فذهبت إلى خزانة الثياب ولبست قميصها وسروالها فوق ثوب الأستحمام , ثم أصلحت شعرها بأصابعها كالعادة , وحين عادت وجدت أن ستيف والعائلة ويلارد أنتقلوا إلى آخر الشرفة وأخذوا ينظرون إلى قطيع من حمير الوحش يسير إلى بركة الماء التي على بعد مئة متر منهم وعشرين مترا تحتهم , وكان تشيبير تغيّب أثناء الحديث , ولكنه عاد الآن ليذكرهم بموعد الزيارة في صباح اليوم التالي , فقال له ستيف:
" لن ننسى يا بنيّ , فلا تخف!".
وأنتظرت سارة إلى أن إبتعدا بالسيارة عن اللودج ودخلا الطريق العام , فقالت لستيف:
" شكرا لك !".
" على ماذا؟".
" على قبولك دعوتي لهم غدا".
" هل كنت تتوقعين عدم قبولي؟".
" نعم , فهذا ما يروق لك أن تفعله أذا كان الأمر يتعلق بي ".
ففكّر ستيف مليّا ثم قال:
" لا أفعل إلا أذا دعت الحاجة , ولا أظن أن الحاجة دعت إلى رفض دعوتك لهم ...... إلا أذا كنت دعوتهم على أمل مشاكستي....".
" كلا , لم تكن غايتي مشاكستك , فلو كان الأمر كذلك , لما أستعنت بأحد......".
فأبتسم ستيف وقال:
" أصدقك .... نسيت أنك تحرصين على أستقلالك في كل ما تفعلينه.........".
وسيطرت سارة على أعصابها , أذ كان من الواضح أنه يحاول أثارتها , فقالت له:
" وماذا تفضل أنت ؟ أن أكون خاضعة مستسلمة ؟".
" مشكلتك أن لك عقلا مشكّكا , يا صغيرتي , ويعوزك أن تثقي ولو قليلا بالجانب الصالح من الأنسان ........".
" ربما كنت أثق بذلك لو كان موجودا !".
قالت هذا الكلام ووضعت يدها على كتف ستيف محذرة :
" عا ! الأفيال أمامك!".
" رأيتها ".
وأخذ يبطىء في السير , ثم توقف حين خرج فيل من مخبأه يتبعه قطيع من البقر وزوج من العجول , وبعد مرورهما ظهرت حركة بين الشجيرات الكثيفة ألى شمال السيارة , ثم خرجت ثلاثة ثيران وهرعت تلحق بالقطيع الذي كان قد بلغ الطريق العام , وبعدها ظهرت بقرة تبلغ من الضخامة درجة لا عهد لسارة بمثلها من قبل , فما أن رأتها حتى تأهبت لمهاجمتهما , ولكن ستيف سارع إلى أدارة محرك السيارة , ثم قادها إلى الوراء بأتجاه الطريق العام , فيما البقرة تنظر إليهما نظرة أحتقار للجبن الذي أظهراه.
وقالت سارة بعد أن أتجهت بهما السيارة إلى الأمام :
" سرّني أنك لا تتجبّر على كل أنثى ".
فأبتسم ستيف قائلا:
" حين تكون الأنثى بمثل تلك الضخامة , فأنا دائما أتراجع هربا ".
ثم أنتقل الى الحديث عن ترافس , فقال لها:
" بدا لي من حديثك عن الفن المعماري أنك على شيء من المعرفة به , فكيف كان ذلك؟".
أجابته بتحسر:
" هو يعرف أكثر مني بكثير , على أنني لم أكن أنتظر منه محاضرة عن الموضوع".
" هذه عبرة لك , فلا تحاولي بعد الآنأن تحفري لي حفرة لئلا تقعي فيها , على كل حال , فهو شاب لا بأس به كما يبدو".
" لا شك في ذلك , فهل تعتقد أنه يكون لي زوجا صالحا؟".
فضحك ستيف وقال :
" لو قضى أسبوعا واحدا معك لتنسي يمينه من شماله .... والرجل الذي تتزوجينه في المستقبل يجب أن يقف دائما على رؤوس أصابعه!".
" يا لها من وقفة غير مريحة , وما دمت تعرفني كل هذه المعرفة فلعلك تختار لي حين تعود إلى نيروبيبعض طالبي الزواج , فترسلهم ألي لأوافقعلى واحد منهم!".
