وعندما عاد جان وضع الحقائب في السيارة وقال وهو يرثي لأبنة خالته حالتها في هذا الجو الحار:
" كان عليّ ألا أطفىء الكيف ,وان ما الذي تودين مشاهدته أولا؟".
"النهر".
قالت ىنا بتأكيد ,إنها بشوق كبير لرؤية المسيسيبي , ضحك الأثنان وهما يشرحان لها أنه ليس هناك إلا المياه والوحل , غضّت آنا الطرف ,وتذكرت أنها جاءت الى هنا على أمل أن تشاهد هذا النهر العظيم , بما فيه من سحر وخيال ,وعندما لاحظ جان ضيقها قال بلطف:
" في هذه الحال سنتجه نحو فورت هيل – إحدى الأماكن التي يبدو فيها النهر جميلا ,وترتفع فيه المياه بشكل أفضل , سنجتاز إذن الحديقة العامة وهل يزعجك هذا يا آنا؟".
" لا أبدا على العكس".
دخلت السيارة في إزدحام الشوارع ,وتابعت آنا بنظرها الأماكن التي يشير اليها مرافقوها ,وعلى الرغم من فرحها بهذا اللقاء وسحر هذه المدينة ,إلا أنها احست بالحنين ........ لأشياء كثيرة في وطنها ,وخصوصا لوالديها ,وعندما دخلوا الحديقة سحرت آنا بجمال المكان ,بخلفية السماء الزرقاء الصافية ،وتخيلت بعد ذلك عنف المعارك التي دارت رحاها في هذا المكان الثري.
ثم توقف جان قرب مجموعة من الآثار تعود الى القرن الماضي وقال بحيوية:
" سنتسلق قمة هذا الجبل".
ثم ألتفت الى أمه وقال:
" لن نتأخر كثيرا يا أماه ,هل يزعجك أن تبقي قليلا وحدك ؟".
ردت راشيل بجدية:
" بالتأكيد لا ,لا تقلقا بشأني هيا ,إنتبه الى إبنة خالتك جيدا".
كان الصعود صعبا ,وبدات آنا تلهث من شدة التعب ,وأحست ان العرق يغسل جسمها تحت هذه الشمس القاسية , كان جان يمشي ببطء بجانبها ,ويساعدها على تخطي الصخور العالية ,ولم يتوقف عن قص بعض الحكايات التاريخية المضحكة ... والقيام بحركات إيمائية مسلية , توقفت آنا قليلا وإستندت بظهرها على إحدى الصخور وقالت:
" كان عليّ أن أقص هذه التفاصيل على جيسيكا".
" تحبينها أليس كذلك؟".
" إنها ربة عمل طيبة القلب".
نظر اليها جان بتساؤل :
" لكن السيد دونالسون.........".
إرتعشت ىنا عندما فهمت من سؤال جان ونظراته بأنه فهم الأمر كما توقعت فهو يلمّح بلا شك عن علاقتها الخاصة مع دونالسون , إبتسمت وقررت أن تهز كتفيها فقط دون أن تشرح شيئا لأبن خالتها ,الذي لم تتعرف عليه بشكل جيد بعد ، إبتسم جان ايضا وانطلق يشد يدها.
" هيا بنا ,تعالي من هنا , ستشاهدين الحقل الخالد الذي جرت فيه المعارك".
بعد أن شرح لها بعض تفاصيل المعارك تحركا ثانية بإتجاه القمة ,وقبل بضع خطوات طلب منها أن تقف عينيها ثم قال بمرح:
" الآن تستطيعين أن تفتحي عينيك".
وجدت أمامها ذلك المشهد العظيم للمسيسيبي الأعجوبة , أحست أن الدوع طفرت من عينيها ,جالت بنظرها في الأتساع الهائل للمياه والتي تعكس علىى سطحها اشعة الشمس الرمادية ,تحيطه على ضفتيه نباتات وأشجار ضخمة جدا ,قال موافقها:
" على الضفة الأخرى تقع لويويانا".
قالت آنا بإنفعال :
" بدون شك ، إنني في حلم".
