرادته، تجاهل برعي تأوهات الرجل، ودفع بلاطة القبر ليعيدها إلى موضعها، والرجل يصرخ فيه، في رعب لا مثيل له:
- ماذا تفعل؟! ماذا تفعل؟!

ومتجاهلاً صرخاته تماما، أغلق برعي القبر، وراح يدعم بلاطته بخليط سميك من الأسمنت والماء؛ ليحكم إغلاقه تماما، وصوت الرجل يتناهى إلى مسامعه ضعيفا، وهو يصرخ متوسلاً:
- أخرجني من هنا.. لا تتركني معهم.

وفي هدوء عجيب، زاد برعي كمية الأسمنت والرمال، حتى حجب صوت الرجل تماما، ثم تراجع في بطء، وجلس على شاهد قبر آخر، يراقب قبر المرأة في بلادة عجيبة، في حين رفع الطفلان أعينهما إليه، في نظرة امتنان عجيبة، سرت لها قشعريرة باردة أخرى في جسده..
ثم فجأة، حدث ما جعل قلبه يتوَّقف لحظة عن النبض..

لقد شاهد تلك المرأة..
شاهدها تقف على بلاطة قبرها هادئة ساكنة، تنظر إليه بنفس نظرة الامتنان، وهي تفتح ذراعيها..
وفي سعادة، اندفع الطفلان نحوها، فاحتضنتهما في حنان عجيب، قبل أن تمنحه نظرة امتنان أخرى، ثم تغوص مع ولديها، عائدة إلى قبرها..

ولساعة كاملة، ظل برعي جالسا على شاهد القبر الآخر، يحدَّق في قبر المرأة، دون أن ينبس ببنت شفة.
منذ تلك الليلة، واصل برعي جلسته المعتادة، أمام منزله، وسط المقابر، يدخَّن شيشته في هدوء وصمت، محاولاً إقناع عقله بنسيان ما حدث..

الشيء الوحيد الذي تغير، هو أنه لم يعد يروي شيئا لأي مخلوق..
فقط أصبح أكثر اهتماما بنسمات الربيع..
وزهور الربيع.

***

 
 

 

عرض البوم صور عهد Amsdsei   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الستار الاسود, زهور الربيع, نبيل فاروق, قصة
facebook




جديد مواضيع قسم روايات أونلاين و مقالات الكتاب
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 08:00 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية