مضى خارجا وأغلق الباب خلفه , فجلست على حافة السرير , فطالبها مارك بتوضيح ما حدث:
" ماذا حدث ؟ من هو فاتاس دي ميندوزا ؟".
" أنه الرجل الذي أخبرتك عنه وافقني الى هنا".
فضحك معلّقا بعصبية :
" ونسيت أن تخبريني أنه عشيقك؟".
" لم أنس , لأنني لست عشيقته , ثم متى بدأت ممارسة مهنتك كحارس أخلاقي ؟".
" آسف".
" لا تأسف , كنت آمل الحصول على حمايتك لفترة ما , ذلك أيضا , يبدو حديثا قديما الآن".
" أعتقد أن كل رجال أميركا اللاتينية متشابهون , حيث لا يسمح لهن بمس شعور فتياتهم قبل الزواج , أخبرني ميغيل أن أحدهم أستلم جائزة من ملكة للجمال فقبّل خدّها فكاد والدها الغاضب أن يقتله فليس من الغرابة أن يظنوا أن السائحات لعبة سهلة".
" لا أعتقد أن لدينا الوقت الكافي لمحادثة كهذه , في ظرفنا الحالي ".
" كلا , هل سيساعدنا دي ميندوزا ؟".
ونظر اليهها بسرعة .
" لا أدري".
وأشارت بيدها عجزا , ثم أضافت:
" أولا أنه لا يعرف مكاني لأنه طلب مني البقاء في مكان معين وأنتظاره".
" من المؤسف أنك لم تصغي لطلبه , أنا آسف يا سوزان , إلا أنك لا تستطيعين أنكار خطورة وضعنا , وكان في الأمكان تفادي جزء منه لو أنك بقيت في مكانك".
" نعم , نعم أدرك ما تقوله".
ثم أحنت رأسها وبدأت البكاء مطلقة تنهيدات عميقة بدت وكأنها أختزلتها منذ فترة طويلة.
" آه سوزان".
وتحرك مارك محيطا إياها بذراعيه...
" آه أنا آسف , لم أعن ما قلته , هل جرحت مشاعرك؟".
" كلا , أتركني لوحدي قليلا".
" لا بد أنه ذلك الرجل , أليس كذلك ؟ هل هو ميندوزا ؟ متى تعرفت عليه؟".
" لا أدري".
ومسحت عينيها بمنديل عثرت عليه قربه.
" إلا أنك تستطيع عد ذلك بالساعات , والأيام فقط".
لم يجبها , بل أحست بعدم رضاه , الأمر الذي كان في أمكانها تقديره , لأن مارك عرفها كفتاة باردة في علاقتها مع الرجال .
" لا بد أنه شخص مختلف , أنني متشوق للقائه".
" أرجو غير ذلك , أرجو أن يمتطيجواده ويبتعد , هل سمعت ما قاله رودريغو ؟ أنه لا يستطيع الأنتظار لألقاء القبض عليه , لأنه قتل والده منذ سنوات وشوّه وجه ميندوزا , وهو يرغب الآن بأتمام ما بدأه".
" ماذا عنا ؟ الدلائل لا تشير الى أننا سنحظى بمعاملة أفضل من روميو الكولومبي , أظن أن رودريغو سيصر على كتابة رسالة الفدية".
" إلا أننا لا نستطيع , لأن جدنا مريض جدا ومثل هذا الطلب سيقتله".
" وأعتقد أن أختفاءنا سوية , عن وجه سطح الأرض سيساعد على تحسين صحته؟".
توقف عن حديثه ناظرا اليها , إلا أنه سرعان ما أدرك خطأ ما تلفّظ به.
" آسف جدا , أنني غير متمالك لقواي في الفترة الأخيرة وخاصة الأسبوعين الأخيرين , أذ بقيت مطروحا على هذا السرير بشكل متواصل لا أستطيع التفكير بشكل صحيح الآن".
" أعرف يا مارك , هل جئت باحثا عن ديابلو؟".
" نعم, هناك العديد من القصص عنها , ففكرت أن لها أساسا في الواقع , هل تتصورين يا سوزان أي ثروة كبيرة تستطيعين القول عليها بمجرد الأستحواذ على حجرة خضراء تستطيعين حملها في راحة يدك؟".
