ولما وصلت الى الزريبة سمعت صوت محرك اللاند روفر يبدأ هديره , ولكنها لم تنظر اليه وهو يمر بها ويهبط الى الطريق مختفيا بين الأشجار.
وبعد حين غادر كيماني المكان الى المطار الصغير الخاص باللودج حيث كانت طائرة المركز الصغيرة , وكان كيماني ماهرا في قيادة الطائرة , رافقته سارة عدة مرات فأمتلأ قلبها بالبهجة والسرور , ومن الفضاء كان كيماني قادرا على أن يميّز الحيوانات التي رسمها من بين القطعان , وبذلك كان بأستطاعته أن يرصد تحركاتها الى حد يكاد يكون لوغه مستحيلا فيما لو حاول ذلك وهو على الأرض.
وفكرت سارة أنها كانت تود أن ترافق كيماني في رحلته هذه المرة , ولكن الأوان قد فات الآن.
وعند خروجها من البيت وفي يدها بندقيتها كان تيد قد هيأ أحدى السيارات , فصعدت اليها وقالت لتيد مبتسمة :
" أنا ذاهبة الى القرية , فأذا لم أعد قبل الغروب قل للمدير أنني قررت قضاء الليلة مع الأهلين".
فأجابها تيد وقد تجهّم وجهه بغتة:
" أنت مسؤولة عن نفسك...... هذا مع العلم أن ستيف هو الذي سيقلق لا أنت , أذا عاد ولم يجدك".
قالت سارة بحزم:
" فليكن!".
وأدارت محرك السيارة قبل أن تترك لتيد فرصة الكلام.
وأخذت سارة نفس الطريق الذي أخذته في اليوم الفائت , فمرت بالمكان الذي راقبت فيه التمساح على ضفة النهر وأجتازت قمة المرتفع , وبالقرب من مطلع السفح وطرف الأعشاب المستطيلة رأت لبوءة وشبلين من أشبالها, فخفّفت سيرها لتشاهدها جيدا وهي واثقة أنها في مأمن , وتجاهلتها اللبوءة ونظرت الى الجهة الأخرى كمن لا يريد المجابهة , وكانت سارة تعلم أنها لو وضعت رجلها على الأرض لتغير مزاج اللبوءة في لحظة , فتابعت سيرها مسرورة وكتفية بهذا المشهد العائلي الحميم....
كان الرعاة غادروا القرية مع مواشيهم قبل أن تصل الى هناك بوقت طويل , غير أن الحراس وقفوا على المدخل كعادتهم بقاماتهم الفارعة وحرابهم الطويلة وهم لا يبدون حراكا كتماثيل من النحاس الأصفر , وكان وسط القرية مزدحما بالناس , فألقوا عليها التحية من جميع الجهات بحرارة الأصدقاء , وكانت تحمل الحلوى فوزّعتها على الأولاد الذين تجمعوا حولها كالنحل على الخلية....
وكان مغاري جالسا خارج كوخه كالعادة , فرفع رأسه بكبرياء حين رآها تقترب اليه , وكانت تحيّته اليها تليق بزعيم قبيلة لما كانت عليه من اللياقة والرصانة.
وجلست سارة الى جانبه للتحدث اليه قليلا بلغة هي مزيج من السواحلي والمازي , الى أن يقرر أستدعاء زوجاته للترحيب بها , وكانت سارة تدرك أن هذا القدر من أهتمامه بها أمتياز لا يحظى به إلا القليلون , ذلك أن زوجات المغاريين لا شأن لهن غالبا كأفراد في المجتمع , وكم يكون مستغربا لو أن كيماني نغوجي عاش في هذه القرية كحارس , ربما كهؤلاء الحراس الذين على المدخل , على أنه قفز فوق الزمن فتعلّم لغة الجنس الأبيض وتلقّى العلم في الجامعة , وحصل لنفسه على مكانة في العالم الواسع , ولكن هل هو أسعد حالا يا ترى من أبناء قبيلته الذين لا يزالون يعيشون كما عاش أجدادهم من آلاف السنين ؟ كان هؤلاء القوم مكتفين بأنفسهم , مكتفين مع بيئتهم , لا تزعجهم ما يزعج أبناء الحضارة المعاصرة من تناقضات وتشابكات , فهم من نواح كثيرة يحسدون على ما كانوا عليه.
