9- الوحش الضاري
أفاقت لين مذعورة على صرير باب غرفتها يفتح ورأت رادولف يطل برأسه فسارعت إلى القول:
_ ادخل فأنا بخير ولم أعد بحاجة إلى النوم. كم السعاعة الآن؟
_ الواحدة ظهراً. كيف تشعرين؟
استنتجت لين من ملامح وجهه أن بوريل لم يأت بعد.
_ صرت أحسن بكثير فالصداع اختفى والحمد لله.
_ أتستطيعين تناول الطعام؟
_ أعتقد أن فكرة الأكل صائبةةجداً. ماذا لدينا اليوم؟
_ لدينا بعض السمك المشوي.
_ هل تعد قائمة بما تستعمله لتسدد ثمنه لصديقك؟
أجاب ال7غجري مبتسماً:
_ لا ، فصديقي لا يعرف ماذا يملك لكثرة غناه.
_ ألن تستطيع التخلي عن عادة السخرية هذه؟
_ ألن تتخلي أنت عن عادة طرح الأسئلة مادمت تعرفين طريقة إجابتي عليها؟
_ يالك من لغز محير! اكتشفت أنك ذو شخصية مزدوجة.
_ بلله عليكِ أخبريني عن هذا الإكتشاف العظيم!
_ أنت مثلاً تتحول من حمل وديع إلى وحش مفترس!
_تحسس الجرح الذي لا تزال آثاره ظاهرة في وجنته وقال:
_ وحش مفترس! لقد قدتني بتصرفاتك الخرقاء إلى أفعال ما كنت أتصور أني سارتكبها يوماً.
ارتبكت لين لانها لا تستطيع كتم شعورها بالذنب كلما رأت ذلك الجرح في وجه رادولف ، وأن يكون ذلك الشعور لا يعني أن الغجري لا يستحق الضرب... لا بل يستحق أكثر!
_ أتريد مناقشة الإقتراح الذي تكلمت عنه؟
لم يجب على الفور بل نظر إلى ساعة الحائط من تأخر بوريل في الوصول.
_ سنبحثها بعد ذلك بعد أن تستقر أوضاعنا.
أيقنت لين أن لا جدوى من متابعة الموضوع ماذام رادولف لا يرغب في إطلاعها على شيء. ماذا عنى بإستقرار أوضاعنا؟ تنهدت معلنة فشلها في حل ولو جزء صغير من اللغز الكبير الذي يحيط بالغجري ذي الشخصية الغريبة.
_ أحياناً عندما تتكلم ، لا أراك غجري يا رادلوف!
_ ومع ذلك أنا غجري ابن غجري.
تفحصت لين عينيه السوداوين التين تعلمت قراءة ما فيهما من أحاسيس: الغضب والحنان ، الندم ، الأسف والحزن العميق أما في هذه اللحظات بالذات فتقرأ فيهما تحدياً كأن رادولف ينتظر منها أن تحاول انكار كونه غجرياً. انه يعلم ما يدور في فكرها من أسئلة محيرة ، لكنها تجاوزت التحدي وقالت:
_ ما سبب بقاءنا هنا ليلة أخرى؟
كانت تعلم أن السبب هو رغبة رادولف بلقاء بوريل ، وبالفعل لم يخيب زوجها ظنها عندما أجاب:
_ أنا أنتظر شخصاً هنا.
تظاهرت لين بعدم معرفتها ذلك فتعجبت وقالت:
_ تنتظر رجلاً أو امرأة؟
_ أنتظر رجلاً.
_ عجبت حقاً أنك تستضيف زواراً في هذا المكان!
قالت لين ذلك وعيناها تنظران إلى الأرض مخافة أن تفضحاها.
_ لا يفاجئني ذلك يا عزيزتي فهناك الكثير من الأمور التي تعتبرينها غامضة. وأعدك بأنها ستتوضح عندما أطلعك على خطتي.
ماذا حدث لصوت رادولف الآمر؟ لماذا هذا الإرتجاف الذي يخفي خوفاً من أن ترفض لين اقتراحه.
_ ما تفعله مجرد تسكين للألم وتأجيل للمشكلة ن فأنا ضقت ذرعاً بهذه الأسرار!
_ الخطأ خطأك... لو لم تعتبريني حثالة المجتمع لما حصل كل ذلك.
لم تعرف لين كل هذه المرارة والحزن في صوته قبل الآن ، ولم تر شفتيه مرتعشتين ويديه ترتجفان. ثقته الكبيرة بنفسه لم تفلح في إخفاء توتره وانفعاله وكأن مستقبله معلق على ما سيحدث في الساعات القليلة المقبلة.
