تنفست بعمق ثم بدأت تساعده , بعد قليل أحست أنها دائخة والجفاف يغمر حلقها , شعر هو الآخر بالتوتر , إستطاعت إدراك ذلك وأرادت تحطيم جدار الصمت بينهما وإلا أدى صمتها إلى حدوث كارثة.
أنقذتها رؤيتها لندبة عميقة في كتفه , فقالت لتنقذ نفسها من صمته:
" آه , متى حدث ذلك؟".
" حين كنت في ألينوي , نربي هناك الثيران للحصول على اللحم وإرسال بعضها إلى حلبات المصارعة , مصارعة الثيران , وقرر أحدها تجربة حدّة قرنيه في كتفي".
" كان في الأمكان قتلك في الحادث".
" كانت ضوبة سريعة , وكنت محظوظا , يقول البعض أن حياتي مصانة".
" أو إن الشيطان يحمي أتباعه".
وقفت مترددة وأيقنت أن العقل يملي عليها الهرب فورا , غير أنها بقيت واقفة , ثم قالت فجأة :
" إن عضلات كتفيك متوترة مثا خيط مشدود , ربما أستطيع مساعدتك إذا سمحت بذلك".
ولم تنتظر جوابه , بل وضعت يديها على كتفيه , وبدأت تفركها , كان ذلك شيئا تعلمته منذ سنوات , إلا أنها لم تلجأ إلى إستخدامه إلا نادرا , حين يسمح لها جدها , أحيانا , لفرك كتفيه ليتخلص من صداع ألمّ به أو أصابه , أو ربما طلب منها أحد زملائها في المسرح مساعدته في التخلص من توتر الظهور فوق خشبة المسرح للمرة الأولى , إلا أنها ولا مرة قامت بتدليك رجل غريب , كان مسترخيا تحت تأثير أصابعها وأحست هي بذلك.
قال ميندوزا:
" لأصابعك خفة الفراشة , لها لمسة شافية , هل تدرّبت في هذا الموضوع؟".
فهزت رأسها وهي تجيب :
" منذ سنوات , حين كنت صغيرة , رغبت أن أكون ممرضة , إلا أنني لم أكن جدّية , ولحسن الحظ لم يتم الأمر وإلا لما وافق جدي أطلاقا".
" ألا تحوز مهنة التمريض رضى جدك؟".
" أنه من النوع القديم , عجوز , ولو أنه عاش في زمن فلورانس تاينجيل , أول ممرضة , بالمعنى الحديث , في التاريخ , من مزاولة المهنة , لكنه , عموما لا يوافق على أية مهنة للمرأة , أعتقد أنه وافق على أتجاهي نحو التمثيل لأنه أدرك أن مجال العثور على عمل صعب جدا".
" كان أفتراضه خاطئا".
" نعم , كنت محظوظة جدا , حيث أديت الأدوار الجيدة في الأوقات الملائمة"
" وهل تعتقدين أنك تؤدين مهمة خاصة من خلال التمثيل؟".
أجابت سوزان:
" نعم , بالتأكيد , أتذكر أنك سألتني ذلك من قبل".
ولكن هل كانت معنية بالتمثيل الى ذلك الحد؟ مثلت لأنها تمتعت بالتمثيل ولكن ماذا لو أخبرها أحدهم عن عدم كفاءتها بالتمثيل , أو أذا طلب منها ذلك , هل ستتأخر ؟ أنها فكرة لم تخطر ببالها من قبل.
ها هو الفخ يضيق من حولها ولا تستطيع الآن لوم أحد غير نفسها , وواصلت تدليك كتفيه بحركات آلية لتريح عضلاته ولكن من يستطيع تهدئة ذاتها الباحثة عن الحب؟ لا أحد غير الرجل القريب منها , ولكنها لم تسمح بذلك خوفا من ألم الوحدة والهجران فيما بعد.
قالت فجأة :
" هل تريد أخباري عما حدث لعينك ؟ هل كان حادثا آخر أصبت به حين كنت راعيا للبقر؟".
أحست سوزان أن ميندوزا أنكمش فورا , فقالت :
" آسفة , ما كان يجب أن أسألك هذه الذكرى المؤلمة أذن؟".
" أنني أحمل في وجهي ما يذكّرني دائما كلما نظرت الى وجهي في المرآة , كلا لم يكن حادثا , جرى ذلك منذ وقت طويل وبشكل متعمد".
وقفت جامدة في مكانها , وسألت:
" متعمد ؟ لا أفهم ما تقول؟".
" سأوضح لك ذلك , أغتيل منذ ثلاثين عاما , أحد قادة البلد في شوارع بوغوتا , أدى قتله الى حرب أهلية أستمرت عشر سنوات , وفرت الحرب الفرصة لبعض الناس فرصة القتل والنهب والأغتصاب , فرصة الأثراء على حساب الآخرين , نموذج هؤلاء كان شخصا أسمه خوان رودريغو".
قالت سوزان ترجوه:
" أذا كانت الذكرى مؤلمة , لا شيء يجبرك على أخباري".
" هل هناك طريقة ناجحة للهرب من الألم ؟ تحدثت عن الندبة في ظهري كما لو كانت مهمة , إلا أنني أشعر بأنها لا شيء بالمقارنة مع الندبة التي تركها خوان رودرغو في روحي , وما العين غير ندبة بسيطة قياسيا الى ندبة القلب , كبرت تحت ظل الخوف , شعرت أن الأمر أنتهى حين كنت في التاسعة من عمري ,لم يكن والدي متأكدا من قناعتي , كان قد هيأ لنا , قبل الحرب بسنوات , ملجأ للأختفااء فيه عند الحاجة , مكانا يتسع لي , ولأختي وأمي , سمعنا أن رودريغو لا يزال يواصل حملات الأعتداء , إلا أننا لم نهتم لذلك كثيرا خاصة بعد سماعنا للأخبار المشجعة من بوغوتا بقدوم الجيش قريبا ومساعدته للناس على التخلص من رجال العصابات, كان ذلك ما أقنعنا أنفسنا به , وفي صبيحة أحد الأيام شاهدنا دخانا يتصاعد من أحد البيوت القريبة فدفعنا والدي للأختفاء في الملجأ , بكت والدتي طالبة منه المجيء معنا فوعدها بالعودة بعد أن ينهي بعض أعماله , وقفنا هناك صامتين بعد أن قبّلنا والدي, أتذكر كيف أن والدتي أمسكت برأسه ونظرت الى وجهه فترة طويلة وكأنها عرفت أنها لن تراه مرة أخرى , ثم تركنا وبدا لي أننا أنتظرنا فترة طويلة خاصة وأن والدتي وأختي نامتا فزحفت خارجا وذهبت الى البيت".