1- فتاة البراري
تمدّد التمساح ونصفه غارق في الوحل فبدا كجزيرة مرقّطة بالأخضر والأحمر الداكن , بحيث أنسجم أنسجاما تاما مع ألوان الضفة وراءه , ولكن سرعان ما عادت اليه الحركة على وقع حصاة في الماء , فزحف الى الأمام يسحب في مؤخرته ذنبا صلبا تخال أن لا نهاية لطوله , وأما سارة التي كانت ترمقه من بعيد , فقدّرت طوله بست عشرة قدما , كان أطول تمساح رأته في حياتها......
وأنحدرت سارة بعيدا عن الموضع الواطىء الذي تحجبه ستارة من الأعشاب , وأخذت تنفض بيدها التراب وما علق على قميصها وسروالها من نفايات الأرض , ثم جلست قليلا تنظر الى أعالي سفوح مارا الزرقاء اللون ومنها الى السهول الواسعة الممتدة الى الجنوب , وكان المازيون يحرقون العشب مرة أخرى كأمر ضروري يسمح للكلأ أن ينبت من جديد , غير أن ذلك لم يكن يخلو من الخطر أحيانا لقربه من الطريق , فقبل أسبوع أضطر والد سارة أن يعود الى مقر عمله عبر العشب المحترق فكاد الدخان يصيبه بالأختناق , أما اليوم فكانت الريح لحسن الطالع تهب من الجهة الأخرى.
وكان والدها في تلك اللحظة على متن طائرة متجهة الى أنكلترا ,ولولا وفاة أخيه الوحيد على حين غرّة لما عاد الى بلاده , أما هي فلم يكن عمرها يزيد على الثامنة حين أنتقلت عائلتها الى شرقي أفريقيا , فهي لذلك لا تذكر ألا القليل عن مسقط رأسها , وكان لدى العائلة رغبة في قضاء عطلة سنة هناك غير أن ذلك لم يخرج الى حيز التنفيذ , وبعد أن توفيت والدتها وهي في الثانية عشرة من عمرها لم يعد حتى لتلك الرغبة من وجود , ثم بلغ من أهتمام والدها بعلم أثر البيئة في الحيوان والنبات أنه أحتل منصبا في مصلحة صيد الحيوان , وكانت سارة لا تزال على مقاعد الدراسة حين أسندت الى والدها أدارة مركز كامبالا في المساحة المخصصة للصيد من مقاطعة مارا- مازاي , فكان على سارة أن تنتظر ستة أشهر قبل أن تتمكن من الألتحاق بوالدها.
وكانت سارة تبتسم كلما تذكّرت تلك الأيام التي كانت لا تزال فيها طرية العود , غير مستعدة بعد لأستيعاب كل ما أنطوت عليه الحياة هناك من خبرة وتجربة , أما الآن بعد مرور ثلاث سنوات على ذلك , فلا تزال تلك الحياة تأسرها , وأن كان الرعب منها تحول الى تقدير , فالزمن في ذلك المكان زمن ضائع , والحس من الرهافة بحيث جعل كل مشهد وكل صوت على قدر من الشفافية لم تعرف له مثيلا في أي مكان آخر , وخلال تلك السنوات الثلاث لم تقطع ذهابا وأيابا مسافة الأربعمئة ميل التي تفصلها عن نيروبي العاصمة ألا مرة واحدة ,ولم يكن لديها الرغبة أن تعاود الكرة الآن على الأقل , وأرتضت أن تقضي أيامها في تلك الديار على هذه الوتيرة.....
كانت الشمس تسرع الى المغيب وعلى سارة أن تعود الى منزلها , أخبرت تيد أنها لن تغيب أكثر من ساعة , ألا أنه لم يقلق عليها أذا تأخرت في العودة قليلا , فهو كوالدها يثق بأنها أصبحت تعرف كيف تتجنب المخاطر......
تناولت سارة البندقية الملقاة على العشب بجانبها ونهضت واقفة على قدميها , وكانت قد أوقفت سيارة اللاندروفر على طرف الغابة عند ضفة النهر , فسارت اليها عبر الطريق الضيق الذي دخلت منه , ثم مالت عنه بحذر الى الطريق العام , وسرّها أنها رأت ما جاءت لتراه , وهو ذلك التمساح الذي يعد أكبر التماسيح التي شاهدها كيماني حتى الآن , على الرغم من أن تيد يزعم أنه رأى واحدا يقارب طوله العشرين قدما.