- من جهتها حافظت لين على هدوئها وتكلمت يدفعها الحب المسيطر على جميع تصرفاتها وأقوالها:
- _ ألم يخطر ببالك أني غيرت رأي فيك؟ لقد قلت ذلك تحت تأثير الصدمة والهلع! أي انسان يقول أشياء ثم يندم ، كما يفعل أشياء ثم يندم.
كانت تشير بكلامها إلى غلطتها المشتركة ، غلطتها في وصفها له بحثالة المجتمع ، وغلطته في ضربها وارعابها. لا ريب في أن رادولف نادم على استعماله العنف أنه لن ينسى ما فعلت يداه بسهولة.
_ راجعت ضميري مراراً بشأنك. أقر بأن عندك ازدواجية في الشخصية وأن فيك جانباً سيئاً ذكرته مرة ولكنك تملك تملك جانباً حسناً لا أنكر إعجابي به.
منتديات ليلاس
تبع ذلك سكوت تام ، سكوت دهشة بحث خلاله رادولف عن عيني زوجته ليفهم أكثر . ولكنها هربت من نظراته لا تكاد تصدق ما تفوهت به. كانت على وشك الإعتراف بحبها لا بل هي فعلت بطريقة غير مباشرة . إذ لا مفر من كون رادولف فهم ذلك من قولها هذا وتصرفاتها في المدة الأخيرة. أحست لين بالإنكسار لأنها لم تستطع مقاومة الحب الذي نما في داخلها تجاه هذا الرجل. رغم أن لقاءها به حفل بالذعر والخوف. ورغم أنها تأبى فكرة العيش زوجة لغجري. جماله البدائي وطبيعته العفوية المتسلطة سيطرا على كيانها كالقدر المحتوم. ولم تنجح في الإفلات من قبضتهما ونزعتهما الإستحواذية.
عندما نظرت إليه أخيراً شعرت أن الأمر قد فصل ، وأنها مستعدة للمضي حتى النهاية ولتسليمه الدفة ليقودها حيث يشاء. قبلت بالعيش مع الغجر مهما كان رادولف ومهما فعل. وأدركت ارتباطها به ليس مءقتاً كما تصورت. بل نهائياً.
أخذ الغجري يهز رأسه غير مصدق ماسمعت أذناه.
_ إذا صح ماتقولين يا لين فهناك أمل كبير لنا!
ظهر للين عبئاً كبيراً نزل على كاهله لما تكلم ، وأن آفاقاً جديدة فتحت اماما عينيه. أيحبها رادولف؟ أيمكن أن يتخلى عن مجتمعه الغجري وأهله من أجلها؟ أمن الممكن أن يعيشا حياة طبيعية في منزل صغير ويتخذ رادولف مهنة شريفة يرتزق منها ويربي أولادهما تربية صالحة؟
_ لين ، أتعنين ما قلتِ حقاً؟ ألن تحاولي الفرار والرحيل عني؟
لم يدم ترددها طويلاً وسرعان ما منت عليه بأحلى ابتسامة وقالت بصوتها الحنون:
_ أعني كل حرف خرج من فمي. لن أتركك أبداً.
توقف الكلام عند هذا الحد. وأظهر الزوجان ارتياحاً بعد أن لا حت بشائر الأمل بحياة سعيدة و مديدة وأن يكن الأمر بحاجة إلى التفاصيل البسيطة...
كانت عقارب الساعة تشير إلى الرابعة بعد الظهر لما رن جرس الهاتف. ترك رادولف الرسائل التي كاهن يكتبها وأسرع ليجيب على المكالمة.
رأت المرأة زوجها ينفعل ، يتجهم ، ويمتلىء غضباً عارماً. ثم يقول بصوت مخنوق:
_ هل ماتت؟ لم تمت ولكنها بحالة خطيرة؟ يجب أن أعثر عليه قبل رجال الشرطة. يا إلهي لماذا لم يأت هذا الغبي إلى هنا كما كان ينوي!
تملكها خوف شديد لا تعلم سببه وهي تراقب زوجها يستمع إلى محدثه بقلق عميقز وعلمت ما سيقوله بعد أن أقفل الخط.
_ علي الخروج لبضع ساعت يا عزيزتي. أرجوك لا تطرحي علي أسئلة لن الوقت ليس لصالحي. لا خوف عليك من البقاء هنا وإذا شءتش أرسل لكِ السيدة وايت لتعتني بك في غيابي.
_ أأستطيع مرافقتك؟
_ لا يا لين فأنا لا أريد اقتحامك في هذه المشكلة.
قالت له أنها ستكون بخير وبإنتظار عودته على أحر من الجمر.