ولمحته ينظر اليها مستمتعا بكلامها , فقالت بغتة:
"هل تسمح لأختك جيل بأن يكون لها عشاقا؟".
فرفع حاجبيه قائلا:
" لماذا لا تسألينها حين تجيء الى هنا؟".
أجابت:
" سأسألها .... أرجو المعذرة , فأنا لم أقصد أ أتهكّم على حسابها , ولكن قل لي , هل لأختك أصدقاء كثيرون؟".
" نعم , وهي تسكن مع والدينصديقين لعائلتنا في مومباسا , وحيث أن لهما أبنتين , فضلا عن ابن واحد , فهي تقضي أيامها في محيط أجتماعي واسع , وأنت , هل ذهبت ال مومباسا يوما؟".
" ذهبت منذ مدة طويلة , قبل أن يشغل والدي وظيفته هذه".
" يوم كانت أمك على قيد الحياة؟".
" نعم".
" أتشعرين بفقدان أمك؟".
" طبعا , من بعض النواحي .... توفيت منذ مدة طويلة , وأبي أحسن معاملتي جدا".
" كان خيرا لكما أنتما الأثنين لو تزوج مرة ثانية , فالفتاة تحتاج ألى أم كما تحتاج الى أب..... هل كنت تمانعين لو عزم عل الزواج؟".
" كلا , لو وجد أمرأة أراد الزواج منها كنت ولا شك أحبها ".
فقلب ستيف شفتيه وقال:
" الحياة ليست بمثل هذه السهولة....".
" على كل حال , لم أكن سأشعر بالغيرة ...... أذا كان هذا الذي تقصده ...... فأنا لست فتاة أنانية الى هذا الحد!".
" لا تتسرعي في حكمك , كل ما قصدته هو أنه ليس من السهل على الأنسان أن يحب أحدا لمجرد أن سواه يحبه , والصفات التي يريدها الرجل في المرأة لا تشمل بالضرورة صفة الأمومة".
فبادرته قائلة:
" أوه..... ألا تحب الأطفال؟".
" لم أفكر بالأمر كثيرا.. ولكن ماذا جعلك تسألين هذا السؤال؟".
" ما قلته بخصوص الصفات التي يريدها الرجل في المرأة ".
" ما قلته يحتمل التعديل , فهو ليس رأيا حاسما , ويبدو لي الآن أني أحرص أذا تزوجت , أن يكون لي ولد أو ولدان".
فخففت سارة من غلوائها وقالت له:
" أما وأنت متمسك بعزوبيتك الى هذا المقدار , فالحالة التي ذكرتها يصعب أن تنشأ.....".
قال لها ستيف:
" لم أقل أنني متمسك بعزوبيتي ....... فأن أكون تجنبت النوم في الفراش الزوجي ال الآن , فلا يعني بالضرورة أنني لن أتخذ لي زوجة في يوم من الأيام , ويؤسفني أنك لست أكبر سنا ببضع سنوا , فبقليل من الترويض تصبحين المرأة التي أتمنى أن أتزوجها".
فأزداد خفقان قلبها لهذا الكلام , ولكنها حافظت على بسمتها وهي تقول:
" أغلب الظن أنني أدس السم في طعامك قبل أنقضاء أسبوع على زواجنا!".
" لا أشك في ذلك ... ولكن لا شيء أفضل من العيش بخطر , فيا للأسف ! ".
فقالت ونظرها الى الطريق:
" أرجو أن تقلع عن معاملتي كما لو كنت فتاة في الثانية عشرة ".
" كيف تريدين أن أعاملك؟".
" جرب أن تعاملني كفتاة بلغت سن الرشد , فلعلك تحظى برد فعل مماثل !".
فأوقف ستيف السيارة فجأة , ثم مال اليها وقال:
" أذن , أقتربي الى هنا ودعينا نتصرف كما يتصرف الراشدون!".
فتراجعت سارة بعفوية الى طرف المقعد وهي تقولله:
" لا تكن مضحكا!".
" ليس في الحب ما يضحك ".
قال هذا الكلام وأخذها بين ذراعيه وتمتم في أذنها قائلا:
"ليتك في السن التي تستطيعين أن تتحملي فيه شدة حبي لك ".
