قال لها بصوت حزين :
" أنه لأمر بسيط جدا أن نحاول الأمساك بقوس قزح ونضيع بين خطوطه الذهبية البرّاقة الناعمة , أما الماضي...... فألى الجحيم , لأنه يحق لكل أنسان بحلم من نوع ما , ولكن الأمور لا تتم عادة بمثل هذه السهولة ..... حتى أن نفسي أغرتني تلك الليلة بأن أحذرك من المجيء الى فيللا سيرافينا , تعلق كل منا بالآخر في تلك الليلة الفريدة , ألا أنه كان من واجبي إبلاغك بأنني لست حر التصرف أو قادرا على التخلص من مسؤولياتي , لم أكن حرا آنذاك , يا دونا , ولست حرا الآن ..... ولن أكون أبدا".
" أنني أفهم وضعك , يا ريك".
أستدار نحوها بسرعة قائلا:
" حقا ؟ أخبريني ماذا تفهمين".
منتديات ليلاس
" أفهم أن الأخلاص يعني بالنسبة اليك أكثر من ...... الحب ".
" يزول الحب , يا صغيرتي , عندما تدعو الحاجة الى ذلك...... عندما يخف بريق البهجة وطعم الأثارة!".
مدّت يدها نحوه , وكأنها تناشده , وقالت:
" لا , لا......".
" بلى , يا عزيزتي , وخاصة عندما لا يمكن الأكتفاء منه بالطريقة التي تريدها له الطبيعة , ليس الحب مجرد علاقات رومنطيقية وكلمات عذبة شاعرية , أنه جوع وألم لا يمكن مداواته , لا يبقى في النهاية سوى المرارة والحرقة , دماء الشباب والحيوية تسري في عروقك , أيتها الحبيبة , أمامك مجال كبير للحب في حياتك الطويلة , يا عزيزتي دونا".
" أنك تقسو علي كثيرا ....".
" كي أصل بك الى شاطىء الأمان".
أحست دونا بألم حاد يعصر قلبها عندما بدا لها أنها غير قادرة على مناقشة جملته الأخيرة , أو أن تكون سعيدة معه وحرّة في الذهاب معه حيثما يريدان , تألمت كثيرا لأنها لن تتمكن من التجول معه في معاهد الفنون الجميلة أو المتاحف ..... وهي أمور تحب القيام بها مع ريك بعد أن تعرفت الآن الى الوجه الآخر في حياته وشخصيته , الوجه الذي لا يظهره أبدا إلا لمن لا يعتبره أكثر من مجرد حارس شخصي ومرافق خاص لسيرافينا نيري , نظر اليها بوجه كأنه قدّ من صخر , وقال:
" أعرف ماذا يجول في خاطرك الآن , يا دونا".
كان قويا في وجهه ونظراته , أحست بأنها تريد تحطيم ذلك الجدار الذي يمنعها من الوصول الى أعماق قلبه , كانت تصبو بحرقة لتصبح جزءا منه .
" وهل يمكنك أن تقرأ جميع أفكاري بهذه السهولة؟".
وجّهت اليه هذا السؤال بصمت لم تتمكن من أخفاء ألمه , شعرت بعذاب موجع لأنها فهمت لتوها أن الحب يحمل معه نوعا من الألم والحساسية.
" أشعر في هذه اللحظة أن تيار أفكارك هو كسلك معدني تدب فيه قوة من الكهرباء فيما أنا ممسك به , أنت تريدين مني الآن أن أطلعك بصراحة على سبب أرتباطي بسيرافينا الى هذه الدرجة , تشعرين بأن لك الحق في ذلك , وتسألين نفسك عمّا أذا كانت ثروتها الطائلة هي السبب , لا يا عزيزتي , فالمال ليس السبب , يكفي أن أقول لك أنني أقدّمها عليك ...... هذه الأمرأة التي لا يتصوّرها الآخرون إلا عاشقة مهووسة كما ظهرت في أفلامها , أنا أعرف حقيقتها , وأعرف أنّ بأمكاني تحطيم قلبها , ولكنني لن أفعل ذلك , يا دونا , لن أدعك تشاركين في عملية تحطيم قلب أمرأة أخرى , لن اعمل على أفساد الطيبة اللذيذة التي أجدها فيك , أو الأحساس الرقيق المرهف الذي أراه في عقلك وجسمك , أعرف أنك تتألمين عندما أتحدث اليك على هذا النحو , ولكن تصوري الألم الذي ستشعر به أمرأة تجاوزت الأربعين .... أمرأة تبدو في الظاهر أن لديها كل شيء , مع أنها في الحقيقة ضحية مخاوف لا يمكنك تصور أبعادها.
صمت لحظة وهو واقف أمام النافذة ووجهه يرتدي قناعا من الظلال , بسبب الضوء القوي الذي يأتي من الخارج, هز رأسه ومضى الى القول:
" أعرف أن بأمكانك تصور ما سيحدث لهذه الأمرأة , أذا تركتها من أجل أيجاد القليل من شبابي الضائع مع شابة مثلك , أعتقد أنك تعرفين ماذا سيحدث لنا فيما لو عشنا معا ونحن نعرف ماذا حدث لها , لا ... لا أتصور نفسي قادرا أبدا على ذبح مشاعرها.
