فقط لو أن برني لا تزال هنا؟ فكرت أليكس وهي تسير علي الشاطئ تحت أشعة الشمس, وكانت المراكب البيضاء تتمايل علي سطح المياه, والجبال المرتفعة تحيط بهذا المنظر الرائع.
ولكن أليكس لا يمكنها أن تتخلي عن جمال هذا المكان, وتساءلت ماذا ستفعل , لماذا يجب أن تعود برني الي انكلترا فهي لا تريد أن تبق في هذا البلد الغريب الذي لا تعرف لغته, كانت هذه الاجازة ستكون أجمل لو لم تضطر برني للسفر, فبرني تجيد اللغة الألمانية وهي اللغة المعروفة في كل أنحاء يوغوسلافيا وبما أن أليكس أصبحت وحدها فالأمور لن تسير بنفس الروعة ولكن صديقتها أصرت عليها أن تبقي.
"أنت لا يمكنك أن ترحلي الآن, فهذا بلد جميل,ويجب علي الأقل أن تتمتع احدانا بالاقامة فيه, كما وأن مرض أبي قد لا يكون خطيرا وهكذا سيكون بامكاني العودة بسرعة وقد أكون معك بعد أقل من أسبوعين ونتابع رحلتنا معا"
وافقت أليكس كي لا تغضب صديقتها, ولكنها الآن نادمة جدا, وفجأة شعرت بالخجل فان هذا الرجل المريض ليس والدها هي فلماذا يجب أن تقطع عطلتها؟
نظرت حولها وتأملت هذا الخليج, خليج كوتور, انه مكان رائع, الجزر صغيرة تبدو وكأنها حجارة كريمة علي لوحة زرقاء ولم تنتبه أليكس لذلك الرجل الممدد بكسل علي احدي المراكب وهو يتأملها باهتمام وكانت تجلس وتضع حقيبة يديها علي قدميها.
وعندما رفعت رأسها لترفع شعرها الأشقر الذي يلمع تحت أشعة الشمس ,اكتشفت وجوده فشحب لونها لأن نظرات الرجل كانت وقحة! وشعرت بالضيق والانزعاج ولم تكن قد نظرت اليه جيدا لكنه كان قد ترك فيها شعورا غريبا.
انه ليس من نوع الرجال الذين تراهم دون ان تنظر اليهم وكان الرجل لا يزال ينظر اليها بعينيه الرماديتين, وشعره البني وهذا ليس مألوفا في يوغوسلافيا. لابد أنه ربان سفينة يريد أن يدعوها لجولة علي متن مركبه. ترددت لحظة, الفكرة تعجبها ولو كانت برني مكانها لاستغلت الفرصة ولكن وحدها مع هذا الرجل الوقح... ثم نهضت ووضعت حقيبتها علي كتفها ودون أن تقصد عاد نظرها نحو ذلك الرجل الذي لا يزال ينظر نحوها وهو يبتسم ابتسامة ساخرة
اذا تكررت مثل هذه الأشياء, فان اجازتها ستكون فاشلة. فكرت أليكس بغضب, ففي ايطاليا مثل هذه التحرشات كثيرة وشائعة ولكنها لم تكن تعرف أنها شائعة أيضا في يوغوسلافيا يبدو أن موقف الرجال هو نفسه في كل العالم.
ومع برني لم تكن لتصادفها مشاكل,والآن لا تقوم بأي شيء سوي التسكع حتي سلوفاني والتمتع بمنظر الساحل....ولديها متسع من الوقت تقريبا سبعة أسابيع من هذا الصيف, وهذا من فضائل كونها معلمة.
وهذا ليس السبب الوحيد بالتأكيد, فهي تحب عملها وتحب تلاميذ صفها ولقد سبق واشترت لهم بطاقات يظهر فيها جمال هذا البلد
اتجهت نحو محطة السيارات, وكانت تريد أن تذهب الي ديبروفنيك وتزور المدينة القديمة المحاطة بأسوار وفي الطريق يمكنها أن تتوقف بضعة ساعات في هارسيغ نوفي حيث توجد متاحف مهمة, فالسفر في أوتوكار متعب ومن الأفضل أن تقوم بالسفر علي مراحل
فبل أن تذهب كتبت رسالة الي أهلها وكانت تعلم بأنهما سيقلقان عندما يعلمان أنها تقطع الشوارع وحدها, فيجب عليها أن تطمئنهما وتقول لهما كم هي سعيدة في اقامتها هنا وكل ما يهمها فكرة واحدة, أن لا يشغل بالهم عليها ,فان لديهم المشاكل والهموم التي تكفيهم.
كانت تجلس في السيارة بين اثنين من اليوغسلافيين بصمت وتتأمل المناظر الجميلة, وكانت السيارة تتوقف أحيانا في بعض القري وكانت تري علي الطريق النساء الكبيرات يرتدين ثيابا سوداء ويحملن حزمات الحطب الثقيلة ويدفعن أمامهن الحمير المحملة بالأثقال.
بالطبع أهلها لا يعيشون مثل هذه الحياة الصعبة,ولكن قد يكون هؤلاء الناس مقتنعين بحياتهم هذه ولا يريدون ابدالها بحياة مليئة بمظاهر الفخامة, وتذكرت أليكس طفولتها, كانت تعيش بسعادة بين أهلها الذين يحبونها وقد كانوا دائما يشجعونها علي القيام بأي عمل تريده والهموم التي تثقل كاهلهم لم تدمر عزمهم, انهما يعملان كثيرا ويتعبان في متجرهما وهما محترمان من الجميع ولقد كان فخرهم بها كبيرا وخاصة بنجاحها في علومها الدراسية وشعروا بسعادة كبيرة عندما أصبحت مدرسة, ولقد حالفها الحظ ووجدت عملا في القرية المجاورة وهكذا تعود للعيش معهم.
