* (( القيد الثاني )) *
دخلت الصالة, لتجده يتصرف على راحته, كأن البيت بيته, وبجسده المكتنز متربع على كبد الكنبة التي تتوسط الصالة,
ورائحته الكريهة تهجم على خلاياها الشمية لتخنقها قبل أن حتى تصبح بمقربة منه, ليقف من فورة ووتجلى تلك الرقعة التي
تكسي جسده والتي من المفروض أن يكون لونها أبيض, لكن طغى السواد عليها, ابتسم تلك الابتسامة الواسعة التي كشفت
عن أسنان كساها اللون الأصفر الغامق, يتخللها بعض السواد, وقال مرحبا كأنه هو صاحب البيت وهي الضيفة:
- يا مرحبا بأم حمدان, يا مرحبا الساع..
-
قالت وهي تحاول أن تتحامل على ضيقها, وعلى تلك الرائحة النتنة المنبثقة منه:
- مرحبا بك يا بو أحمد
- أخبارك وأخبار العيار ؟ وأخبار بو سيف وأم سيف..؟
- يسرك الحال , الكل بخير وسهاله.
- أخبارك أنت, وأخبار أحمد؟
- بخير الحمد لله, نسأل عنكم.
- تسأل عنكم العافية.
- ليش اللتات إلي بره مبنده, لا يكون خربانه؟!
كانت قوى التحمل لديها بدأت تنفذ, وهي ترد على سؤاله الحشري:
- لا مو خربانات, بس تعرف الحين وقت نوم.
يرفع كلى حاجبيه, ويقل مستغربا:
- وين نوم يا أم حمدان, الساعة توها داخلة عشر, هذا وقت عشى مو نوم, حشى أنتم دياي
ترقدون ها الوقت.
وأطلق تلك الضحكة التي تخرم الرأس قبل طبلة الأذن, فقالت وقد بانت بوادر الضيق
على وجهها:
- تعرف الأولاد وراهم مدارس الصبح, عشان كذية ينامون من وقت.
- يعني تعشيتوا ؟؟
لتهز رأسها بنعم, وهي مدركة لما يرمي إليه, فقد فاته العشاء المجاني.
صفق بكفيه ببعضهما البعض وقال:
- أخس فاتني, تعرفين أني يعجبني طبخك, ما في أحد مثلك يعرف يطيخ المكبوس لحم, صح وش كان عشاكم؟
هنا وصلت حدود عدم التحمل, ومع هذه الأشكال لا ينفع الجلد معهم, يجب أن تنفجر عليهم مباشرة, وإلا تمادوا:
- صالح اسمح لي, أنا تعبانه وأريد أرقد.
تجلى الخوف على محياه, وقال:
- خير خير , وش فيك ؟ لا يكون الفيروس إلي منتشر ها الأيام, أيوه, هو الفيروس شكلك فيك الفيروس, قعدي ... قعدي أرتاحي.
وأخذ يشير لها بالجلوس على الكنبة.
لتنفذ ضيقها بداخلها: (( أفففففففففففففففففف وش ها الصقة, وش أسوي به عشان يغور ؟ ))
- بروح أي بلك ماي, أنت بس قعدي ورتاحي.
وقبل أن تدرك ما قال, وجدت طيفه قد دخل المطبخ, لتذهل من وقاحته التي ليست بالغريبة عليه.
_______________
وصلها صوت نحيبها قبل جسدها, فهلعت وركضت نحوها, لتجدها وقد فتحة مناحة ليس لها أول من آخر:
- خلاص راح ... راح محمد عشان يطلب أيدها.
فهبت إليها أمها وحضنتها, وقالت مواسية:
- هالغبي إلا وسوى الي براسه.
لتصرخ بأعلى صوتها, من بين شهقاتها الباكية:
- لحقيني أمي لحقيني .. أحسني بموت.
وضعت يدها على رأس ابنتها وأخذت تتمتم بشيء لبضع دقائق, ومن ثم أجلستها وقد بدأت تخف نوبة بكائها, ومن ثم قالت لها:
- بسم الله عليك بنتي عين وما صلت على النبي أصابتك, الحين بطسل بخالتك عشان نلقي
بصره لمحمدوه هذا....
وقبل أن تمسك بسماعة الهاتف, لمحت احمرارا على طرف فم ابنتها, وقالت داعية:
- الله لا يوفقك محمدوه, هذا من عمايله, صح ؟
لترد وغصة من البكاء تتحشرج في حلقها:
- أيوهههه .