قرصها جان بنعومة من ذراعها وقال:
" إصحي الآن إذن ,آنا ...... أنا سعيد جدا بأن اراك هنا ,وسررت أنك أعجبت بهذا المشهد , سوف اصحبك في الأسبوع المقبل في رحلة نهرية , يكون القمر فيها بدرا ,وستشاهدين اللحظات النادرة لهذا النهر".
" سيكون مدهشا حتما".
قالت آنا بحماس موافقة على إقتراح جان الذي نظر اليها بإعجاب ,وقال :
" معك بدون شك ستكون رحلة ممتعة , رغبتي كبيرة أن اقدمك لأصدقائي , واتخيّل أنهم سيتسابقون للتقرب منك".
ضحكت آنا بدون ان تاخذ هذا التصريح وهذه النظرات بصورة جيدة".
" لا تقلق سابعدهم عني واقول لهم أنك سبقتهم".
" صحيح؟".
قال جان بإنفعال وفرح وتابع
" أتمنى أن تكوني جادة , إنك حقا رائعة ,وأنا مسحور بجمالك و..... وبلهجتك الأنكليزية ".
إبتسمت آنا بقلق , رغم أنها أحست بالسعادة لصداقته العائلية ,إلا أن رغبتها لم تتعد ذلك ".
سألته عن الكتلة الحديدية التي تحتل إحدى الزوايا العالية من الصخر , فشرح جان قصة هذا المدفع القديم الذي كان يحمي النهر من تسلل العداء.
في طريق العودة الى السيارة ,كان جان يراقبها بحرص شديد في كل خطواتها ويمسك يدها بنعومة حتى تجتاز المنحدر الصعب ,وعند وصولهما قالت آنا لخالتها بمرح:
" كان إستعراضا مدهشا , للسف لم تستطيعي مرافقتنا".
إعتذرت الخالة بإبتسامة عذبة ,ثم لعنت هذا الطقس الحار والرطب الذي يؤثر على صحتها و رغم ذلك فهي تحب الحياة في فيكسبورغ ,ولا تفكر في غير هذه المدينة التي تحمل العديد من الذكريات الجميلة , ثم شكرت ربها أنه ترك لها يديها سليمتين.
تناولوا الغداء في المنتزه ثم زاروا المدينة القديمة والأسواق الشعبية ,وحديقةا لنباتات الضخمة حيث شاهدت آنا لأول مرة تلك النباتات البدائية ,والأشكال العجيبة للأشجار المعمرة.
هذه الرحلة الطويلة أرهقت آنا كثيرا ,وبدا على وجهها التعب , كما أحست الخالة بآلام شديدة في الساقين فقال جان:
" من الفضل ان نعود الى المنزل أليس كذلك؟".
وافقتا بتأكيد قوي بعد أن شربوا العصير البارد , إتجهوا الى طريق جيبسون حيث تسكن العائلة ,كان معظم البناء في هذه المنطقة متشابها , بيوت خشبية ضخمة وشرفات دائرية كبيرة تطل على حدائق خاصة يميزها نبات المغنوليا العملاق والمتناسب مع الواجهات العالية لهذه البيوت.
عندما دخلت آنا برفقة خالتها الى الحديقة تأملت بسرعة الأزهار الغريبة المنتشرة في انحائها ،وقررت أن تتفحصها فيما بعد ,الصالة كانت واسعة جدا والهواء المبرد ينعش الجو المعتم تقريبا ,فالستائر السميكة من الموسلين تمنع اشعة الشمس من إختراق النوافذ العالية ,كان لون الجدران أخضر وأبيض ,كما كانت الأرض مفروشة بموكيت سميك بلون الرغوة ,وعلى الجدران وزعت بعض اللوحات من الحفر الأصلي لبعض القرى الأنكليزية ,ومزهريات منتشرة هنا وهناك تحمل أزهار المنغوليا بألوان مدهشة واحجام كبيرة.