ولكن الألم الكبير الذي أصابها منذ عشر سنوات لم يمح بعد, وتذكرت أليكس بحزن عيون والدتها المليئة بالهموم وأكتاف والدها المقوسة قليلا...هزت رأسها لتزيل هذه الأفكار السوداء, فالتفكير هذا لن ينفع, يجب عليها أن تفكر بالحاضر, بهذه العطلة التي تتمني أن تنجح بها وحدها أولا , والتقطت العديد من الصور كي تريها الي برني.
كانت السيارة تسير ببطء فأحست أليكس بالكسل ثم استيقظت فجأة...لقد توقفت السيارة في احدي المحطات وكان الهواء مليئا برائحة البنزين والدخان, وكان الناس في السيارة يضجون كثيرا يضحكون ويثرثرون, وبعضهم يتهيأ للنزول ولقد دفعها بعض الركاب فاضطرت للنزول ووقفت علي الرصيف, وبعد قليل تفرق الركاب وانطلقت السيارة وتذكرت أليكس أنها نسيت حقيبتها تحت المقعد الذي كانت تجلس عليه فصرخت" أوه لا حقيبتي!"
وظلت تصرخ بيأس والسيارة تبتعد,هذا مستحيل! لا يمكنه أن يرحل هكذا دون انذار! ان كل حوائجها موجودة في هذه الحقيبة التي تحملها علي ظهرها, ما عدا جواز سفرها والكاميرا وبعض المال تحمله في حقيبة يدها.
ماذا ستفعل؟ وكيف ستشرح موقفها؟ فهي لا تعرف اللغة اليوغسلافية ولا تعرف سوي بضعة كلمات ألمانية.
يجب أن تجد حقيبتها, لقد وضعت فيها كل الشيكات السياحية وعندما فكرت أنها ستبقي في ذلك البلد الغريب بدون مال , ازداد غضبها.
لابد أن هناك وسيلة ما يجب أن تجد من يساعدها.... وبعد نصف ساعة ولشدة حزنها أخذت بالبكاء, لم يكن هناك أحد يتكلم الانكليزية, ولم تنفعها تلك الكلمات الألمانية القليلة التي تعرفها, وبعد قليل تشجعت وغادرت المحطة واستندت الي حائط واستسلمت يائسة
"هل تصادفك متاعب؟"
انتفضت ونظرت الي البحار الشاب الذي يبتسم لها بأدب
"أنت انكليزية؟ هل أستطيع مساعدتك؟"
"أنت لطيف ولكن كما تري لا أعتقد أن أحدا يمكنه مساعدتي, لقد نسيت حقيبتي في السيارة الكبيرة وقد رحل دون أي انذار, ولا احد هنا يجيد الانكليزية و..."
"حسنا لقد فهمت. ولكن السيارة أصبحت بعيدة الآن"
"نعم وأنا لا أدري الي أين تتجه ,وكل أموالي في الحقيبة وأنا لا أعرف ماذا...."
انهمرت دموعها وبدا الأسف علي وجه الشاب " يجب أن تقصدي مركز الشرطة فقد يتمكنون من مساعدتك, أنا مضطر للذهاب الآن"
"حسنا, انها فكرة جيدة, فقد يكون بين عناصر الشرطة رجل يجيد الانكليزية"
أشار لها البحار علي الطريق وظلت تنظر اليه وهو يبتعد وكأنها تفقد صديقها الوحيد, فقطعت الشارع وسارت في الطريق المزدحم بالسيارات والدخان وشعرت بالتعب وبدا لها الطريق طويلة جدا وعندما وصلت الي المبني الذي دلها عليه, شعرت بصمت غريب وكأنه لا وجود لحياة فيه...والآن؟ يجب عليها أن تدق علي أحد هذه الأبواب
دقت علي عدة أبواب ولم تسمع جوابا, وكادت ان تجلس علي الأرض في ذلك الممر الطويل عندما فتح أحد البواب وخرج منه شرطي يوغسلافي
"وأخيرا! هل تتكلم الانكليزية؟"
ولكن لا فائدة كان الشرطي لا يتكلم الانكليزية ولا حتي الألمانية وطرح عليها سؤالا لم تفهمه. وفجأة سمعت أصواتا ووقع أقدام في الممر فنظرت الي رجل الشرطة ولمع بريق أمل في عينيها.
اقترب منها رجلان ....وكانت دهشة أليكس كبيرة.
مستحيل! لابد أنه أخوه أو ابن عمه.... ولكنها متأكدة من أنها رأت هذه العيون الرمادية المشرقة وهذا الشعر البني, وشعرت مرة أخري بالضيق والانزعاج من نظراته التي كان ينظر بها اليها هذا الصباح. انه نفس الرجل الذي رأته في كوتور ممددا علي مركبه. يرافقه الآن رجل شرطة لابد أنه المفوض نفسه لكثرة الاشارات التي علي بدلته, ورمقها الرجل بنفس النظرات مما جعلها تثور خائفة.
لماذا هو بالذات, و بماذا سيساعدها؟؟؟؟