وأحست سوزان بالسعادة لأنها لا تتحدث الأسبانية وإلا لأضطرت للتوضيح والأعتذار , ولفعلت ماريا الشيء ذاته , كما أن ذلك جنّبها مذلة السؤال عن هوية المرأة الأخرى , وتذكرت ما أخبرها راميريز في أسانكشن عن تلك الملحمة القصيرة كما في أستطاعتها تخيل بقية القصة بسهولة خاصة بعد ألقائها تلك النظرة السريعة على الصورة.
اء ميندوزا أذن , مع حبيبته الأميركية الى هنا , نهضت واقفة ثم توجهت نحو الباب محدّقة في بقايا أشعة الشمس بعينين لم تريا شيئا , أحست بألم في حلقها وحرقة في صدرها , وأرادت أن ترمي نفسها على الألواح الخشبية للشرفة وأن تصرخ , لأن مجرد تفكيرها أن ميندوزا أحب أمرأة أخرى , أهتم بها وعانقها أثار فيها غيرة مرّة لم تعرف مثلها من قبل.
( إلا أنني لست الأولى في مشاعري هذه ) وتذكرت الصورة من جديد , لا بد أنها ألتقطت في نهاية علاقتهما وليس في بدايتها , ثم أنها أذا سمحت لنفسها وأطهرت حبها برضوخها لرغباته , ألا يعني هذا نهاية علاقتها به أيضا ؟ وسيقابل آلامها وأشواقها بلا مبالاته.
أرتجفت خوفا من الفكرة إلا أنها قررت مواجهتها , لأنها النهاية الوحيدة لعلاقة عاطفية عابرة.
ربما كان ذلك هدف المرأة الأميركية في البداية , علاقة عابرة تتخلص بواسطتها من ضجر زواجها , إلا أنها سقطت في النهاية ضحية عواطفها وأظهرت الصورة تعلّقها العميق بميندوزا مما يدل على حبها له.
لكنني عرفت , عرفت دائما ما الذي سيحدث عرفت أثناء الرحيل أن له القدرة على تحطيم قلبي , فكرت سوزان , وحتى الآن من المستحيل الهرب منه بدون أن يلحقها الأذى , إلا أنها ستبذل جهدها إلا تسقط في حبائله أكثر , وألا تستسلم له كلية وتساءلت فيما أذا كانت ذكرى حبيبته الشقراء قد خلصتها منه في الليلة السابقة , ربما آلمه ضميره أخيرا , مذكرا أياه بمشاهد ودموع الألم لم يرغب بتكرارها.
بما ستكون المحظوظة الوحيدة التي سيتركها بدون أن يمس أحترامها لنفسها , رغم سيطرته عليها عاطفيا , ألا أن الفكرة لم تمنحها ما رغبت فيه من هدوء النفس أو حتى الراحة.
كانت تركض بسرعة كبيرة في قنال أخضر لا نهاية له , تبعتها أصوات وقع حوافر حصان لم تجرؤ على الأستدارة لترى أذا كان هناك على الحصان راكب وأملت أن تصل الى أقرب مكان تتحرر فيه من الخوف.
ولكن منحنى القنال لم يقدها الى الحرية بل الى مكان مسدود ومنفذ صغير مظلم , وأذ تقدمت نحو المنفذ لاحظت أنها بدأت بالأتساع حتى تحولت الى مدخل كهف وقف فيه مارك.
نادته بألحاح طالبة منه أنقاذها , إلا أنه كان يحدق في شيء حمله في يده , شيء ألتمع ببريق أخضر ملتهب ولم يبد عليه أنه سمعها , صرخت بإسمه ثانية إلا أن حوافر الحصان أقتربت منها ورأت ذراعي شخص تمتدان للأمساك بها , بدأت المقاومة , غير أن الذراعين لم تكونا قاسيتين وسمعت صوتا لطيفا يخاطبها برقة:
" أستيقظي , أنه حلم , مجرد حلم".
فتحت عينيها وبقيت ساكنة للحظات , دائخة وخائفة , غير قادرة على التمييز بين الكابوس والحقيقة , إلا أنها أستطاعت أدراك ما حدث , أنها في غرفتها في بيت ماريا ورامون وميندوزا جالس الى جوارها وقد صمّها بين ذراعيه , ووجهها يضغط على صدره بينما ربتت الأخرى على شعرها وهو يهدئها بلغته.
" آه , يا ربي , كنت أحلم".
قالت سوزان :
" كما قلت لك".
قال بجفاف.
كانت الغرفة مظلمة , فلم تستطع تمييز ملامحه , وواصل حديثه:
" أيقظتك لأنني خشيت أن تخيفي الأطفال أذا ما سمعوك ".
" هل أحدثت ضجة ".