وتعو لموجة النواح
لتربت على كتف ابنتها مواسية
وتضغط بسرعة البرق على الأرقام بيدها الأخرى, ليأتيها بعد صياح طال من على الخط الآخر صوت بالكاد تلتقطه أذنها:
ألو ...
لترد وصوت الضجيج يكاد يخرم طبلة أذنها:
- ألو شيخه وش الأصوات إلي عندك؟ ما أسمعك ...
- وش؟!!
لترد بصوت أعلى من قبل:
- أقولك ما أسمعك, وش الضجة إلي عندك, أنت وين؟
لترد صارخة:
- أنا في حفلة ملكة بنت رحمة, تعرفينها.
قوست حاجبيها بضيق, وقالت:
- وش قلت؟! ملكة وبنت أختك هني المسكينة تنوح عسب ريلها إلي ما فيه خير.
لترد عليها مرتاعة:
- خير وش فيها حصة؟ وش سوى ريلها؟
- تعالي أنت وأنا بقولك كل شيء, بس تعالي خلينا نلقى بصره له, لازم ما نخليه يعرس.
- بس الحفلة توها بادي, وما لحقت آكل شيء.
لتقول بضيق يغلف صوتها:
- لا حول ولا قوة إلا بالله, ما همك إلا كرشك, تعالي وأنا بعشيك أحلى عشوه, بس تعالي بسرعة البنت بتروح من يديه.
جاءها صوت أختها الضاحك من الطرف الآخر من الخط, ليليه صوتها:
- أنت بتعشيني, منين يا حسرة, أترك اللحم والشحم, وأروح آكل عظام الدياي.
لتزجرها:
- أقولك يا شيخه, تعالي الحين, تراني من الضيق ما أشوف إلي قدامي.
لترد من فورها:
- أزين أزين بيي, حشى كأنك بطلعين لي من السماعة وتاكليني, ما أحد يتفاهم عندك, يلا جهز لي شيء آكلة تراني يوعانة موت, وأنا ما أعرف أشتعل وبطن خاليه, أنت تعرفيني أزين.
__________________
ابتسمت وهي تقول بمكر:
-
- لا تخافين .. هذا أخوي يتدلع عليك, يبى يشوف غلاته عندك بس.
لترد عليها مدافعتا, وشيء من بحة الخوف تحيط بصوتها:
- لا حرام عليك, صوته البارحة كان وايد تعبان.
لتقول ساخرة:
-
- أيوه أيوه .. اتصالات من ورانا... وش هالخيانة... ما تقدرين تصبرين كمن يوم.. خليه يشتاق لك على الأقل.
-
لترد عليها وقد بان الخجل بنبرة صوتها:
- هو أتصل بي, تبين ما أريد, كيف؟ هو زوجي, تبينه يعصب عليه قبل لا يلمنا بيت واحد.
لتكمل مزحتها قائلة:
- أيوه ... شكله أثمرة أخيرا كورساتِ المكثفة فيك, أباك كذية زوجة مطيعة, همك زوجك بس.
لتلتقط آذنها صوت ضحكتها من على سماعة الهاتف, ومن ثم صوتها الذي بالكاد يسمع:
- لا تخافين علية, بخليه في رموش عينه.
- الله وش هالكلام الكبير, وينك يا حميد تسمع هالكلام, وينك؟
لتقول باستحياء:
- بس خلاص ما أقدر بموت من الحياء, بسكر أحسن.
- بتشردين يا ريموه, توه بدأ الكلام يحلو.
- بس هند, والله مو قادرة أتحمل, ويهي أحترق من الحياء, وبعدين وراية باكرة قومه من الصبح عشان أروح الصالون, يلا مع السلامة.
عادت ترمي بتلميحاتها الساخرة :
- قول أنك مستعلة تسكرين التلفون عشان تكلمن حبيب القلب, الحين موعدة صح, الله يرحم
أيام أول كنت تكلمين بساعات ولا يهمك شيء, الحين يي حميد وأكل الجو عليه.
لتقول بضيق زائف:
- تعرفين أنه ما أحد يعطيك ويه, يلا فارق مع السلامة.
وتغلق الخط من فورها, وترسم ابتسامة فرح يتدفق من ذكرى الحبيب.