أحزنتها الكلمة التي أستخدمها ..... الكلمة الرهيبة التي تصوّر سيرافينا الجميلة الشامخة وهي تتخبط بدمائها وتبكي على أطلال قلبها المحطّم , وقالت دونا لنفسها أن ريك ليس الأنسان الذي يمكنه أن يقوم بمثل هذه الأعمال البربرية , خنقت دموعها في عينيها وذهبت بسرعة لغسل الصحون , سمعت قدّاحته مرة أخرى وشمّت رائحة الدخان , أنه يدخن كثيرا ..... أنه متوتر الأعصاب الى درجة مذهلة , وشعرت دونا فجأة بأنها ليست قادرة على تحمّل خسارته بصورة تامة , فأستدارت نحوه وقالت بعصبية:
" لماذا سأظل خجولة الى هذه الدرجة ؟ أعرف أنه لن يكون لنا أي مستقبل أطلاقا , ولكن هذا لا يعني أنه ليس بأمكاننا أن..... أن......... أسمع , يا ريك ! لسنا مضطرين لأيذاء أحد , أريد أن أعرف كيف سيكون عليه شعوري عندما أكون معك ...حقا معك".
" تبا لهذه الكلمات ! هل تعتقدين أن هذا كل ما أريده منك ؟ لو كان الأمر هكذا , لحملتك الى تلك الغرفة منذ أكثر من ساعة , أنا أنسان , يا دونا , ورجل يضج بالنار , يسرني كثيرا أن أضم أمرأة بين ذراعي..... وأن ......".
شدّ شعره الأسود بعنف ثم صرخ قائلا:
" رباه ! لا تطلبي مني أن أعاملك هكذا ! أنني قادر لكن كل نقطة دم عاقلة في عروقي تمنعني بحزم وقوة , أريد الحب معك يا حياتي , أن يكون لذيذا وطيبا وطاهرا".
" ولكن الطيبة والطهارة , يا ريك , ستؤديان الى الشعور بوحدة قاتلة ! ألم تكن تعني ما قلت عندما حدّثتني عن الفارس الأسود الذي سيتسلل الى غرفة نومي عبر الشرفة؟ أذا حدث ذلك , يا ريك فهل تعتقد أنني سأصرخ وأوقظ الباقين".
" كنت أمازحك وأضايقك عندما قلت ذلك".
" حقا , يا ريك ؟ وهل تتظاهر الآن بأنك تتنفس بصعوبة , أم أنها كثرة التدخين؟".
" أحذّرك يا دونا , من مغبة الأستمرار في هذا الأسلوب , فأنا لست من حجر.........".
" أعرف ذلك ...... وأعرف أن مظهرك وسيم للغاية , وأعرف أيضا أني كلّما أقتربت منك أشعر بأنني غير قادرة على الوقوف .... أشعر بأنني أذوب وأنهار".
" أيتها الشيطانة الصغيرة ! لا يمكنك أن تفعلي ذلك , لا تحاولي أتباع هذا الأسلوب أبدا !".
حمل معطفه ورماه عل كتفه ثم سار نحو الباب , فتحه ثم أستدار نحوها وتأملها بضع لحظات , شعرت خلالها بأنها تذوب أمامه وتكاد تهوي على الأرض , قال لها:
" الى اللقاء , أيتها العزيزة , لا تظني أبدا أنني لا أحب أن أكون ذلك الشخص الذي سيمنحك كنوز الظلام وثروات الليل الدفينة".
دفعتها حشريتها القوية , بعد الأنتهاء من توضيب القاعة الصغيرة , الى الصعود الى غرفة النوم , شاهدت على طاولة خشبية صغيرة قرب السرير قنديلا صغيرا .... وصورة أمرأة ضمن أطار من الذهب الخالص , رفعت الصورة بيدين مرتجفتين وتأملتها بدقة وعناية , أنها صورة أمه...... وهذا هو السبب الحقيقي على الأرجح لرفضه أحضار أي أمرأة الى هذه الغرفة , أعادت الصورة الى مكانها , فشاهدت وراء الطاولة صندوقا خشبيا صغيرا أرادت أن تعرف بعض أسراره , فففتحته..... وشهقت أذ شاهدت فيه القناعين اللذين أستخدماهما في تلك الحفلة الراقصة في روما , أحتفظ بالقناعين ...... كما أحتفظت هي بالوردة البيضاء , يريد أن يتذكّر كيفية اللقاء بينهما..... ويحتاج الى شيء يحتفظ به للذكرى عندما يضطران للأفتراق.
عادت الى الفيللا والألم يعصر قلبها , ستواجه الكثير من المصاعب بعد الآن , ولكنها مضطرة لتحملّها بسبب العقد الذي وقّعته مع سيرافينا , كيف ستشعر عندما ستراها بين ذراعيه؟ اللعنة! يجب أن تتصرف معه وكأنها غريبة مهذبة......
تأملت الفيللا قبل دخولها اليها , فلم تجدها جميلة كالسابق , بدت كسجن كبير يجب أن تمضي فيه فترة عصبية وأليمة , بيته الصغير أجمل بكثير ولكنها لن تتمكن من الذهاب اليه, وترقرقت الدموع في عينيها...........