" هذه هي الأوراق التي أستبعدتها , لا أعتقد أنها تستحق النشر , على الأقل الآن".
تفحص بعض الأوراق ثم وضعها مكانها.
" أعتقد أنك على حق".
" لست متأكدة تماما من بعض الأبيات , أنها غير مقروءة تقريبا , وفيها الكثير من التصليحات والتعديت ".
" هذه مثلا؟".
سألها وهو يأخذ القصيدة التي بدأتها لدى وصولها , أنحنى على الألة الكاتبة وأدار الأسطوانة ليخرج الأسطر الأخيرة.
" لا ليس هذا أحسن ما كتبه".
نظر اليها بتساؤل ودهشة وأطال نظرته حتى أحمر وجهها , ثم نهض ومشى بجانبها حتى كاد يلامسها مما جعلها ترتعش.
طلب اليها قبل أن يغلق الباب بهدوء:
" لا تنسي وعدك".
هذه اللحظات التي مرت بصحبة الرجل الذي أحبته سرا غيّرتها تماما , ولم تعد تستطيع العمل فقررت أن تذهب لتناول الطعام على أن تعود بعد الظهر , وقبل أن تخرج رتبت الطاولة ,وعندما سحبت الورقة من الآلة الكاتبة جذب أنتباهها سطر , ( وجها البرونزي يبرز من خلال ستائر سميكة من الشعر الأسود ) لم تنتبه اليه من قبل لأن أنتباها كان منصبا على فك الحروف والكلمات , أنه يعني سالي , وتساءلت أذا كان راوول قد أنتبه الى هذا , وهل هذا ما جعله يغير رأيه الى هذا الحد؟ لقد حكم عليها بأنها لا أخلاقية وأنها مسؤولة عن موت أخيه.
وبأصابع مرتجفة أخذت القميص وخرجت , صعدت الى غرفتهابعد تناول الطعام , تراكم تعبها عليها , فنامت طيلة بعد الظهر , ثم بقيت فترة طويلة في الحمام لتزيل التعب عن جسمها المنهك , غسلت شعرها ومشطته طويلا , وهي تفكر بحياتها المهنية الغنية جدا , وحياتها العاطفية الفقيرة جدا.
أستفاقت من أحلامها وبدأت تعد نفسها للعشاء , القميص كان أجمل لو صنع على مقاسها , لكن فتحة الصدر كانت كبيرة ( وما أهمية ذلك ؟ ) قالت لنفسها ( السيدة دوبريان لا تبصر ,وراوول عنده أمرأة أجمل مني بكثير).
لبست تنورة من المخمل الأخضر القاتم , ولكن لم تكن لديها حلية تليق بالقميص فقررت أ تضع وردة على فتحة الصدر.
تأخرت أكثر من المعتاد عندما نزلت الى الصالون , كانت السيدة دوبريان جالسة على أريكتها المفضلة , وراول مرتكزا بكوعه على المدفأة يرتدي بذلة نيلية , توجه اليها بأبتسامة رضا وأعجاب.
" أنك وردة أنكليزية جميلة هذا المساء , أشكرك لأنك نفذت وعدك".
قالها وهو يغمرها بنظراته.
أحمرت خجلا مع أنها لم تهتم لفتحة الصدر في غرفتها , أما السيدة دوبريان فأنحنت وكأنها تريد أن تخترق الستارة السميكة لعماها.
" عن أي شيء تتحدثان؟ أريد أن تقصوا عليّ".
أجاب وهو يضحك:
" ديللي وعدتني أن تلبس قميص الدانتيل الذي وجدته في بوي , أنه جميل جدا وكأنه صنع خصيصا لها , تبدو جميلة كوردة".
وأضاف بصوت مختلف:
" لكن عندما تحمر خجلا , كالآن , فأن لوحة الألوان تكتمل بشكل رائع".
" راوول , كف عن التنكيد على دليلة , ومن الأفضل أن تقدم لها كأسا بدل أن تتفحصها كأنها أحدى موديلاتك".
وأثناء العشاء , بدأت ديللي تسترخي تدريجيا , فأستندت على مسند كرسيها ولكنها لم تجرؤ أن تنظر الى راوول خوفا من أن تفضحها مشاعرها.
وحاولت السيدة دوبريان أن تثنيها عن الرحيل فور أنتهاء العمل , وأضاف راوول صوته الى صوت أمه لربما تراجعت عن قرارها , لكنه لم يبد أي تأثير وكان على العكس في أحسن حالاته المزاجية , مرحا , نشيطا , فرحا وقد يكون ذلك بسبب أفتتاح معرضه في باريس.
أحست عدة مرات بأنه يحاول أن يلفت نظرها لكنها تحاشت أن تلتقي عيناها بعينيه ,وعلى كل حال فالعشاء كان ممتازا , ومضيفتها كانت فرحة.
قلت السيدة بعد أن عادوا الى الصالون :
" راوول , أخبرتني أرنستين أن نويل كانت اليوم في القصر".
أجاب وهو يساعدها في الجلوس على أريكتها.
" آه , نعم".
" أعتقد أن نويل تركت لك رسالة , وأن أرنستين وضعتها في مرسمك".
" لا , أنها تعرفأنه يجب عدم أزعاجي أثناء العمل".
قرعت السيدة دوبريان الجرس المعلق في السقف فحضرت أرنستين.
" رسالة السيدة روسينيول , لو سمحت , وأحضري لي العلبة التي في غرفتي".
ألتفتت ديللي وقد تغير مزاجها.
" هل ستنزعجون أذا طلبت منكم السماح لي بالأنسحاب؟".
أجابت العجوز :
" أرجوك أن تنتظري قليلا".
ثم وضعت يديها على ركبتيها وتابعت:
" والآن يا راوول , ما الذي لدى هذه السيدة لتقوله ولم تقله البارحة مساء ؟ لقد بقيت هنا طويلا بعد ذهابنا أنا وديللي للنوم , ديللي يا عزيزتي , ألا ترين أن أبني يضحي كثيرا من أجل هذه السيدة؟".
دخول أرنستين أنقذ ديللي من الأرتباك , وأخذ راوول العلبة المخملية الكبيرة من أرنستين مع المغلف البنفسجي , وأعطى العلبة الى أمه قبل أن يفتح الرسالة , قرأ الرسالة ثم أبتسم برضى , أدارت ديللي وجهها وسمعته يضع المغلف في جيبه".