إصطحبت الخالة إبنة أختها الى الغرفة التي خصصتها لها...... جدار بكامله مفتوح كنافذة كبيرة تطل على الحديقة واللون الغالب على الغرفة هو لون زهر الليك , الستائر وغطاء السرير من القماش المرسوم بزهور فاتحة اللون ,تعطي جوا حالما للغرفة ,الفراغ كان واسعا مما ادخل السرور الى قلب آنا , إقترحت راشيل عليها هذه الفكرة ,ونامت حتى المغرب عندما سمعت صوت خالتها يناديها ,وعادل وك من الجامعة في وقت متأخر ,وكان يختلف عن أخيه تماما ,إنه جاد في دراسته ولا يتاخر عن محاضراته , ويبدو هادئا ومتزنا , رغم انه أصغر من جان بسنتين ،ويشبه والدته كثيرا وإستقبل إبنة خالته بحماس حار , وتحادثا طويلا عن دراسته في كلية الطب ,وعلمت انه يعتني بصحة والدته التي تتبع بسعادة اقتراحاته وإرشاداته.
إجتع اجميع على العشاء في احد المطاعم الرائعة ,وهناك ردت آنا على كمية كبيرة من الأسئلة عن والديها وعن بريطانيا وعن نفسها , سالتها راشيل:
" كم عمرك الآن يا آنا؟".
" إثنتان وعشرون سنة".
" الم تفكري بعد بالزواج؟".
" لم اقع في الحب الذي يدفعني للزواج".
رشفت راشيل قليلا من فنجان القهوة وقالت بجدية:
" هل لديك رغبة في البقاء هنا ؟".
" لا أعرف إذا كنت ساعتأد على الجو ام لا".
أجابت آنا بإبتسامة قلقة ,وهي تتمنى أن ينتهي هذا الإستجواب.
على الرغم من الحر الشديد فقد بدأت نقاط كبيرة من المطر تسقط لدى خروجهم من المطعم ووما أن إنطلقت السيارة حتى بدا السيل الحقيقي للمطر يضرب سطح السيارة ,ويتدفق متواصلا على الزجاج.
وفي المنزل ذهبت راشيل فورا الى أريكتها وتمددت فوقها , وأخذت تتابع مسلسلا عل التلفزيون ,أما لوك فقد دخل ال غرفته لمراجعة دروسه ,وإقترح جان على آنا أن تذهب الى غرفتها , ثم ما لبث أن تبعها الى الشرفة الداخلية وقال:
" تعالي , إنظري الى المطر من هذه النافذة".
وقفت آنا تراقب المطر المتساقط على النافذة المائلة ,أحضر جان كأسين من الشراب قدّم أحدهما الى آنا ,وإقترب منها وسألها بصوت منخفض:
" هل اعجبك هذا المسكن؟".
قالت ىنا بقلق:
" نعم ولكن هل ستكون العاصفة قوية هذه الليلة؟".
تفحّص جان السماء بإهتمام وقال :
" لا....... لا اعتقد ذلك".
إسترخت آنا بعد ان إستندت بكوعها على الدرابزين تراقب المطر ,نظر الشاب بإعجاب عندما رمت خصلة شعرها الحريرية الى الخلف ,وإبتسمت بجاذبية وكأنها تتواطأ مع نظراته ,وأخذت ترد على مغازلته الناعمة بمزاح متزايد ,نظرت اليه تتفحص وجهه من خلال إنعكاس ضوء الصالة الذي يضيء شعره الأشقر بإنعكاس نحاسي ,ولاحظت خطوط وجهه وما تحمل من ملامح إنكليزية , وتذكرت ريان دونالسون .........عيونه ونظراته الساخرة , أنفه الحاد الذي يعكس كبرياء ك وغرورا , حاجبيه المعقودين وفمه وإبتسامته الغامضة ,أنه لا يشبه أبدا إبن خالتها جان الذي ترى أنه ما يزال شابا مراهقا.
تساءلت كيف يمكن أن يكون قد أمضى يومه؟ تخيّلت انها تراه يقف على الشرفة كما في ليلة الفندق , إنه حزين لفراق جيسيكا ,وهذا ما يمنعه من النوم ,تمنت ألا يكون هذا هو السبب ،وقررت أن تعرف تفاصيل جديدة عن حياته الخاصة.