نظر الى آنا وهو يتفحصها وتابع:
" أن ملابسك خفيفة والأفضل أن أطلب سيارة أجرة".
هذا الأسلوب المتهكم والمتسلط أثار سخط آنا فقالت معارضة:
" لا أخاف البرد , وأفضل المشي".
نظر اليها بقلق ثم أنحنى بحركة تمثيلية وقال:
" كما ترغبين , على كل حال سيكون من السهل أن نصل الى فندق جامبريا قبل أن تبدأ العاصفة".
أعجبت آنا بنفسها , لقد أمتثل لرغبتها , وأستطاعت أن تحد من سيطرته اللامتناهية , وربما بدا لها متساهلا لأسبابه الشخصية , لكنها رفضت أن يقف مدافعا عنها بهذه الطريقة , أحست برعشة برد وهي تمشي بهدوء لتحافظ على توازنها أمامه , حاولت أن تتخيل المطعم ,لا بد أنه يستقبل تجوم الأستعراضات والتلفزيون , سألت بصوت هادىء:
" أين...... جامبريا ؟ ظننت أنه قريب من الأستديو".
" أنه هناك خلف تلك الشجرة الضخمة , أقصد المدخل , أنه ذلك البناء ذو الطوابق الثلاث , لن يكون مناسبا جدا لبريقك هذا ".
ندمت آنا بمرارة , تذكرت أنها تلبس فستانا مستعارا , وخافت أن يعرفه أحد رواد المطعم , وصلا بعد دقائق الى مدخل الفندق , وشعرت آنا بسرور داخلي أن تكون ضمن هذه الطبقة من الفنانين.
السلالم الطويلة الضخمة كانت مغطاة بالسجاد السميك , الجدران تحمل مرايا ضخمة ترسم صورهم بأشكال لطيفة , تعجبت آنا لحرارة أستقبال العاملين في الفندق لريان , مدير الصالة أستقبلهما على باب المطعم عد وصولهما , وطمأن ريان بأنه سيحصل على طاولة جيدة رغم العدد الكبير من الناس المحتشدين في المطعم.
" أنها ساعة العشاء يا سيد دونالسون , الزبائن كثر اليوم , لن أتأخر في أيجاد طاولة مناسبة , لا تقلق".
بدا ريان مختلفا قليلا عن حالته داخل الأستديو , فقد أسترخت تعابير وجهه وبدا أكثر طبيعية , وحاولت آنا أن تبدو طبيعية أيضا , فلم تتعود بعد دخول تلك الأماكن , كانت مشدودة ولكنها أحست بأنها تتمالك أعصابها شيئا فشيئا , لكن سخرية ريان عادت لتقلقها:
" أسترخي قليلا يا آنا بالانتين , لا تقلقي , أسمك غير موجود في قائمة الطعام".
" أنا......لم أفهم".
" يعني أن أحدا لن يأكلك , الجو مبهج أليس كذلك؟".
هذه السخرية شنّجت وجه آنا , إنه يسخر منها , نظرت اليه بغضب وقالت:
" أنا هنا للحديث عن العمل والمسائل المتعلقة.....".
" بالتأكيد ". قاطعها ببرود.
أستند ريان الى كرسيه دون أن يرفع نظره عنها:
" حدثيني , ما الذي تعرفينه عن فيكسبورغ؟".
فوجئت آنا من هذا السؤال , لقد تخيّلت أنه سيسألها عن زواج جيسيكا , ربما يفضل أن يؤجل هذا الموضوع الذي يعذّبه.
" يجب أن ألخص لك الأعداد الضخمة من الكتب والوثائق والرسائل عن قصة هذه المدينة ".
" لا , حدثيني عن المدينة الحزينة , مثلا عن أهلك هناك".
إبتسامة مشرقة لمعت على شفتي آنا , وأشرقت عيناها الخضراوان الواسعتان ببريق السعادة :
" خالتي تعيش في الشارع الرئيسي للمدينة , عمي جاك توفي منذ بضع سنوات , لديها ولدان جان ولوك , وبالتالي كما ذكروا لي في الرسائل أن لديهم أرشيفا واسعا عن هذه المدينة وعن حرب الأنفصال".
نظرت آنا الى الأطباق التي ملأت الطاولة , كان مشهدها وحده يكفي لفتح الشهية , تابعت بمرح:
" سأعطيك عنوانهم ".
" لن يكون ذلك ضروريا , ما زلت أفكر أنك ستكونين معنا في هذه الرحلة , أنا متلهف للتعرف على أهلك ".
تعجبت آنا من إصرار المخرج , ومن جرأته المستمرة فقالت بصوت قاطع:
" أكرر لآخر مرة , لن أسافر الى أميركا , سأقضي باقي الأسبوع في كبرنسمير عند والديّ".
بقي ريان صامتا للحظات , بينما ظهر القلق على وجه آنا , لأنها ترفض فرصة عمل جيد , سيزودها بالخبرة , عدا السفر الى أميركا وزيارة خالتها بدون تكاليف.
منتديات ليلاس
قالت بتردد:
" لم أزر والديّ منذ ستة أشهر".
