وكان ماسوي في مزاج رئق , على ما بدا من بذله الجهد في أعداد طبق لذيذ من الطعام مؤلف من اللحم والخضار , وبعد الأنتهاء من تناول الطعام قال ستيف لسارة:
" ليتك تهيئين لماسوي قائمة بأطباق الطعام التي يمكنه أن يتقن طهيها , بذلك تسهل الحياة هنا وتستحق أن تعاش.
فقالت له سارة:
" لم أكن أعلم بأمك تهتم بالطعام الى هذا الحد... فلا والدي ولا تيد يباليان بما يأكلان".
وقال تيد:
" كيف للشحاذين أن يختاروا بين هذا اللون من الطعام أو ذاك ! ".
ونهض على قدميه مستأذنا بالأنراف الى غرفته للنوم باكرا ..... وساد الصمت بعد ذهابه , كانت سارة جالسة ورأسها يستند الى ظهر الكرسي , تراقب النجوم التي كانت تلمع بين الغيوم , وكانت القرود في هرج ومرج بحيث أغرقت أصواتهم كل صوت آخر , وفكرت سارة أن نيروبي على كونها مدينة مدينة ممتعة من حيث الطمأنينة والصفاء , فجذوة عاطفتها نحو ستيف ستخمد مع الأيام , ولكن جزءا من حياتها سيبقى هنا في كامبالا.
وقالت لستيف:
" أشعر بالتعب , فالأفضل لي أن آوي الى فراشي".
فأجابها متهكما:
" الساعة لم تبلغ العاشرة بعد , ولكنني لا أستغرب أن تعودي الى عاداتك القديمة , حين لم يعد الآن أحد تحاولين التأثير عليه......".
وكان في نبرة كلامه هذا ما جعلها تقول له بخشونة:
" العادات تتغير بسهولة أكثر مما يتغير الناس....".
قال لها منتقدا:
" كنت فيما مضى مستقيمة في آرائك وتصرفاتك , أما الآن وقد تعلّمت شيئا من أساليب الحياة المتمدنة فأنك أصبحت كسائر بنات جنسك".
فقالت له:
" هذا ما أرجوه !".
ونظر ستيف اليها نظرة سريعة وقال:
" قد تكونين على حق .... والآن دعينا نفسح مكانا للسلام بيننا ".
وفكرت سارة أن هذا الهدف أذا تحقق فلن يدوم طويلا , والدليل على ذلك ما جرى بينهما في الدقائق الأخيرة , فكلما تحدّثا معا تكررت المعركة الكلامية نفسها , فعلى من اللوم ؟ لم تكن تدري , ولكن المهم أنهما هي وستيف لا ينسجمان الواحد مع الآخر.
وسألت ستيف قائلة:
" ماذا ستفعل بخصوص تيد؟".
فأجابها بغموض:
" ماذا ينتظر مني أن أفعل؟".
فقالت وقد ندمت على أنها فتحت هذا الموضوع في تلك المناسبة :
" تيد يظن أنك تنوي أستبداله".
" أهكذا يظن؟ أذن , فأنت تستعدين للدفاع عنه".
" كلا , فهو لا يحتاج الى من يدافع عنه , كل ما في الأمر هو أنني أعتقد أن من حقه معرفة مصيره...".
" نعم , من حقه هو أن يعرف لا أنت..... الى أن يخبرك هو بنفسه".
وكان ستيف مصيبا في موقفه هذا , ولكن ذلك لم يكن يقدم أو يؤخر في ردة فعل سارة التي لم تكن تتفهم هذا الجانب من الموضوع , فلا عجب أذن أن تجيبه ببرودة:
" أنا آسفة لأضطراري الى تركك تكمل السهرة وحدك".
ونهضت متجهة نحو الباب , ولكنها ما أن بلغته حتى صاح بها ستيف قائلا:
" هناك حد لطاقة الأنسان على الأحتمال , وطاقتي بلغت هذا الحد , وكنت آمل أن نتوصل الى التفاهمفي غضون الأسبوع القادم , والآن تبيّن لي أن أملي بعيد التحقيق .....ولعلك أذا أقلعت عن محاولة إيجاد نقص في كل ما أقوله , فذلك يكون خيرا لنا".
وغالبت سارة رغبتها في إلقاء كل تحفّظ جانبا والأرتماء بين ذراعي ستيف ملتمسة منه أن يدعها تبقى في كامبالا , ولكن كيف تنتظر منه أن يفهمها في حين أنها لا تفهم نفسها؟ كانت تحبه , ولكنها كانت في الوقت نفسه تشعر برغبة جامحة في مهاجمته وجرح شعوره.
قالت له:
" أظن أنك على حق في قولك أن الأمل يبدو ضئيلا".
فلم يجبها بشيء وهي تخرج من الباب الى الداخل.