___________________
أخذت تنظر إليه بنصف عينيها, قد أعتصر وجهها الضيق والغضب معا, فهذا المخلوق
المتجرد من الحياء, لا يزال يثرثر بلا توقف, وهو يأكل كعكة الشكلاة التي أخذها من
المطبخ بدون إذن, بطبع, كيف يخرج من هذا البيت خالي الوفاض, كان يجب أن
يحصل على مبتغه, حتى لو كانت مجرد كعكة صغيرة الحجم, المهم شيء يصل إلى
معدته.
أخذت تتأفف, لعله يلاحظ ويخجل من نفسه ويرحل, لكن بلا فائدة, كان منهمك في مضغ
الكعكة, والتكلم في مواضيع لا تهمها.
فلجأت للحل الثاني, وهو بأن تمثل دور الناعسة, أخذت تتثاءب وتمد أطرافها.
لا حيات لمن تنادي..
شخص متبلد المشاعر ..
لا يوجد في وجهه ذرت من الحياء ولا حتى الكرامة...
بدل أن يسألها هل أنتِ نعسانة ؟ هل أرحل ؟
جاءها سؤال آخر, يفتح بابا مطولا للحديث ..
سألها بفمه المملوء بالكعك, وقد تطايرت بعض قطعها من فمه بصورة تقزز الناظر لها:
- من سوى هالكيكه العجيبة؟ لا تقولين عروستنا سوتها ؟
وابتسم ضاحكا ...
لتقابل سؤاله, بعلامة استفهام كبيرة رسمت على وجهها, وترجمتها بسؤالها:
عروستكم ..
وقبل أن تكمل سؤالها, جاءتها صرخة ابنتها فاطمة الهلعة:
- أمي لحقي مريم .. مريم ما أدري وش صار لها ... لحقي..
ليقع قلبها من عرشه إلى الأقدام من شدت خوفها.
_______________
حاول للمرة العاشرة أن يقوم, لكن بلا فائدة, فقواه قد خارت أمام الهجوم الكاسح الذي
شنه عليه خبر حضوره, حضور الموت, ضيف ثقيل على القلب, يفرض نفسه بالقدوم
لزيارة هذا الجسد الفتي, ويرحل لكن معه ذكرى من هذا الجسد, وهي جوهر هذا الجسد,
نبع حياته, ألا وهو الروح.
أراد أن يصرخ...
أراد أن يشكو ...
أرد أن ينفجر...
أراد أن يبكي...
لكن لم يقوى على فعل شيء من هذا ...
فالإستسلام ...
هو العدو الآخر الذي أستغل ضعفه ...
و احتل جسده ...
الفاقد للنضال ...
وللمقاومة...
دفن وجهه بين يديه ...
وبدأ يشحذ همته المتهالكة ...
فلا بد من رحيل من هذا المكان الذي حكم علية بالإعدام..
أدخل ما باستطاعته من الهواء إلى رئتيه المتعطشتان للحياة...
ومن ثم قبض بطرفي الكرسي الذي بات رفيقه في الساعات الماضية ...
وقام أخيرا ....
لتتم أول مهمة بنجاح ...
وليأتي الأصعب ...
كيف يجبر هاتين القدمين المتثاقلتين على المشي ....
بعد أن استنفذ قواه الموشكة على النضوب ...
خطى أول خطوة ...
خطى وهو لا يعي ما يحدث حوله ...
خطى الخطوة الثانية ...
لكن الخطوة الثالثة لم يكتب لها الحياة ...
فقط ردعها صوت صارخ ... مضرج بدماء الحزن الممزوج بالهلع :
بعد ريلك عن عباتي .... يلا يلا بنت بتروح من بين يدي ... بعد ...
رفع رأسه الذي بات ثقيل الوزن نحو صاحب الصوت, لتقع عيناه على امرأة فضت
الهندام, سكن الخوف أركان وجهها البيضاوي, والدمع انسكب من عيناها الجاحظتين,
كان يرى فمها يتحرك, لكن صوتها لم يصل إلى طبلتي أذنيه, كأن قدرته على السمع قد
أصابها العطب, كما أصاب سائر جسده . وأسقطها فريسة له الواحد تلو الآخر, ليأتي الدور الآن على أذنيه.
أخذ يحدق بها بعينان تائهتين, يحاولن أن يفكن شفرة الكلمات الخارجة من شفتيها
المكتنزتين, فعقله لم يعد ملكه, بات مشلولا بصدمة التي صفعته بقوة, فهشمت خلاياه.