وجاءت لاوينا بآخر طفل ولدته لتريه لسارة, كان صبيا لا يتجاوز عمره الأسبوع زيّن جسده النحاسي الصغير بخرز ملوّن وودع , وحين أخذ يبكي وضعته أمه على صدرها وقعدت على الأرض بجانب سارة وهي تبتسم بحياء , كانت جميلة فملامحها منحوتة برقّة وهدوء ورأسها المحلوق آية في الشكل , وكان حول عنقها قلائد من الخرز الملون كالذي على جسد طفلها , وعلى ذراعيها صفوف من الأساور , وكان مغاري يتقبلها بسعة صدر , أذ كانت على ما يظهر زوجته المفضّلة.
ومرّ وقت الظهر قبل أن تهمّ سارة بمغادرة القرية , وحين فعلت رافقها جمهور غفير الى السيارة حيث ودّعوها وداعا حارا , وشعرت بالسعادة والهناء وهي تنزل الى المكان الذي رأت فيه اللبوءة وشبليها , وهناك عزمت على أن تترك الطريق العام وتعبر السهل بأتجاه المركز , وسرّها أنها تذكرت هذه المرة أن تجلب معها قبعتها , فحتى سقف اللاندروفر لا يقي تماما من حر الشمس في تلك الساعة من النهار.
وكان قطيع البقر الوحشي الأفريقي الذي لمحته من على الجرف قد سار نحو ميل واحد , فمرّت به بسلام على بعد عشرين قدما , وأصبحت على بعد نحو ثلاثة أميال من المركز , وهناك وقعت أحدى عجلات السيارة في حفرة , ولولا حسن الحظ لأنقلبت بها ....... ولما عادت الى رشدها من هول الصدمة , حاولت أن تسوق السيارة الى الوراء للخروج من الحفرة , فنتج عن ذلك أرتفاع هدير المحرك أرتفاعا جعلها تشك في أن السيارة أصيبت بعطل لا يمكنها بعد من الحراك....
جلست سارة وقتا طويلا تفكر في ما يمكن لها عمله , وكان السكون يسود السهول فلا يقطعه سوى أصوات بعض الحيوانات هنا وهناك , وخصوصا من جهة النهر , ففي ذلك الوقت من النهار أعتادت الحيوانات على الخلود الى الراحة في ظلال الشجر بأنتظار برودة المساء , وشعرت سارة بالوحشة القاتلة والعجز التام , فمنذ أن بدأت تقود السيارة لم يحصل لها مثل هذا الحادث الذي جاء في غير وقته تماما , على أنها لم تفكر على الأطلاق في ماذا يمكن أن يقوله أو يفعله ستيف يورك عندما يكتشف أمرها.
وفي آخر الأمر كان عليها أن تفعل شيئا , فرأت أن تتصل بتيد في المركز للمجيء الى مساعدتها, أدارت آلة الأرسال على أمل أن يكون أحد على مقربة منها ليسمع نداء أستغاثتها , وحين جاءها الرد لم يكن من المركز , بل من ستيف يورك نفسه وهو في سيارته , في مكان ما بين الأدغال , سألها:
" أين أنت؟".
من دون أية مقدمة , فتنهدت قبل أن تجيب , وعزمت على أن تبت الأمر معه عاجلا ودون تأخير , فقالت:
" أنا على بعد ثلاثة أميال من المركز , وعجلة السيارة الأمامية وقعت في حفرة , ويبدو لي أن كرسي المقود أصابه عطل".
فقال لها ستيف في الحال :
" هل أصابك أذى؟".
" كلا".
" أذن أنتظري في مكانك , نحن على بعد خمسة عشر ميلا , وسنصل في غضون أربعين دقيقة , دعي آلة الإرسال مفتوحة ولا تخرجي من السيارة , هل تسمعينني جيدا؟".
" لماذا تأتي أنت؟ ألا يكون من الأسرع أن يأتي تيد من المركز؟".
