كاتب الموضوع :
فداني الكون0
المنتدى :
روايات عبير المكتوبة
:
-أتمنى....
ترددت.
-ماذا تتمنين؟
-أتمنّى ان يعجبك نوع الموسيقى التي نسمع. معظمها كلاسيكي لبيتهوفن وموزارت وبراهمز. نحن لانحب الموسيقى الخفيفة.
نظر اليها كريس متعجباً من حديثها وقال:
-سأنتظر سماعها بفارغ الصبر. وان لم تعجبني استطيع ان اتوقف عن الحضور أليس كذلك؟
نظرت اليه لين مستغربة لهجته المتسائلة. كانت تعابير وجهه جدية. وران صمت ثقيل بعد ذلك. كانت لين تسمع خرير مياه النهر وخفيف أوراق الشجر التي كان النسيم يتلاعب بها وصياح الاولاد عن بعدوهم يلعبون قرب ضفة النهر. تأثير هذا الرجل وهو يجلس قربها عجيب. الهدوء يلفهما وهما صامتان. أدارت وجهها لتنظر اليه ولمحت تساؤله وهو يقول:
-هل ستذهبين مع كين غداً؟
-نعم. سنذهب في رحلة بحرية وسنتناول الشاي في استراحة النهر.
تساءلت لين في نفسها: لماذا يصب اهتمامه على كين؟
-أنت تحبين النهر. أليس كذلك؟ رأيتك هنا منذ اسبوع. كنت ترتدين بنطلوناً احمر وتستلقين في المركب. افترضت وجودك مع كين.
ضحكا سوياً ثم أكمل:
-سأتغيب عن البلد في عطلة نهاية الاسبوع وسأعود الاثنين صباحاً.
-هل ستذهب بعيداً؟
هز رأسه موافقاُ وقال:
-سأذهب الى لندن. سألتقي صديقة قديمة لي لم أرها منذ فترة طويلة. كلمتك عنها. سألتقي انجيلا كاستلا، المغنية.
-نعم. لقد اخبرتني عنها.
شعرت لين بطعنة في صدرها ولكنها تجاهلتها. كانت تعلم ان كريس سيلتقي انجيلا في المدينة. انه حر في تصرفاته. له حق الاجتماع بمن يريد وهذا الشأن لايعنيها ولا يمكنها ان تتدخل فيه. وقفت مودعة وقالت:
-سأراك فيما بعد يااستاذ يورك. الخميس المقبل حوالي السابعة والربع مساءً في منزلي. مساء الخير واتمنى لك عطلة ممتعة.
-شكراً. بالمناسبة يا لين اسمي كريس.
-مساء الخير يا كريس.
-هذا أفضل.
تصافحا مودعين ثم افترقا.بعد ظهر يوم الاحد ذهبت لين برفقة كين في نزهة نهرية على مركب صغير. ربطا المركب الى شجرة قرب ضفة النهر وصعدا الى الضفة ليرتاحا في ظل شجرة وارفة منعزلة. وبعد ان تناولا الشاي، تمدّدا فوق العشب الاخضر باسترخاء. اغمضت لين عينيها وبدت كأنها تنعم بسبات هادئ. جلس كين قربها يدخن سيكارته ويراقب بكسل حركة المراكب في النهر، وينظر من وقت لآخر الى فتاته الشابة النشيطة المفعمة بالحيوية والمستلقية قربه. كان يفكر فيها بحنان بينما كانت هي تسرح بتفكيرها الى لندن حيث ذهب كريس. كانت تتساءل بامتعاض اذا كان يستمتع بزيارته لانجيلا. هل دعاها للعشاء والرقص؟ وماذا يفعل الآن؟
هل من الممكن ان تكون انجيلا حبيبته الجميلة قد خسرت شيئاً من جمالها بمرور الزمن؟ هل ذبلت؟ هل هما خطيبان؟ اذا كانا كذلك فلماذا لم يتزوجا بعد؟ ما العلاقة التي تربطه بها خلال هذه السنوات؟
انتهى كين من سيكارته. اطفأها و|أشعل سيكارة على الفور. انه لايدمن التدخين المفرط ولكنه بدا منفعلاً في تلك الامسية. قال بلطف فائق:
-لين؟
فتحت لين عينيها وحدقت به وقالت:
-نعم يا كين؟
-كيف انتهى نقاشك مع المدير والمفتش؟ من ربح؟
-هما. بالطبع.
