5- إذا وقعت في الحب.......
وجدت سارة أن الحياة في كامبالا بوجود جيل وديانا ودون ميلسون تختلف عما كانت عليه من قبل , حتى تيد تحمّس إلى حد بعيد , فأصبح يعقد ربطة عنق وقت تناول طعام العشاء , بدل الظهور كالمعتاد بقمصانه الريحة المفتوحة الياقة , وسارة نفسها التي لم تذهب في هندامها العادي إلى أبعد من النظر بتردد مرة أو مرتين إ‘لى خزانة ثيابها , أقرّت لنفسها مكرهة بأنها تشتهي الثياب المرحة التي كانت جيل ترتديها كل مساء , وأدركت كذلك أن قليلا من الثياب نفسها لم تكن تقاس من حيث الجودة بثياب جيل.
وكان الجميع يذهبون كل يوم بسيارة واحدة تاركين تيد يهتم بأمر المركز , وكان ستيف ماهرا في العثور على الطرائد , فيشير إلى وجود ثعالب هناك إلى اليمين ,أو أسود هنالك إلى اليسار قبل أن يلاحظ وجودها أحد , وكانوا يقطعون الغابات والسهول , حتى أنهم غالبا ما إجتازوا مساحات من الأعشاب التي كادت لطولها تغطي السيارة , وفي ثاني يوم خرجوا فيه صرفوا ساعة كاملة في مراقبة قطيع كبير من الزرافات عند حافة الغابة , وكانت الزرافات تراقبهم هي الأخرى بعيون واسعة مستطلعة , إلى أن بدرت من ديانا حركة تنم عن نفاد صبرها , فولّت الزرافات هائمة على وجوهها من دون أنتظام.
منتديات ليلاس
وكان أجمل الأوقات بالنسبة إلى ديانا وقت الظهر الذي كانت تقضيه في اللودج , حيث يتاح لها أن تظهر محاسنها بطريقتها الخاصة بها , فهي بخلاف أخيها دون وجدت الحياة في البراري باعثة للضجر والملل, على الرغم من أنها تحمّلت وطأتها بسعة صدر مدهشة , وكانت سارة ترى وهي تعاينها في ثوب الأستحمام الجذاب , أنها تفرض الأعجاب الشديد رغم عيوبها , وكذلك كانت سارة على أستعداد لبذل الكثير في سبيل الحصول على ما كانت تتحلى به ديانا من ثقة أكيدة بالنفس , في ظروف أبعد ما تكون عن نمط حياتها العادي.
وخرج دون من البركة فأستلقى على العشب بجانب سارة وقال لها:
" أنا على غير ما يرام.. وإلا لماذا ينهكني التعب بعد الشوطين الأخيرين من السباحة؟ وأنت , هل تنوين النزول ثانية الى البركة؟".
" لا أظن أنني سأفعل".
وكانت عينا سارة تنظران الى ستيف وهو واقف في الطرف الأبعد إلى جانب ديانا , يضجك من نكتة قيلت بينهما , فرأت جسمه النحاسيّ اللون , المكتنز العضلات , الخالي من اللحم الزائد , وفجأة أنتقلت بنظرها الى دون وقالت له :
" حسبت أن جيل برفقتك".
فأجابها:
" كانت برفقتي إلى أن جاء ذلك الفرنسي وأنتزعها مني , وهما الآن ينحادثان وجها إلى وجه على الشرفة ويشربان القهوة ..... ولا أظن لإلا أن معرفتي باللغة الفرنسية لا تتعدى معرفتي بها يوم كنت على مقاعد الدراسة.... هل تحملين معك سكاير؟".
فضحكت سارة وقالت:
" هل أبدو كمن يحمل معه سكاير .... حتى لو كنت أدخن؟".
فتأمّلها بعين مدرّبة وقال:
" كلا , لا أظن ذلك , فما تلبسينه الآن لا يتسع لعلبة سكاير... ليتني في التاسعة عشرة الآن , حين تكون كل الحياة أمامي!".
فقالت له:
" وهل تعتقد أن الأشياء عندئذ تكون غير ما هي عليه الآن ؟".
" قد تكون وقد لا تكون , وفي كلا الخالتين لو ألتقيت واحدة مثلك لتضاعف حظي بالفوز بها..... يخيّل ألي أنك أذا وقعت في الحب فلن تخرجي منه رغم أي تأثير خارجي".
وتعمّد دون متابعة كلامه بخفة , فقال:
" هل تعتبرين سن الثلاثين متأخرة , فلا تصلح للبدء من جديد ؟".
" نادرا ما يكون الأمر كذلك!".
" كم يشجعني رأيك هذا".