ولم يقبل ستيف طلبها , فقال:
" دور تيد سيأتي فيما بعد , الى اللقاء".
وشعرت سارة أن وقت الأنتظار يمر ببطء , كان ظهرها على مسند السيارة فيما قميصها مبلل بالعرق , فبدون النسيم الذي تحرّكه السيارة في سيرها تصبح مالآتون في مثل ذلك الوقت من النهار , وتاقت سارة الى الجلوس في ظل أحدى الأشجار المجاورة , ولكنها خشيت أن يشاركها في ذلك قطيع من الأسود , أو حتى فهد واحد يشعر بالوحشة , تلك مجازفة لا يقوم بها سوى المجانين.
ولم تسمع صوت ستيف في آلة الإرسال مرة ثانية , فأعتبرت سارة أنه لا بد أن يكون في طريقه اليها , وتمنت لو أنه يصل سريعا , فأي كلام يمكن أن يقوله عند وصوله يبقى أفضل من ذلك الأنتظار الذي لا نهاية له.
وفجأة شاهدت اللاندروفر مقبلا نحوها وهو على بعد ميلين أو أكثر , وهكذا صدق ستيف في كلامه أنه سيكون هناك في غضون أربعين دقيقة , وأنتظرت الى أن أقتربت السيارة الى مرمى حجر منها , فنزلت من سيارتها وأستلقت على العشب.
وأوقف ستيف سيارته عند وصوله ونزل منها , وبعد أن رمى سارة بنظرة صارمة , أقبل على مقدمة السيارة وأستلقى تحتها يتفحّص عجلتها الواقعة في الحفرة , ولما نهض على قدميه أسرع الى معالجة الأمر من غير إبطاء , فجلب حبلا من صندوق سيارته وربط به مقدمة السيارة الأخرى , ثم جرّها خارج الحفرة , وبما أنها كانت ذات عجلات أربع كان بالأمكان قيادتها ولكن ببطء وحذر , وبعد أن أمر ستيف الحارسين الأفريقيين الذين يرافقانه أن يتعاونا على أيصال السيارة الى المركز , ركّز أهتمامه على سارة فقال لها:
" أصعدي الى سيارتي".
فصعدت سارة من دون تردد , لأنها شعرت بأنها أمّا أن تطيع وأما أن تقع في مأزق مع ستيف لا يكون لصالحها , وجلست بصمت الى جانبه في السيارة فيما يتّجهان نحو المركز , والمخاوف تساورها مما سيحدث حالما يصلان الى هناك , وقالت سارة في نفسها أنه لا يتجرأ أن يقسو عليها , لأن والدها لن يرضى عن ذلك , ولكن والدها كان الآن في أنكلترا على مسافة آلاف الأميال.
وكان تيد لا يزال يصلح أحدى السيارات عندما وصلا الى المركز , فوقف منتصبا بعد أن كان منحنيا يتفحّص المحرك , وقال:
" ماذا جرى؟".
فأجاب ستيف بأقتضاب:
" ما فيه الكفاية ..... أرجو أن يكون في المستودع قطع غيار ...... يجب أن أتحدّث اليك بعد أن أعالج قضية أميرة الغابات هذه ".
وكانت يده على ذراعها وأصابعه تحفر عميقا في لحمها , ثم تابع كلامه معاتبا تيد:
" كان في وسعك أن تراقب تصرفات فتاة تافهة كهذه الفتاة!".
ولم ينتظر جواب تيد , بل دفع سارة أمامه الى المنزل , حيث أجلسها في كرسي وأغلق الباب وراءه , ثم وقف وأسند ظهره الى الباب وحدّق اليها بنظرة شرسة وقال :
" لو كنت أصغر سنا بسنتين لكسرت رأسك , هذا مع العلم أن هنالك ما يغريني على أن أفعل ذلك الآن!".
فقالت :
" تلك كانت حادثة طارئة ...... ويمكن لها أن تقع لأي كان! ".
قال موافقا:
" هذا صحيح , ولكنها لم تكن لتقع لك لو بقيت هنا في المركز".