-هل تقصدين انك رضخت لمشيئتهما؟ هذا ليس من طبعك. ان عملك غير اعتيادي.
-كانا اثنين ضد واحدة. كنت واحدة ضد الجميع..... أو هكذا فهمت من نقاشهم.
جلست لين ونظرت جادة الى كين وسألته:
-كين! هل تعرف احداً من افراد الهيئة التعليمية يتذمر من طريقتي في التعليم؟ هل ماري من ضمن هذه الفئة؟
-أنا لاأعرف احداً منهم يا لين. ولكنني واثق ان ماري ليست منهم. اسمع الكثير من اللغط في غرفة الاساتذة حول هذا الموضوع. الاحاديث تتناول طريقة تدريسك. كبار المعلمين لايرحبون بالطرق الحديثة في التربية. لقد اعتادوا الطرق التقليدية ويشعرون بالراحة في تطبيقها.
-التقليديون، كبار السن، يخافون التغيير. انهم يرون فيه تهديداً سافراً لنجاحهم في عملهم المعتاد.
-اعتقد ذلك. هذا صحيح.
استلقت لين فوق العشب الأخضر من جديد وأدارت وجهها بعيداً عنه، وأكملت حديثها قائلة:
-كان عليك ان تسمع بعض الاتهامات التي واجهني بها المفتش..... لقد انضم الى جانب المدير في رأيه. لن أسامحه ابداً على مافعله بي في ذلك اليوم. لقد جردني من ثقتي بنفسي واحترامي لذاتي. لن أنسى فعلته الشنيعة طول حياتي.
أنهى كين سيكارتهواطفأ عقبها ثم انحنى فوقها يخاطبها برقة:
-لننس هذا الموضوع يالين. لننس العمل ومشاكله. لننس المدير والمفتش ولنتكلم عن انفسنا.
أمسك بذقنها بين اصابعه وادار وجهها اليه بحنان ورقة. عانقها بلطف وقال:
-لين انا احبك واريدك. هل تتزوجيني؟ تتركين التعليم وهؤلاء الناس لشأنهم. قال كين كلامه هذا بتصميم اكيد والحاح. كان مضطرباً وهو يعاود عناقها بقوة.
أرادت لين مبادلته عناقه ولكن صورة المفتش الوسيم المتعجرف مرّت بذهنها. ارتعدت فرائصها. كان المفتش ينظر اليها بعينيه الرماديتين الرائعتين نظرة غريبة لم تفهمها، ولكنها تلقائياً وجدت نفسها تدفع كين بعيداً عنها وهي ترفض عناقه، وتبعد وجهها عنه بحركة عفوية. نظر كين اليها مستغرباً تصرفها وهو يقول:
-ماذا حصل؟ لماذا ترفضين عناقي؟
-آسفة ياكين! ولكن لامزاج لي الآن.
كانت تتنفس بصعوبة وتتكلم ببطء:
-لااستطيع ان اعطيك الآن جوابي بشأن الزواج. عليك ان تصبر قليلاً.
-الصبر؟ ولكنني لست ملاكاً. انني انسان له ميول وشعور واحتياجات. وانا معك يا لين لااستطيع ان اتحلّى بالصبر. انت تفهمين قصدي جيداً.
وقفت لين. ورتبت شعرها بيديها. كانت لاتزال ترتجف خوفاً من صورة كريس التي مرت في مخيلتها وقالت بحزم:
-لنذهب يا كين!
مشيا سوياً الى رصيف الميناء. وبدا كين ساكتاً وحزيناً.مدت لين يدها وأمسكت بيده. وعلى الفور استعاد كين مرحه السابق الذي لايفارقه. توقفا قرب بائع البوظة وهما يتكلمان ويتضاحكان كأن شيئاً لم يطرأ على علاقتهما.