_ أرجو أن أتمكن من العودة خلال الليل. وعلى كل حال سأكون هنا صباح الغد كحد أقصى.
طبع قبلة ناعمة على جبينها وأضاف:
_ سيكون كل شيء على ما يرام بيننا قرباً يا ملاكي.
بعد ثوان انطلق بالسيارة بسرعة فنهبت الأرض نبهاً مرسلة سحابة من الغبار إلأى الفضاء.
جلست لين وحيدة تحدق في البحر الأزرق الهادىء المتلألىء تجت قرص البحر الأحمر وليس لديها سوى أفكارها وتساؤلاتها تؤنس وحدتها. من يكون بوريل هذا؟ لا ريب في أنه شخص مهم بالنسبة إلى رادولف وأنه ارتكب عملاً خطيراً يعرضه لمطاردة العدالة.
_ تنهدت بعد أن تعبت من التفكير وقالت بصوت عال:
_ لماذا أتعب راسي بهذه الأمور مادمت لا أعرف خيوط الحقيقة؟
تدريجياً بدأ الغسق يلف الدنيا ملوناً البحر بستار رمادي. والجبال بوشاح قرمزي ناعم. قررت لين أن تقوم بنزهة بعد العشاء الخفيف الذي تناولته. وبعد عودتها تمددت على كرسي مريح في غرفة الجلوس المضاءة بنور شاحب يضفي عليها جواً شاعرياً يحتاج إلى وجود رادولف ليكتمل! تمنت أن يكون لها يوماً بيت كهذا تعيش فيه مع من تحب ، ولربما تحققت أمنيتها متى عثر رادولف على وظيفة محترمة.
شغلت المرأة نفسها بقراءة بعض المجلات حتى لا تشعر ببطء الوقت وثقل الوحدة. كما استمعت إلى موسيقى ناعمة تبث بواسطة مكبرات للصوت منتشبرة في جميع غرف المنزل.
في حوالي العاشرة أوت إلى فراشها بعد أن استبعدت عودة رادولف وما لبثت أن غفت على صوت حفيف الأوراق تتصادم بفعل النسيم العليل.
أفاقت لين من غفوتها مرتعدة على ضجة خفيفة فجلست في سريرها صامته ، تاركة النور مطفأ. ولما تكرر الضجة خفت من جديد ولكن لدقائق قليلة فقت إذ سرعان ما فتحت على صوت الباب يفتح. ربما عاد رادولف ولم يشأ إزعاجها فدخل لينام في غرفة أخرى. همت لين بالنهوض لملاقاة زوجها ولكنها عدلت كي لا تزعجه إذ لا شك في أنه مرهق جداً ، ومحتاج للوحدة لإستجماع أفكاره ولتقاط أنفاسه. بامكانها إنتظار طلوع النهار حتى تعرف منه الحقيقة التي وعد بكشفها حالما ينتهي من مهمة العثور على بوريل.
أضائت لين المصباح الكهربائي الموضوع قرب سريرها ونظرت إلى الساعة: الثالثة فجراً. لو كان معها كتاب تطالعه لأضاعت الوقت حتى تبدأ الشمس بالشروق وتطرد ظلام الليل الطويل. أتذهب إلى غرفة الجلوس وتحضر كتاباً من الكتب المرصوصة على امتداد الجدران؟ تخلت لين عن هذ الفكرة مخافة إزعاج زوجها ، فأطفأت النور وعادت إلى النوم.
استيقظت لين في الخامسة وقررت الانتظار ساعة حتى تنهض لأن رادولف أوى إلى سريره متأخراً. فلا ضرورة لإيقاذه في هذا الوقت الباكر. وأمضت وقتاً طويلاً تحت الماء الساخن تنعش جسمها. جلست أمام المرآة تتزين استعداداً للقاء رادولف على أمل أن تكون مهمته انتهت على خير وتبدأ صفحة جديدة في حياتهما. بعد أن تأملت وجهه جيداً في المرآة وجدته مرضياً برنسا أبيض وخرجت إلى المشي تبحث عن الغرفة التي يحتلها رادولف.
في تلك اللحظة فتح إحدى الغرف فاستدارت لين مبتسمة... ولكن الإبتسامة لم تطل لما رأت المرأة وجه الغجري.
ماذا حل به؟ عادت إلى وجهه إمارات القسوة والوحشية التي طالعها بها في ذلك اليوم الذي لا ينسى حين حاول الإعتداء عليها...
همست لين في ذهول:
_ رادولف...ماذا...