وما أطل الصباح حتى كانت سارة توصلت الى قرار , أن أستمرار العلاقة على ما هي عليه بينها وبين ستيف أسبوعا آخر أمر لا يمكن أحتماله , ولذلك رأت أنه خير لها ولستيف معا أن تتنقل الى الفندق في نيروبي بأنتظار موعد سفر الباخرة.
على أنها عزمت أن لا تخبر ستيف بخطتها هذه , فهو ولا شك سيمنعها عن تحقيقها , فالأفضل أذن أن تعد العدة لمغادرة المنزل سرا.
وكان ستيف ترك المنزل حين خرجت الى الشرفة , ولكن تيد أنضم اليها وشاركها في تناول طعام الفطور , وكان مرحا في ذلك الصباح كعادته في سالف الأيام , وقال لها:
" أراك أكتسبت عادات سيئة في غيابك ...... فأنت عادة تبكرين في النهوض صباحا ".
فأجابته سارة :
" كنت تعبة من السفر , وقبله من السهر المتواصل في المدينة ".
ونظرت اليه عبر المائدة وقالت:
" هل فكّرت في مما أخبرتني به الليلة الماضية؟".
فهز رأسه وأبتسم قائلا:
" كنت كمن يجتاز الجسر قبل الوصول اليه ...... فبناء على كلام ستيف هذا الصباح سأبقى في وظيفتي هنا وقتا طويلا , وقد يزداد تفاهمنا الآن بعد أن أصبح مديرا دائما".
وهمّت سارة بالقول أن ستيف ليس مديرا دائما , ولكنها أحجمت عن ذلك للأنها لم تكن تعلم حقيقة الأمر , هل هو مدير مؤقت أم لا؟ حتى ستيف نفسه لم يكن متأكدا بعد , وتساءلت أذا كان ستيف حدّد لنفسه وقتا لمعاودة الحوار معها , أم أنه ينتظر أن تبدأ هي بالحديث معه عن إيجاد قاسم مشترك بينهما.
وشرعت سارة بترتيب حقائبها وحزم أمتعتها بعدما تناولت طعام الفطور , وطلبت من نجورجي أن يأتيها بصناديق فارغة لتعبئة كتب والدها وأوراقه الخاصة , وما أن جاءت الظهيرة حتى كانت الرفوف خالية , والغرفة عارية إلا من بعض الصور المعلقة منذ سنين على جدرانها وبعض البسط الجلدية العتيقة التي لم تتصور سارة أن مولي سترضى بأستعمالها , فضلا عن الستائر وأغطية الوسائد.
منتديات ليلاس
وفيما هي راكعة على ركبتيها تنظر في كدسة من الأسطوانات , دخل ستيف عائدا من عمله في الساعة الرابعة , ووقف في الباب يجيل النظر في الصناديق المليئة بالكتب والأوراق , ثم قال لها:
" يا لك من فتاة مجتهدة ! ولكن كيف ستقضين ما تبقّى من الأسبوع؟".
فأجابته من غير أن تتطلع اليه:
" لم أنتهي من عملي بعد .... هل تحتاج هذا الفونوغرافلأتركه لك؟".
فأجابها قائلا:
" لماذا لا ؟ فهو يساعدني على ملء الفراغ حين لا يبقى عندنا , أنا وتيد , ما نتحدث به ". ثم تقدّم الى داخل الغرفة:
" تتهيأ القبيلة للرحيل في الصباح , فأذا شئت أن تودّعي مغاري وزوجاته , فأنا مستعد أن آخذك بالسيارة الى هناك".
أجابته قائلة:
" هم لا يحبون الوداع !".
كما تريدين".
قال ذلك بنبرة لامبالية , فهو قد حاول أن يقوم بواجبه , وهذا كل ما كان يهمه من الأمر , وبعد قليل خرج من الغرفة.
وما أن جاءت ليلة الأحد حتى كانت سارة أنهت كل ما كان عليها أن تفعله , فالصناديق كانت مقفلة ومعنونة ومهيأة للشحن على متن الطائرة المسافرة يوم الجمعة.
وكانت تلك الليلة طويلة لا تحتمل , فبعد تناول طعام العشاء حاولت أن تطالع كتابا , غير أن الكلمات كانت تقفز أمام عينيها , وكان في وسعها أن تسمع صدى الحديث الذي كان يتجاذبه ستيف وتيد على الشرفة , ولكنها لم تشعر بميل الى الأنضمام اليهما خوفا من أن تفضح أمرها بكلمة أو أشارة.
وفكرت سارة أن تلك هي المرة الأخيرة التي تجلس فيها هكذا في هذه الغرفة وتسمع الأصوات المألوفة التي تهيم هناك خارجا في الظلام , فغدا في مثل هذا الوقت تصل الى نيروبي وتنزل وحدها بالفندق لقضاء أربعة أيام أخرى , ولكن أي شيء على الأطلاق كان في نظرها أفضل من البقاء هنا في كامبالا.