حاولت لين جاهدة ان تبعد صورة المفتش الوسيم من مخيلتها ولكنها لم تفلح. بقيت صورته تلاحقها رغماً عنها.
صباح يوم الثلاثاء بدت غرفة الاساتذة تضج بالثرثرة. بل وارنر استاذ الللغة الانكليزية قال:
-انظري يالين الى صورة المفتش في الجريدة. دعيها تراه ياماري.
نظرت لين على الفور الى الجريدة. كانت صورة كريس يتمشى مع سيدة جميلة تتعلق بذراعه فوق رصيف شارع النهر في جنوب لندن. قرأت ماري بصوت مرتفع تعليق الجريدة تحت الصورة: الآنسة انجيلا كاستللا المغنية المشهورة مع صديق من لندن، الاستاذ كريستوفر يورك. سئلت اذا كانا خطيبين. اجابت الآنسة كاستللا ضاحكة: نحن صديقان حميمان تربطنا صداقة قديمة.
أخذ أحد الاساتذة يغني الأغنية الشهيرة: القصة قديمة جداً جداً.
أخبرني القصة.......!
ضحك الجميع وطوت ماري الجريدة بتأنً ووضعتها على مكتبها. شاركت لين الجميع ضحكهم وأدارت وجهها عنهم تخفي عواطفها المرهقة المبعثرة وهي ترتجف. شعرت ببعض الألم ينتابها. لاتزال تجهل أسباب انزعاجها من علاقة كريس بانجيلا. كانت تود لو تسطيع ان تنساه او حتى ان تطرده من مخيلتها.......وتخرجه من حياتها وكيانها.
مرّ الاسبوع. لم تستطع لين ان تطرد الشعور بالانقباض الذي كان يكبلها. كانت ماري هي الوحيدة التي أبدت تفهماً لوضعها. ماري صديقة حميمة قاست الكثير من الألم. لقد أسرت الى لين بقصة زواجها الفاشل يوم كانت في السابعة عشرة من عمرها، وتزوجت من رجل يكبرها قليلاً. وبعد شهرين من الزواج تركها ورحل الى الأبد. قال انه سيرحل ويتركها لتكبر وتنضج قبل ان يعود اليها. ولكنه لم يعد.....عاشت منذ ذلك الوقت كالفتاة العزباء وعادت لاستعمال اسمها كما كان قبل الزواج.
كانت لين تتمنى صادقة ان يعود زوج ماري يوماً اليها. وكانت حالياً ترى وجه ماري يشع بالأمل، وتتساءل ان كانت عودة الزوج قد تحققت أخيراً، ولكنهالم تجرؤ على مفاتحتها بالموضوع. كانت تنتظر من ماري ان تخبرها بنفسها عن أسباب سعادتها الظاهرة.
وجدت لين نفسها منهمكة في حل مشاكلها الخاصة. كانت تجد صعوبة في اتباع طرق التعليم التقليدية ولكنها كانت مجبرة على ذلك ولن تستطيع التراجع. كان حبها للتغيير يتعارض مع واجبها في الوظيفة. هذا الصراع النفسي اثرّ كثيراً عللى عملها وعلى مفاهيمها العامة للحياة. ثم هناك الصراع الداخلي في عواطفها نحو الرجل الذي تسبب لها في كل مشاكلها العملية. رفضها له لايزال يزداد حجمه، وكذلك رغبتها القوية في ان تجرحه. كانت تعتقد انها نسيته، ولكنها على العكس لم تستطع ان تبعد صورته عن مخيلتها ولا لحظة. كان عليها ان تضبط شعورها نحوه وتحقنه بكل قواها.
حان موعد اجتماع النادي الموسيقي. وجدت لين نفسها متشنجة الأعصاب تنتظر لقاء كريس. وقررت ان ترتدي ثوباً جديداً للمناسبة. انتقت فستاناً زهرياً له قبة عالية واكمام طويلة. كان ضيقاً يلفها بأناقة. قالت ماري وهي تنتظرها لتنتهي من ارتداء ثيابها:
|