سألت سوزان .
فأجاب ميندوزا:
" كنت تنادين مارك".
" نعم".
وأخفت وجهها بين يديها للحظة , وأضافت:
" أتذكر الحلم الآن , كان في خطر مخيف , يجب أن أذهب الى مكانه , أعرف أنه بحاجة الي".
فعلّق ميندوزا قائلا:
" أي خطر يمكن أن يتعرض له جيولوجي بريء في رحلة تنقيب بسيطة ؟ أو ربما كنت تخفين عني شيئا , ربما يتعلق هذا الشيء بطبيعة النماذج التي يأمل في أن يجمعها؟".
تذكرت سوزان حذرها حين أخبرته قصة مارك وكيف تجنبت أخباره الحقيقة كما تذكرت شيئا آخر وهو أنها ما زالت في الفراش لأن ميندوزا لم يعد أثناء العشاء أو بعده , كما كان من الواضح أن ماريا لم تتوقع عودتهما.
كانت غرفة النوم حارّة حين دخلتها , لذلك خلعت ملابسها ونامت تحت البطانية سحبت الغطاء بسرعة آملة أنه لم يلحظ حالتها في الظلام.
" لا صحة لما تقول , كل ما في الأمر هو أنني أشعر بتوتر أعصابي بعد أن تركتني لوحدي طوال اليوم , بدون أن أعمل أي شيء".
فقال ميندوزا:
" لم يكن في أستطاعتي أخذك معي وتوجب عليّ الذهاب بسرعة لآداء بعض الأعمال الضرورية".
فسألت سوزان:
" عمل رجال؟".
" نعم , كنت نائمة بسلام الى حد أنني لم أرغب بإيقاظك , آمل أنك لم تشعري بالضجر".
" أوه , كلا , كان اليوم مسليا".
ثم أضافت بوحشية:
" آمل أنك ستتفضل الآن بتوضيح الأمور لي , أحب أن أذكّرك بأنني أدفع لك ثمن وقتك في حال نسيانك ذلك".
" أنت محقة تماما , لا أرغب في توضيح ما فعلته اليوم , أما بصدد الدفع , فأحب أن أذكّرك بأنك لم تدفعي شيئا بعد , أنني أرغب في أخذ جزء من أتعابي الآن".
" أتركني أتركني لوحدي".
" لا تكوني حمقاء , ما الذي تحاولين إثباته ؟ أنك تريدينني بقدر ما أريدك , لم لا تعترفين بالحقيقة ؟ أو ربما تخشين أن أؤذيك؟ أقسم لك بأنني لن أؤذيك , حين يرغب المرء بأزدهار وردة في حديقة فإن عليه أولا أن يرعى البرعم , سأرعاك بكل وجودي , كيف أستطيع أن أكون قاسيا معك؟".
ثم أضاف:
" أخبريني أنك ملك لي , قولي ذلك".
" لكنني لست ملكا لك , ولا أستطيع ذلك , لأنني مخطوبة لشخص آخر".
تشنّج جسده فجأة وأبعد يديه عنها وقال:
" من الأفضل لك أن توضحي ما قلت".
" كذبت عليك حين أخبرتك أن مارك أخي , إنه ليس أخي بل حبيبي وخطيبي وسنتزوج قريبا".
وأضافت بعد قليل:
" كنا سنتزوج في وقت أبكر , إلا أنه جاء الى هنا , ثم مرض جدي ورغب أن يرانا متزوجين قبل أن , قبل أن........".
أحست سوزان أن لكلماتها صدى غريبا , كادت أن ترفع يدها لحماي نفسها من أكاذيبها , إبتعد عنها ميندوزا وسمعته يشعل المصباح الموضوع على المنضدة , نظر إليها ولم تكن في وجهه أية رغبة أو عاطفة بل فراغ.
فسأل:
" لم كذبت عليّ".
" ظننت أنني أذا أخبرتك الحقيقة فإنك لن تقبل أستخدامي لك كدليل , عرف أنك أستهويتني وقررت أستخدام ذلك للوصول الى مارك في أسرع وقت".
ساد الصمت بينهما مرة أخرى , ثم قال:
" فهمت".
أرادت أن تقول له : كلا , لم تفهم , أنك لا تفهم أطلاقا , ألا أنها لم تفتح فمها ولم تلفظ الكلمات الأخيرة , ولم تستطع التحرك في فراشها لتحمي نفسها من نظرات احتقاره , ثم قال :
" هناك أسم يطلق على النساء أمثالك سنيوريتا , إلا أنني لا أود أن أنطقه".
خلال دموعها رأته يبتعد عنها , أطفأ المصباح ثم سمعته يقول:
" أتمنى لك مستقبلا سعيدا مع خطيبك".