" نعم , أستطيع تخيّل ذلك , كم أتمنى لو أن ميغيل أرفاليز أغلق فمه ! مارك.... ألا تفهم بأنها لو كانت موجودة لعثر عليها منذ سنوات , ولكانت جزئا من آلاف خواتم الخطبة الملبوسة الآن ثم ألم تعلم أن جزءا من القصة يشير الى لعنة ديابلو؟".
" كلا , إنها مجرد خرافة ".
" أذا كان الأمر صحيحا , فلم أنت في هذا الوضع الرهيب الآن؟".
" لا تكوني غبية , أنني لم أعثر على أي زمردة كبيرة أو صغيرة".
" لكنك نقّبت وربما كان كافيا لأغضاب الرموز القديمة ".
نظر بأتجاه الباب .
" أرى أنهم أتموا أعداد النار".
وفرح لتغيير الموضوع.
أستدارت سوزان ونظرت الى لهيب النار , ثم أنفتح الباب ودخل رودريغو .
" حان الوقت يا سنيوريتا".
تراجع ودخل أثنان من رجاله , فتح أحدهم قفل القيد وأزال السلسلة عن ساق مارك بينما ساعده الآخر على النهوض , لم يستطع الوقوف فسحباه خارج الغرفة صارخا من الألم , لم تطلق سوزان أحتجاجها بل حافظت على هدوئها , حين ألتقت عيناهما صدفة بدا وكأنها أستطاعت رؤية رجل قاس لا يؤثر فيه تعذيب الآخرين , فلم ترغب بأهدار كرامتها بالتوسل اليه , ورأت كارلوس واقفا في الخارج وبدا عليه مظهر الغريب عن البقية , ربما كان مجرد كخبر لهم وزاد أحتقارها له , متذكّرة تطوّعه لأخبارهم ما يعرفه عنها.
وقف رودريغو في منتصف الباحة:
" ميندوزا!".
نادى بأعلى صوته فاتاس دي ميندوزا , وتلا صراخه تردد الصدى في صمت الليل.
" فتاتك الجميلة معنا أيها الرفيق , أذا أردت رؤيتها سالمة كما كانت آخر مرة , تعال الى هنا".
لم يسمع أحدهم صوتا وشبكت سوزان يديها الى حد آلمها , واصلت في هدوء , المرة بعد الأخرى طالبة من الله ألا يدعه يلبي النداء".
" فاتاس!".
صرخ رودريغو مرة أخرى ولاحظت في الظلمة توتر عضلات وجهه مما دل على غضبه الشديد وأضاف:
" هذه فرصتك الأخيرة , وفرصة حبيبتك الأخيرة أيضا , سأعد حتى العشرة وسأسلّمها لرجالي ليتسلوا بها".
" لا تصرخ يا رودريغو".
فجأة ظهر ميندوزا قرب حلقة ضوء النار وقبعته تغطي جبينه.
" قد أكون نصف أعمى , شكرا لجهودك الطيبة , إلا أنني لست أصما".
" ميندوزا ! كلا".
همست سوزان بل ربما قالت الكلمات في قلبها أذ لم يلتفت أحد اليها , حتى أنه لم ينظر اليها وهو يتقدم الى الأمام".
" ها نحن نلتقي ثانية".
وتنفس رودريغو بعمق متأملا طول ميندوزا الفارع.
" لقاء طالما أشتقنا اليه".
قال فاتاس بأدب , فبدأ رودريغو الضحك معلقا:
" ولكن ليس في ظروف كهذه , أذا خطر لك غير ذلك , أليس كذلك؟".
" ها قد حصلت علي , وهذا ما أردت منذ زمن بعيد , لكن الرجل والمرأة لا علاقة لهما بالموضوع وأنت لا تريدهما".
" كلا ؟ ربما ما تقوله صحيح , قد أترك لهم حرية الذهاب ولكن مقابل سعر عال كما تعلم".
" كارلوس يهوى الفتاة فهل تستطيع تقديم عرض أفضل؟".
" ربما , ماذا تريد ؟".
أجاب ميندوزا برزانة.
" ماذا أطلب من سيد لينوس الشاب ؟ طائرته الخاصة تنقلني حيثما شئت ؟ أو أحد قطعان الماشية ؟ أو عشرة ملاين بيزو؟".