ونهض دون ومدّ يده إليها ليجذبها الى جانبه وهو يقول:
" دعينا نبدّل ثيابنا ونتناول كأسا قبل أن نعود أدراجنا الى البيت".
وكانت الساعة جاوزت الرابعة بعد الظهر حين وصل الجميع إلى كامبالا , فذهبت ديانا الى غرفتها لتستحم وتبدّل ثيابها , وأما جيل فغرقت في كرسي على الشرفة وأخذت تتذمّر لأخيها عن حسن نية , فقال لها:
" أنت تتذمرين من الحياة هنا لأنني أنتزعتك أنتزاعا من صديقك الجديد الذي ألتقيته في اللودج ... كان يراودك عن نفسك وأنا أقترب منكما ... يا له من صيّاد نساء ماهر!".
فقهقهت ضاحكة وقالت:
" يبدو أن لغتك الفرنسية أفضل من لغتي ..... فأنا لم أفهم ربع الكلام الذي كان يكلمني به!".
" لست بحاجة إلى معرفة عميقة بالللغة لتفهمي ما كان يريد أن يعبّر لك عنه ....ومهما يكن , فهل من عادتك أن تفسحي في المجال دائما لكل راغب؟".
" لا , ليس دائما , وأنما حين أعرف أن حامي حماي على مقربة مني , وهو متأهب لأنقاذي مما هو أشد وأدهى من الموت , وعلى كل حال , فهنري عازم على مغادرة المكان غدا صباحا , هذا ما أستطعت أن أفهمه منه , ويبدو لي أن القادمين إلى هذه الأنحاء يستعجلون العودة .... ألا تظن ذلك؟".
فأبتسم وقال :
" هكذا يبدو.. وما عليك إلا أن تنتظري حظك من القادمين الجدد!".
فألتفتت جيل الى سارة وقالت لها:
" ما رأيك يا سارة؟ تعالي معي...... فأن نعمل معا أسلم عاقبة من أن أكون وحدي ومن يدري , فليس ما يمنع أن نصبح بقليل من الجهد ملكتي جمال الأدغال!".
فقال لها ستيف:
" سارة لا يهمها المراهقون!".
" وأنا كذلك لا يهمونني....... لا أحد يهمني تحت الثالثة والعشرين!".
وهنا قال لها دون :
" وإلى أي سن يهمونك فوق الثالثة والعشرين؟".
فرمقته جيل بنظرة عاجلة وقالت:
" لم أفكر في الأمر.... فهل من الضروري أن أفعل؟".
" نعم.... لتستقيم الحال!".
وصعد تيد على السلالم وأقبل للأنضمام اليهم ثم قال:
" كيف كان نهركم؟".
فأجابه ستيف:
" لا بأس به , هل حدث في غيابنا ما يستحق الذكر؟".
فقال تيد وهو يهم للدخول الى البيت ليجلب لنفسه كأسا:
" جرح ثور برّي أحد الحراس في ساقه , وفي أستطاعتنا أن نعالج الجرح هنا , وعدا ذلك , فكل شيء على ما يرام.... ثم أن مغاري أرسل يدعونا جميعا الى السهرة الليلة".
فسارعت سارة الى القول :
" لأية مناسبة!".
" لم يقل , ولكن ليس من الضرورة أن يكون عندهم سبب خاص لأحياء سهرة ...... أنت تعرفين ذلك.... وقد يكون أن مغاري يريد تكريم ضيوفنا ........ وسنرى حين نصل الى هناك!".
وظهر الأهتمام على ملامح جيل ودون , قال دون لستيف :
" ليتنا نشاهد رقصة قبائلية ..... هل تظن أنهم يسمحون لنا بتصوير بعض المشاهد؟".
فأجابه ستيف:
" علينا أن نستأذنهم أولا ... فسهرات كهذه شأن خاص جدا , وأنه لشرف عظيم أن ندعى الى هذه السهرة".
وألتفت الى سارة وتابع كلامه قائلا لها:
" أنت تعرفين مغاري أكثر مني.... فكيف تكون في نظرك ردة فعله على التصوير؟".
فأجابته قائلة:
" هذا يتوقف على المناسبة التي بها يحتفلون.........".
ثم قالت بعد صمت:
" أنا لم أكن أعرف أنك ألتقيت مغاري!".
" قمت بزيارته منذ نحو أسبوع لأعرّفه بنفسي , فأستقبلني بترحاب , كان حريصا على الأطمئنان عنك , مما يدل على أنك نلت حظوة عنده .....".
فأبتسمت قليلا وقالت:
" أنه رجل مرهف الذوق , ويقدّر والدي كل التقدير..... وحفلة الليلة ليست أول حفلة أحضرها هناك مع أنها قد تكون الأخيرة.... فكيماني أخبرني أن القبيلة سترحل عما قريب".