ضل على هذا الحال لبضع دقائق, ولربما سوف يضل على حاله بضع دقائق أخرى, لو
أنها دفعت به بعيدا فخوفها على فلذت كبدها فاض عن قدر التحمل عندها, فختل توازنه
وسقط, وركضت هي بجزع وراء ابنتها المحاصرة بالموت..
________________
فتحت الباب ووجهها أحمر قاني من الغض المرسم عليه, وقالت صارخة:
- يوم ما يتي أحسن, ما قلت لك تين بسرعة.
لترد عليها بهدوء الخائف:
- يا صالحة والله العظم تأخرت لأني ما لقيت أحد ييبني, بعد شدة يلا يلا أدبر سيارة.
رفعت رأسها لسماء, لتتبعها كلتى يديها, وتقول شاكرة :
- أحمدك يا رب وأشكرك يوم خليت عبدوه يصيح وما يسكت, وخليتها أمه تتصل بسواق ييب الخدامة معه عشان يشلونه البيت الحمد لله.
عادت تصوب بصرها نحوه أختها المحدقة به بنفاذ صبر, و أكملت بتفاخر:
- وأنتِ تعرفين أختك, إلا وألصق فيها علين خلت السواق يوديني...
قاطعتها أختها, التي تعلم جيدا بأن أختها سوف تسترسل بالحديث إذا لم توقفها:
- خلاص فهمت فهمت, يلا خلينا نلقى لهالمسكينة بصرة, بتموت عليه من كثر الصيياح.
لتسألها:
- وينها الحين أهي..؟
لترد وقد خطت الحزن على عيناها:
- في حجرتي, كنت أباها تنام شوي ترتاح, بس ما طاعت.
ورفعت رأسها للأعلى وأخذت تدعو:
- الله لا يوفقك يا محمد على سواتك هذه , لا أنت ولا أهلك.
لتزجرها أختها قائلة:
- وش هالدعوه؟ أنتِ خبله ؟ تدعين على ولي نعمتك.
ابتسمت بسخرية وقالت:
- وين ؟ هذا أول, الحين بتاخذه وحدة ثانية وبتلهف كل شيء.
ابتسمت وقالت بمكر:
- لا إن شاء الله ما بييصر شيء من ذي.
لترد وشغف ينحت وجهها لجوب يشفي غلها:
- وش عندك بصره ؟
لتضرب شيخه صدرها بكل فخر, وتقول وثقة تنضح في صوتها كما وجهها:
- أفع عليك أنا شيخة أم الطبوب , الحل عندي.
لتجاوبها والفرحة تشع من محياها:
- كفو ... هذا عشمي فيك شيخه.
رسمت الحيرة عليها قبل أن تسأل مستفسرة:
- بس الأول بعرف, وش قلب الريال عليها؟ ! ما كان يحبها ويموت فيها, وما يرفض لها طلب.
ضيقت عيناها, وقطبت حاجبيها, ونفثت غلها في صوتها:
- أقص أيدي إذا ما كانت أمه هي إلي غسلت مخه, ما كان حلو وعين الله عليه, بس شكلها زنت على رأسه علين استسلم ووافق, أبونها ما تحب حصة وما تريدها له.
أشارت بأصبعها بلا وقد كان التفكير العميق يسكن ثنايا تعابير وجهها:
- لا لا لا , مو هذا السبب, لو كان السبب هو زن أمه لكن سوى ها الشيء من زمان, هذا عمل, شكلها أمه مسوية له عمل.
لتأيدها أختها من فورها وبنفس الوقت تطعم غرور أختها بلقاح المديح:
- صح صح . العمل لعب بمخ محمد, وخرب حيات بنتي, لحقينا يا شيخة , لحقينا.
رفعت أنفها إلى أعلى وقت بات رأسها يسبح في سحاب الغرور, وقالت بنبرة الثقة التي تسكن صوتها:
- لا تخافين , كل شيء بيكون تمام التمام, بس أنت جهزي عشاك, تعرفين مخي يسكر يوم أكون يوعانه.
+++ يتبع +++
** ملاحظة: بإذن الله سوف يكون كل أسبوع جزئين, وسوف يكونان بين أيديكم يا إما الأربعاء أو الخميس أو الجمعة, أرجو بأن تكونوا في ضيافتنا خلال هذه الأيام ولم تندموا **