فأجابته أنطونيا بالأنكليزية :
" صباح الخير , يا سيد برنارد , كيف عرفت من أنا؟".
فأجابها:
" أعطاني أحدهم أوصافك , فقال أن قامتك رائعة الجمال , وشعرك أشقر , وعيناك كبركتي عسل غامق اللون , وظننت أنه يبالغ في هذا الوصف ألى أن رأيتك, ولا يمكن لهذا الوصف أن ينطبق على أكثر من فتاة واحدة في هذه الأنحاء".
فأحمرت وجنتا أنطونيا من الحياء , لا لأنها لم تكن معتادة على المديح فهي منذ طفولتها تسمع الناس يثنون على جمالها ,مع أن والدها لم يكن يحبذ العادة الأسبانية في كيل المديح للأولاد , بل لأن تلك النظرة التي رمقها بها السيد برنارد لم يسبقه الى مثلها أحد من قبل.
فقالت له بفتور:
" آسفة ألا تجد أحدا في المنزل لأستقبالك , خالي ذهب الى مكان ما في الجبال لمقابلة رجل عجوز كان يشتغل عندنا وهو الآن على فراش الموت , وأنا لم أتوقع قدومك ألا بعد حين , ولولا ذلك لما خرجت للنزهة".
فأجابها:
" أنا الذي يجب أن يعتذر على قدومي باكرا , أهيت عملي في أليكانتي بأسرع مما توقعت , فرأيت أن أقضي أطول وقت ممكن هنا في الريف قبل أستئناف سفري الى برشلونة".
وجال بنظره في تلك الأرجاء وتابع قائلا:
" هذا جزء رائع الجمال من أسبانيا , وهو كثير الخضرة كأنكلترا ".
فأجابته أنطونيا:
" نعم , وأنا أحب هذا الوادي , لا سيما في شهر شباط( فبراير) حين يزهر اللوز".
وفيما أخذ يتمتع بمرأى البراعم البيضاء الوردية على أشجار اللوز المنتشرة في الحقول الواطئة , كانت أنطونيا تنظر اليه بتأمل , فهي لم تتعرّف في حياتها كلها الى وطن والدها الأصلي , كما أنها لم تلتق ألا القليل من الأنكليز , وكان المنزل الريفي في منطقة أسبانية ذات مناخ معتدل في الشتاء , مما جعل الأقبال عليها شديدا من قبل المغتربين عن بلادهم , ولكن معظمهم كان من الذين أحيلوا على المعاش بعد بلوغهم سن الشيخوخة.
منتديات ليلاس
وفي الصيف كانت أنطونيا تستحم مع والداها في مسبحهما الخاص , أو تستقبل وأياه مركبا يحملهما الى كهوف لا يمكن الوصول اليها عن طريق الشاطىء حيث يكثر السواح , ولذلك فلم يتسن لها معرفة أحد من جيل كال برنارد وطرازه , وأعتادت أنطونيا أن تعيش بين رجال عيونهم بنية اللون أو رمادية اللون أحيانا , فلا عجب أن تجد عيني كال الزرقاوين أبرز ملامحه , وأكتشفت فيما بعد لماذا كان أنفه غريب الشكل , حين علمت أنه أصيب بلكمة في صغره , وهذا ما أكسب وجهه , أذا نظرت اليه من جانب واحد , مزيدا من الصلابة , وقلّما كان لأحد من الطبقة العليا أو الوسطى من الأسبان ذلك النوع من الوجه الذي كان سائدا لدى الغجر ومصارعي الثيران.
وفيما هذه الفكرة تخطر ببالها , ألتفت كال فجأة , فوجدها تنظر اليه بأمعان , وكان بينهما مرتفع وقف هو في أسفله , ولكنه لطول قامته بقيت عيناه أعلى من مستوى عينيها , فقال لها:
" أنت فتاة غير أعتيادية , يا آنسة مارلو!".
" أنا؟ لماذا؟".
فقال لها:
" لأنك لم تسأليني من وصفك لي ذلك الوصف الشعري , أما لديك حب الأستطلاع لتعرفي من يكون هذا المعجب بك ؟ أم أنك تعودت المديح فلم يعد يثير أهتمامك؟".
فقالت له:
" حظيت بوالدين لا يعوزهما حسن المنظر , أيها السيد برنارد , فأمي أجمل مني بكثير , وفي أية حال , أعتقد أن الذكاء أهم من جمال الوجه , فهو بخلاف الجمال يدوم طوال الحياة".
فقال موافقا:
" هذا صحيح , ولكن الجمال , ما دام باقيا , فهو يبعث البهجة في النفس أكثر من الذكاء".
فأجابت :
" ربما للآخرين , لا للذين يعنيهم الأمر , أنا أفضّل أن أكون ذكية مثل والدي الذي توفي السنة الماضية".
فقال من دون أن يظهر الأسى كما هو مألوف:
" نعم علمت بذلك".
منتديات ليلاس
ونزلا الجبل , واحدهما يتبع الآخر , وكانت أنطونيا في المقدمة , ولما وصلا الى المنزل سألته أذا كان يحب أن يتناول فنجانا من الشاي أو يريد الدخول الى غرفته أولا , فأجابها بأنه يفضل كأسا من الشراب , ثم أخذ يجول بنظراته في غرفة الأستقبال التي كانت رفوفها تغص بالكتب وجدرانها باللوحات الفنية التي حرص والد أنطونيا على أختيارها وجمعها طول حياته.
" هل تهوين القراءة , آنسة مارلو؟".
" نعم , كثيرا جدا".
" بالأنكليزية كما بالأسبانية؟".
" نعم , ولمن بالأنكليزية أكثر".
وهنا عاد الآخرون , ولم تأخذ أنطونيا بنصيب من الحديث طوال بقية النهار , وبدا لها منذ البداية أن كال برنارد أحب المنزل , وحين أقتربت الساعة العاشرة ليلا , وفيما كان الجميع يتناولون طعام العشاء , أعلن كال عن عزمه على شراء المنزل , بما فيه الأثاث وما اليه , لكي يكون صالحا للسكن في الحال.