" كيماني على حق , فهم مضطرون أن يأخذوا المواشي بعيدا كل يوم للعثور على مرعى جيد".
قال ستيف ذلك وأضاف:
" علي أن أتم بعض المهام قبل أن أنهي عملي هذا النهار".
ثم نزل درجات السلم وسار بقامته النحيلة وقميصه الرياضي وسرواله تحت الشمس المائلة الى المغيب.
وقطع دون الصمت الذي أعقب ذهاب ستيف بقوله:
" متى يجب أن نذهب الى هذه السهرة ؟".
" ربما عند الساعة التاسعة بعدما نكون تناولنا طعام العشاء ..... إلا أذا أردت أن تتعشى دم البقر وحليبه!".
فظهر الأشمئزاز على وجه جيل وقالت:
" أرجو أن يكون كلامك مزاحا".
" لا أمزح , قبيلة مازاي عادة لا يأكلون اللحم..... وما يأكلونه لا بأس به على الأطلاق".
" هل ذقته؟".
" مرة فقط , حين نزلت القبيلة بهذا المكان , وكان ذلك من قبيل اللياقة , كما قال والدي ".
" وهل يتوقعون منا أن نذوقه نحن أيضا.... في سبيل اللياقة!".
فأجابتها سارة قائلة:
" أذا قدّموا لك شيئا منه , فمن قلة التهذيب أن ترفضيه!".
فقالت جيل:
" أذن , لن أذهب الى الحفلة!".
وقال دون:
" أنها تمازحك , فلا تصدقي كلامها".
فألتفتت جيل الى سارة وسألتها قائلة:
" هل أنت تمزحين حقا؟".
أجابتها سارة:
" قليلا...... مغاري يعرف أن الأوروبيين لا يستسيغون نوع الطعام الذي يأكله أفراد قبيلته , ولذلك فلا داع للقلق الشديد , وكل ما عليك أن تفعليه هو أن تجلسي هناك وتشاهدي الرقص وتظهري أنك تتمتعين بمشاهدته جدا.......".
وبعد توقف أضافت قائلة:
" من منكم يخبر ديانا أن ترتدي سروالا , لأننا سنقعد هناك على الحصيرة على الأرض , والمكان لا بد أن يكون مليئا بالنمل ...".
فنهضت جيل وهي تقول:
" أنا ذاهبة لأخبرها , فهي عادة لا تغير ثيابها بعد العشاء!".
وكان تيد واقفا في الباب يتسمّع وعلى وجهه أبتسامة عريضة , فحاد عن الطريق ليدع جيل تمر , ثم جلس في الكرسي الذي تركته فارغا , كأنما كان من الصعب عليه أن يخطو بضعة خطوات للجلوس في كرسي آخر.
وقال تيد:
" على ذكر النمل , هل أخبركم عن تلك المرة التي نصبنا فيها خيامنا قبالة طريق مرات مرت فيها فرقة من نمل العسكر؟".
ولم ينتظر الجواب , بل تابع قائلا:
" في الثانية صباحا بدأ النمل يقبل نحونا , وحوالي الخامسة أقترب قبل أن يمر بنا , ومثل المد الأسود أجتاح خيمة بعد أخرى , وأنا مضطجع هناك على فراشي أراقبه راجيا أن لا تفكر واحدة منه أن تتسلق ساقي!".
فقال دون:
" كنت أحسب أن نمل العسكر يأكل كل شيء في طريقه , من ذلك ما قرأت في قصة أن النمل جرد رجلا نائما من لحمه وتركه هيكلا عظميا".
فأجابه تيد:
" لا بد أنه كان مقيدا أو غائبا عن الوعي , فأنت لا تستلقي مستسلما للنمل وهو يزحف عليك , والمهرب الوحيد هو أن تخلع ثيابك وتسرع الى النهر , ولكن حذار الكركدن والتمساح!".
وقالت له سارة:
" يستحيل علي أن أدرك كيف تخرج من كل تلك المخاطر سالما ,فهلا أخبرت دون عن صراعك مع الأسد؟".
فابتسم تيد وقال:
" أحتفظ برواية هذه الحادثة للمراهقين القادمين لتوهم من المدينة ......".
ورمته سارة بمخدة فوضعها خلف رأسه وقال لها:
" نسيت أن أخبرك أن في غرفتك رسالة من والدك".
فقفزت سارة واقفة والأبتسامة تعلو شفتيها وهرعت نحو الغرفة وهي تقول:
" لم أتوقع أن أتلقى رسالة منه بمثل هذه السرعة".