بقي فاتاس ساكنا.
" كلا , سأطلب شيئا طلبته من قبل ومنذ وقت طويل , ربما ستكون أعقل من الشخص الآخر الذي رفض الأجابة , أعطني الخريطة , خارطة مكان شعلة ديابلو".
سمعت سوزان مارك يبتلع ريقه لأثارة الموقف , وجمدت في مكانها حين أستدار ميندوزا لينظر اليهما , كانت نظرته اليها ساخرة ومريرة ثم أنتقل بناظريه ليتفحص الشاب الواقف الى جوارها , وأدرك أن مارك أصغر منها عمرا وأنه لا بد أن يكون قريبا لها للشبه الشديد بينهما , ثم أستدار بأتجاه رودريغو :
" لا وجود لأي خارطة , تم نقل سر ديابلو من جيل لآخر في عائلتي بدون خط شيء على ورقة وذلك مت جعله سرا مأمونا".
" أي أمان ؟ وكيف أستفاد أفراد عائلتك من الزمرد أذن؟".
" لم يستفد أي فرد من أفراد عائلتي من منجم ديابلو , حيث أدركنا ومنذ قديم الزمان أن المكان خاص بالرموز القديمة , جدي الأعظم لم يرد تصديق الحكاية فمنح النقود لمجموعة مبشرين بنوا هذا الدير وحاولوا طرد الرموز القديمة خارج الوادي , وها أنت ترى بنفسك مدى نجاحهم".
" قصص لتخويف الأطفال".
دمدم رودريغو.
" لكنني لست خائفا وستريني غدا مكان منجم ديابلو , هذا هو السعر المطلوب لأطلاق سراح الأنكليزية".
" الفتاة وأخوها سوية".
وأدركت سوزان مدى توتره حين نطق الكلمات الأخيرة.
" نعم , نعم ولكنني ". وأبتسم مواصلا : " لن أدعك تذهب , كان علي قتلك قبل سنوات , إلا أنني قررت أن أكون رحيما , كان ذلك خطأ لن أكرره لأنك سببت لي الكثير من المتاعب , بعد غد , سأتخلص منك".
بدا ذهن ميندوزا منصرفا كلية الى أشعال واحدة من سكائره.
" كما ترغب".
علّق حين أنتبه الى صمت رودريغو.
" خذوه بعيدا".
أومأ رودريغو برأسه فخطا رجلان الى الأمام .
" ضعوه في الغرفة الأخيرة ولا داعي لتقييده , وأذا هرب أثناء الليل , فهو يعرف جيدا ما الذي سيحدث لفتاته في الصباح".
راقبتهم سوزان وهم يأخذونه بعيدا , ولم يحاول حتى النظر اليهما عند أبتعاده , أبتلعت ريقها متذكّرة خداعها له وعدم أطاعتها لأوامره خلال فترة لا تتعدى الأربعة وعشرين ساعة ومع ذلك ها هو يحاول جهده أن ينقذ حياتها وحياة أخيها , مضحيا بسر عائلته وبحياته أيضا ما لم تحدث معجزة ما.
" ضعوا الطيرين الصغيرين في غرفتين متجاورتين حيث يستطيعان ضرب الجدران بدل الحديث".
سارت سوزان متخطية الرجل القريب منها وخاطبت رودريغو:
" أريد طلب شيء منك".
" أطلبي ما تشائين".
وبدا الشك واضحا في عينيه السوداوين .
" قبت أن سلوكك الرحيم كان خطأ , حسنا , ها أنا أسألك أن ترتكب خطأ آخر , أرجو ألا تتركني في غرفة لوحدي , دعني أقضي ليلتي الأخيرة مع السنيور دي ميندوزا".
للحظة , حدّق رودريغو في وجهها غير مصدقلما سمعه ثم بدأ الضحك .
" أشعر بالمودة نحوك أيتها الأنكليزية , ليلة أخيرة لسيد لينوس , يتذكّرها قبل وفاته , أذهبي اليه وأخبريه أن يشكر رودريغو لذلك".
وتبعها الحارس الى الغرفة الأخيرة , بين همسات البقية وتغامزهم , فتح لها الباب فدخلت الغرفة ثم سمعت صوت عودة القفل الى مكانه , ثم كان هناك الصمت.