" حسنا , هذا مفهوم".
وضع ريان فوطته على الطاولة وتابع بتأكيد:
" سافري غدا صباحا , وبإمكانك أن تعودي يوم الأربعاء مساء , ستتمكنين من تحضير حقائبك خلال الليل , خذي بعض الملابس التي تحتاجينها لمدة أسبوعين , ملابس خفيفة , فالطقس في الميسيسيبي هذه الأيام حار".
ذهلت آنا من أسلوبه المتسلط حتى أنه يتدخل في أصغر أشيائها الخاصة , لن تطيع أوامر هذا الرجل ذي الطبع المتغطرس , ولن تناقش معه أي شيء , لكن على الرغم منها كانت جاذبيته تسيطر عليها , وبدأت ترتعش من هذه الفكرة , قالت بتعال وتحد:
" لماذا أنت مصر على أن أغيّر رأيي؟".
" هناك حلان فقط ( قال بلطف ) إذا وافقت على مرافقتي , ستحلين الكثير من الأمور وخصوصا أنك تعرفين تفاصيل السيناريو , ويخيّل الي أنك مساعدة قادرة وذات خبرة لا بأس بها في هذا المجال".
توقف ريان عندما أحس بأضطراب آنا , ولتكسر لحظات الصمت قالت:
" والحل الثاني ......".
" الحل الثاني هو أنني سألاحق جيسيكا قانونيا وألغي عقدي معها , وسيضر ذلك بمستقبلها , فهذه المهنة لا تقبل إلا الأشخاص الجديرين والموثوق بإخلاصهم".
شعرت آنا أنه يستفزها فقالت بعصبية:
" لا يحق لك أن تقول أنها غير جديرة.".
" آه.... جيسيكا؟".
قال بسخرية , جحظت عينا آنا ورمت بعنف فوطتها على الطاولة:
" لكن هذه مساومة رخيصة".
دفعت كرسيها الى الخلف ووقفت تحمل حقيبتها , فأمسكها ريان بيد قوية , لكنها دفعته بعصبية وقالت:
" كيف تتجاسر أن تمنعني بالقوة؟".
ترك ريان يده تسقط , وأتجهت آنا مسرعة خارج المطعم , فلن تبقى ثانية بعد الآن لتستمع الى حديث ريان المخزي , إنه يحاول أن ينتقم من جيسيكا لأسباب شخصية , ويبدو أنه لن يغيفر لها.
خرجت من الفندق بسرعة ولم تنتبه أن تأخذ سيارة أجرة تقف أمام الفندق , قطعت الشارع بخطوات سريعة , ودخلت في أول زقاق وجدته أمامها.
كان الليل قد أرخى ظلمته , مصابيح الشارع أرسلت أشعتها الفضية الخفيفة , لتعكس خطوطا متوازية على الأسفلت الرطب , نوافذ البيوت القريبة عكست أيضا بعض الأضاءة , نظرت آنا حولها , لعلها تلمح موقفا قريبا للباص و المترو وعندما فقدت الأمل , قررت أن تنظر على زاوية الرصيف لتأخذ أول سيارة أجرة تمر , لمحت عن بعد ذلك الفتى الذي لاحظت أنه كان يتبعها منذ لحظة خروجها من الفندق , هاجس من الخوف أنبأها بأنه سينقض عليها خلال لحظات ,نظرت حولها لعلها تستطيع أن تستنجد بأحد المارة أو بشرطي , وجدت نفسها وحيدة فحاولت أن تصرخ , لكنه كان أسرع منها وقد أستولى على محفظتها بالعنف , وحين حاولت أن تدافع عن نفسها , دفعها بقوة وأبتعد بخطوات سريعة.
منتديات ليلاس
لمحت فجأة رجلا طويلا يركض بأتجاه الفتى بحماس وقوة , حتى قبض عليه , راقبت آنا صراعهما العنيف الذي يتناوب بين النور والظلام , حاولت عبثا أن تطلب نجدة لكنها لم تلفظ حرفا واحدا , لقد شلّها الخوف والأنفعال , وغطّت دموعها خديها , لمحت حقيبة يدها تتخبط بين المتصارعين , ثم فقدت مكانهما , لم تعد ترى سوى الظلام , أصوات متكررة , ركض , وضرب , ولهاث , وبعض الشتائم , وأخيرا ظهر المدافع عنها يحمل الحقيبة بينما كان الفتى يركض بأقصى سرعته وهو يجتاز أعمدة الكهرباء المتباعدة في الشارع.
أقترب منها الرجل يترنح , دخل دائرة الضوءالتي سقطت تحتها آنا , كان يضع يده اليمنى على عينه اليسرى:
" يا الله ...... ماذا تضعين في حقيبتك, هل هي محشوة بالرصاص؟".
أرتجفت برعب , نهضت بصعوبة , ثم تقدمت منه لتعتذر وتشكره على أنقاذها.
لقد مرت بلحظات رعب حقيقية , وسيقبل محدثها ريان دونالسون أعتذارها وهي على هذه الحال.