وأقبل في الطريق أثنان من المازيين العائدين الى القرية وهما يدوسان الأرض بخفة , فبادرتهما سارة تحية الود المعتادة ومرت بهما , وخطر لها أن تذهب الى القرية في الغد لأن زوجة مغاري الثالثة لا بد أن تكون ولدت طفلها الخامس أو ربما السادس على الرغم من أنها لم تتجاوز مثلها التاسعة عشرة , وكان كيماني قد قال منذ بضعة أيام أن القبيلة ستفكر عما قريب بالرحيل مرة أخرى لأن المراعي في تلك الأنحاء بدأت تنفذ , ولم تكن سارة تريدها أن تنزح , ولكنها تدرك أن ذلك أمر لا مناص منه , فقبيلة مازي من البدو الرحل , ولذلك كان من عادتها أن ترحل من مكان الى آخر طلبا للرزق والكلأ , وحين تفعل ذلك تترك أكواخها للخراب وتبني أكواخا جديدة حيث يطيب لها المقام , كان هنالك على بعد عشرة أميال من السفوح أكواخ من هذا النوع عفا عليها الزمن قبل مجيء سارة.
كان الطريق العام يتشعّب في آخره الى طريقين ,واحد يتّجه يمينا نحو السفوح والآخر يهبط وسصعد شمالا فوق مرتفع واطىء نحو الغابة , وأختارت سارة الطريق الثاني , فسارت فيه بحذر نظرا الى كثرة الجذور الظاهرة على سطح الأرض , وحدث لها مرة أن علقت أحدى عجلات عربتها في تلك الجذور فأضطرت الى الأنتظار ساعة كاملة فيما قطيع من الأفيال يرعى على بعد مئتي قدم منها , على أنها لم تشعر بالخطر يتهددها , ذلك أن الريح جرت كما تشتهي , والفيل كمعظم الحيوانات لا يتخوف من عربة واقفة لا تتحرك , كان أمام سارة ساقية من الماء متفرعة من نهر مارا الذي كانت تراقب فيه ذلك التمساح , والطريق الذي أتخذته كان بمحاذاة الساقية على مسيرة بضع دقائق , ثم ينحرف الى الوراء ليدخل مرة ثانية في الغابة قبل أن يخرج الى متسع من الأرض يمتد صعدا الى جرف عال يحصن كامبالا من الوراء......
وحين شاهدت سارة مركز الأدارة لأول مرة لم تعجب كثيرا ببيوته الخشبية المتفرقة ذات الشرفات العريضة الظليلة والأثاث العتيق ,ومنذ ذلك الوقت لم يتغير الا القليل , فلم تزل البيوت هي نفسها وكذلك السور المضروب حولها من الأسلاك الشائكة , أما المأوى الذي أنشأته بمبادرتها الخاصة فلم يكن يضم آنئذ سوى غزال صغير وجده كيماني بجانب أمه بعد أن فارقت الروح في الغابة على الأقل كان القصد من وراء ذلك , غير أن الغزال الصغير لم يلبث أن أخذ يتبع سارة كظلها حتى خيّل أليها أنه سيفضّل الأنضمام يوما الى قردها كيكي كحيوان داجن على العيش في البرية..........
وفيما هي غارقة في التفكير , وقد وصلت الى مقربة من البيت , أدركت فجأة أن سيارة اللاندروفر المتوقفة عند أسفل الدرج لم تكن من سيارات مركز الأدارة , على الرغم مما ظهر على جانبها من كتابة تشير الى أنها تخص مصلحة صيد الحيوان , فالمصلحة على ما يبدو أرسلت من ينوب عن والدها في أدارة المركز الى أن يعود , وكانت سارة تتوقع ذلك وتأمل أن يكون الذي ينوب عنه هو بروس مادن الذي تعرفت اليه في نيروبي فأعجبت به.........