فتخلصت من بين ذراعيه وصاحت غاضبة:
" أنت...... أنت.........ز!".
فقال لها محذرا:
ط لا تقولي كلمة تندمين عليها فيما بعد".
وأفلتها وهو يقول:
" يكفي هذا القدر الآن.....".
فقاطعته قائلة:
" اياك أن تلمسني مرة ثانية ...... والا شكوتك الى مدير الشركة !".
" ما يعجبني فيك يا حبيبتي أنك لا تبعثين الضجر ...... والآن هل ستتصرفين بتهذيب الى أن نصل الى المنزل؟".
فجلست في مكانها بصمت وأستسلام , وهي تقول لنفسها:
" ما الفائدة من المقاومة , وستيف هو الذي يفوز في النهاية دائما.........).
وما أن توقفت السيارة أمام المنزل حتى نزلت منها من دون أن تتفوه بكلمة , وهرعت الى غرفتها , وهناك نظرت الى وجهها في المرآة وأخذت تلوم ستيف على ما بدر منه , وخصوصا محاولته أن يجرّها الى اعلان ما لا تضمر أو قول ما لا تعني , رغبة منه في السخرية بها , على أنها في نفس الوقت أحست بأن ما فعله ستيف خلق في قلبها شهوة الى المزيد... ووضعت سارة كفيها على خديها الملتهبين في محاولة لأبطاء دقات قلبها المتسارعة الموجعة , كان في ذلك ما يضحك , لأنها لم تكن تميل الى ستيف ميلا شديدا.....
وتجنّبته ما أمكن كل ذلك النهار , ولكنها بذلت جهدا بالغا عند تناول طعام العشاء لتظهر بحالتها الطبيعية , ومرة أو مرتين لمحت ستيف ينظر اليها متفحصا , ولكن من دون أن يقول كلمة تشير من قريب أو بعيد الى ما جرى لهما بعد الظهر , وفرحت سارة عندما دنت الساعة العاشرة وأصبح بأمكانها أن تأوي الى غرفتها متذرعة بالتعب والنعاس , ولم تغمض عينيها ألا بعد أن سمعت ستيف في الممشى يودّع كيماني , ثم صوت باب غرفته يغلق عليه.
ووصلت العائلة ويلارد في الساعة التاسعة صباحا برفقة الدليل الذي أستأجرته في اللودج , وكان تشيبير أول من نزل من اللاندوفر وكله حماسة وشوق , وكم كانت دهشته عظيمة حين رأى كيكي جاثما على كتف سارة , فأنزله وطاف به أرجاء المنزل , ثم أصطحبه الى الزريبة حيث داعب الغزال الصغير الى حد أثارة غيرة كيكي , فراح يعض أذنه بلطف وكأنه يحثه على مغادرة الزريبة.
وفيما كان السيد ويلارد وزوجته يتناولان مرطبا على الشرفة , برّت سارة بوعدها فأخذت تشيبير وأخاه الأكبر ترافس الى مشاهدة المناظر من على رأس الجرف , وحملت معها تلسكوبها ذا النظارتين مما أكسبها ثناء ترافس وهو يجيل بنظره متنقّلا من جهة الى أخرى , وكان تشيبير أظهر أهتماما شديدا بالأفاعي التي أخبرته سارة عنها , وكم كانت خيبته مريرة حين لم يجد ولا واحدة منها في ذلك الجوار.
وأعلن ترافس عن أمنيته في أن يعيش طول حياته في تلك الأنحاء , فقالت له سارة:
" ولكن كيف تتابع دراسة الهندسة هنا؟ صدقني أنك حينتعود ال ديترويت , لا تلبث أن تنسى كل هذا الذي تشاهده......".
فقال ترافس:
" ليس كله....".
ونظر اليها نظرة اعجاب وتابعع كلامع قائلا:
" لم أصادف فتاة مثلك بعد... كل ما تفكر فيه الفتيات هناك في المدينة هو اللباس وضرب المواعيد مع الشبان, أما أنت فأشك أنك تنظرين الى وجهك في المرآ , ومع ذلك تبدين أحسن حالا من أولئك الفتيات اللواتي يصرفن أمام المرآة ساعات طويلة...... ولا أظن أنني أول من قال لك من بين الذين يفدون الى اللودج أنك رائعة الجمال......".