منتديات ليلاس
صدمت عندما رأت القميص مفتوحاً عن صدره يغطيه شعر أسود كثيف. أكثف مما عهدته فيه! رفعت عينيها إلى وجهه ووضعت يدها على فمها لهول المفاجئة: من أين أتى بهذه النظرات الرهيبة ظهرت أمامه خيالات اسطورية!
_ رادولف أنت تخيفني...
كان مظهره كمجنون خطر وظنت لين أن الجانب الشرير طغى مرة أخرى على شخصيته المزدوجة وأن رادولف الذي تعرفه... ولكنها ما لبثت ان ابتعدت أكثر من ذلك وأدركت أن هذا الرجل ليس زوجها!
توضحت الصورة أمام عيني المرأة بسرعة البرق. فهذا الرجل هو بوريل الذي يبحث عنه رادولف ، وهو لالطبع الشقيق الذي حدثها عنه زوجها حيث أغفل أن يذكرها لها أنهما توأمان!
تكلم الرجل أخيراً:
_ مالذي أتى بكً إلى هنا؟
تراجعت لين خائفة تبحث عن بابا غرفتها لتقفل على نفسها هرباً من هذا الغجري الشرير. وكان هلعها شديداً فانعقد لسانها ولم تستطع التفوه ولو بكلمة واحدة. كرر الرجل سؤاله وهو يقترب منها ببطء لسوء حظها وجدت نفسها تصدم بالجدار بدل أن تقودها قدماها المرتجفتان إلى الغرفة. فجحظت عيناها وفغرت فاها في فزع رهيب عاجزة عن الحراك.
_ رادولف... يبحث عنك...
ارتسم على شفتي الرجل ما ظننته لين ابتسامة وقال بخبث:
_ سمعتى أن أخي تزوج ، فأنت ولا شك الزوجة المحظوظة.
_ أصبت.
_ يال للصدفة! وأنا كدت أنال منكِ في الغابة لولا تدخل ماندا لإنقاذك!
أطلق بوريل ضحكة شريرة وأضاف.
_ يالسخرية القدر كدت أعتدي على زوجتة أخي!
مرر أنامله الطويلة في شعره الأسود الكثيف فزاد شكله غرابة واقتراباص من الجنون.
_ لكن ماندا لن تستطيع انقاظك الآن سأصيب عصفورين بحجر واحد. ألهو قليلاً وأنتقم من أخي المحترم بعد كل الذي فعله معي.
بدأ بوريل مستعداً للإنقضاض على فريسته الضعيفة ولين عاجزة عن الحركة بعد أن خانتها شجاعتها ولم تعد تقوى على الصراخ. مرت في مخيلتها صور كثيرة ففهمت تقريباً كل ماحدث. حدقت في وجه الغجري جيداً وأيقنت أن الرجل الذي هاجمها عندما تعطلت سيارتها ليس نفسه لذى قابلته في الغابة على الجواد! لا سيما وأن بوريل يحمل أثر جرح عميق في مفرق شعره ظهر واضحاً عندما مرر يده فيه. آه لو أنها انتبهت لهذا الجرح لكانت وفرت على نفسها وزجها الكثير من الآلام والأحزان! وفهمت إلى الآن لماذا يشير رادولف إلى الحادثة الثانية لما كانت تكلمه عن الأولى! فكيف له أن يتذكر الأولى وهو لم يكن طرفاً فيها!
أمر رادولف بلهجة مفزعة:
_ اقتربي مني يا امرأة! تعالي لأرى هذا الجمال عن قرب. لا بد أن شقيقي المليونير يقدم لكِ ما ترغبين من الثياب ، أما أنا فلا أملك سوى نفسي أقدمها!
تبع ذلك ضحكة هستيرية ملأت أرجاء المنزل وأشعرت لين أن أذنيها ستنفجران.
_ لنأمل يا حلوتي أن يطول غياب رادولف حتى أتمكن من اللعب معكِ على مهل.
مد يده السمراء نحو لين فصارت المرأة على حافة الإغماء. ولما انقض عليها بدأت بمقاومته بكل ما أوتيت من قوة . كان لبوريل قوة ثور هائج ، لكن يأس لين دفعها إلى الصمود وهي تنتظر وقوع معجزة ومجيء زوجها لينتشلها من براثن شقيقه المتوحش. ولكن زمن المعجزات ولى وشيئاً فشيئاً بدأت قواها تخور وعزمها على المقاومة يضعف إلى أن هدأت تماماً وتمددت خائرة القوى على الأرض. حملها بوري إلى كنبة في غرفة الجلوس ، دبت فيها قوزة مفاجئة فركلته على معدته وسقط على الأرض مغشياً عليه بعد أن ارتطم رأسه بحافة المقود. كان هذا آخر مشهد تذكرته قبلما تفقد الوعي بعد ذلك...