كانت سارة وصلت الى منتصف الدرج حين سمعت صراخا أرعبها ,, وبعد لحظة أطل كيكي من الباب وقفز الى حضنها , ثم أعتلى كتفها وراح يداعب شعرها بيده ويضم علبة سكاير باليد الأخرى , ولحق به في الحال رجل بثياب العمل ما أن رأى سارة حتى وقف فجأة وأخذ يحدق اليها بعينيه الرماديتين , ثم سألها قائلا:
" هل أنت أبنة ديف ماكدونلد؟".
وكان في لهجته ما جعلها تشعر بقشعريرة , فأجابت:
" نعم , وأذا كنت هنا لترى والدي , فهو قد سافر الى أنكلترا البارحة".
فقال الرجل:
" أعرف ذلك , أما الذي لا أفهمه فهو لماذا لم ترافقيه , خصوصا وأنه لم يذكر شيئا عن بقائك هنا".
" قررت أن لا أسافر , وأنا لا أظن أن أبي رأى سببا يجعله يخبر المكتب الرئيسي أنني سأبقى في البيت , هل تنتظرون قدوم بروس مادن؟".
فرفع حاجبيه ببطء وقال:
" كلا , أصيب بحمى الملاريا فدخل المستشفى , أنا ستيف يورك".
وألقى نظرة على السيارة التي نزل منها منذ حين وقال لها:
" هل كنت في البرية وحدك؟".
فأجابته:
" نعم , وهل في ذلك خطأ؟".
قال ستيف:
" كل الخطأ , ففتاة في مثل سنك تعرض نفسها للخطر أذا هي أخذت وتمرح في منطقة الصيد , وعلى والدك أن يدرك ذلك , ألا أذا كنت بعملك هذا أغتنمت فرصة غيابه".
" كلا , لم أغتنم أية فرصة , ثم أنني لم أعد فتاة صغيرة".
قالت سارة ذلك وقلبها يزداد خفقانا , أذ خشيت أن يكون عليها وعلى العاملين في المركز أن يتحملوا ههذا الرجل الذي أرسل ليحل مكان والدها لمدة ستة أسابيع , تفحصته من وراء جفونها فتبينت لها كتفاه العريضتان تحت قميصه الخشن , وصلابة جسده النحيل الطويل القامة وملامح وجهه الأسمر , وشعر رأسه الكتسنائي المنسرح , وتساءلت كم يكون له من العمر : 32-33؟ فهو لا يمكن أن يكون أكبر من ذلك سنا , نظرا الى نبرة صوته الصارمة الحازمة , ولا يمكن أن يكون متقدما في السن الى عمر يكتسب فيه الخبرة التي يمتلكها والدها وبروس مادن.
وأدركت سارة فجأة أنه هو أيضا ينظر اليها كمن ينظر الى شيء ممتع , فشعرت بالأحمرار يصعد الى خديها , هل كانت أفكارها وخواطرها من الوضوح بحيث سهل عليه أدراكها ؟ على أنها سارعت الى سؤاله قائلة:
" هل ألتقيت تيد ويليس؟".
فأجابها ستيف:
" لم ألتق أحدا بعد بأستثناء الخادمين اللذين في منزلك , فلم يمض على قدومي أكثر من ساعة , ولكن ليتك تخبريني أين الباقون؟".
فقالت له سارة:
" كيماني تكوجي يطارد لصوصا كانوا يصطادون خلسة في غابة الصيد الخاصة بالمركز , وقد أصطحب أربعة من الرماة , وأما الآخرون فهم يقومون بنوبة الحراسة , ولا بد أن يكون تيد هنا في مكان ما , فهو لا يترك المركز من دون خفير".
قال ستيف برقة ورصانة:
" هذا ما أرجوه , ويبدو الى أن الوضع كله هنا بحاجة الى تدقيق وأنعام نظر".
رفعت سارة وجهها بحدة وقالت :
" هل لي أن أدخل الى البيت الآن بعد أن نطقت بهذه الخلاصة ؟ فأنا عطشى وبحاجة الى شربة ماء بارد".
ومدت يدها وتناولت علبة السكاير من بين مخالب كيكي , ثم وضعت القرد على الشرفة قبل أن تستأنف صعودها أعلى الدرجات , وقالت لستيف:
" أظن أن هذه العلبة لك".
فأخذها ستيف منها قائلا:
" شكرا".