* (( القيد الأول )) *
كصفعة قوية جاءها خبر وفات زوجها, الذي خرج كعادته إلى العمل, لم يكون ذلك اليوم يختلف عن أخوته, استيقظ منذ الساعة الخامسة صباحا , لكي يلبي نداء الرب....
أنها تذكر ذلك اليوم القاتم اللون بأدق تفاصيله, فكيف تنساه, وقد كان يوم الرحيل, رحيل الحبيب الأول والأخير في سجل قلبها ....
خرج من الحمام ليجدها تنتظره و ابتسامة تشع من شفاهها المكتنزة, مدت يدها نحوه محملة بفوطة, أمسك بما تحمله تلك اليد وتعمد أن تلامس أصابع يديه يدها البيضاء, فابتسمت على استحياء, وقال:
- مشكوره ياقلبي... ما أعرف كيف بسوي شيء بدونك
لترد والابتسامة لم تهجرها:
- عشان تشوف أنه دنياك بدوني بتكون فوضه.
بحركة سريعة أمسكها من خصرها, وسحبها على حين غرة نحوه, ليتلاقى الجسدين, وتتصافح الأنفاس الملتهبة...
وقال:
- وأنا قلت غير هالشيء.. يا كيكتي.
أخذت تبعده عنها...
فتفاجئ من فعلها ...
وأخذ يحدق بها بعينين تعكسان الإستغراب...
فسألها:
- وش فيك ...؟؟!!!
لترد وقد تحررت أخيرا من حضنه :
- شكلك نسيت ولي العهد إلي ياي في الطريق, تريد تخنقه ...
وأشارت نحو بطنها المكورة...
ضرب بكفه على جبينه وقال:
- أوووووووووووووووه ... كيف أنسى هالشيء .... متى بيي ونرتاح ... بسببه غادية ترتيبي الثالث في قائمة أولوياتك ... كنت على الأقل قبل في المركز الثاني بعد عيالك ... الحين رديت ورى بدل لا أتقدم ...
ضربت كتفه بخفة .. وقالت:
- يالشيبة تغار من هالياهل إلي بعده ما أنولد.
ليرد ضاحكا :
- مو حقي ... حرام عليك .. مو قادر أتحمل .
وطبع قبلة على السريع على شفتيها ... وركض مسرعا نحو باب الغرفة وهو يضحك قائلا:
هذه تصبيره علين يشرف الحبيب .
وضعت أطراف أصابعها على شفتيها وابتسمت وهي تسترجع أول صفحة من ذكرى يوم الوداع في أجندت ذاكرتها.
قاطع تصفحها للماضي صوت ابنتها الكبرى وهي تسألها:
- أمي .. أمي ... أمي ...
بدرت منها رعشت العودة من عالم الذكرى ... إلى الحاضر المرير ... نظرت نحو ابنتها وقالت:
- وش فيك فطوم ؟!!
لترد من فورها:
- أنت وش فيك أمي ..؟! من وقت وأنا أناديك.
لم تقدر على البوح بالحقيقة, فابنتها فاطمة بالكاد تخطت عتبت الماضي, وبصعوبة, فهي الكبرى, فرحتهم
الأولى, لهذا كان سيف يعاملها بطريقة خاصة, غير أخوتها الباقين, كان يغدق عليها عطفه لدرجة بعض
الأحيان كانت هي نفسها تغار منها, لهذا كان خبر وفات أبيها كالصاعقة التي أصابتها, فأدخلتها في غيبوبة
الصدمة لأسبوعين كاملين, كانت ترفض حقيقة بأن أبيه رحل ولن يعود لهم, كانت كل يوم تنتظر أباها أمام
الباب كعادتها ... فهي كانت دوما أول المستقبلين له حين عودته من العمل منذ كان عمرها سنتين, ما أن
تقع عيناها عليه حتى تقول بصوت مفخم والابتسامة تشغل أكبر حيز من وجهها:
- تحياتي سيدي الرائد..
وتؤدي التحية العسكرية .
ليرد عليها هو الأخر بالتحية العسكرية ,
ويقول:
- تحياتي أيه المجند.
وتنفجر بعد ذلك قهقهاتهما ...
وتقفز نحوه لتحضنه وتقبله على جبينه.
ليكافئها سيف بلوح شكلاه .
للأسف لن تعود تلك الأيام ... ولن يفتح الباب عندما تدق الساعة 3 مساءا ... سوف يضل ساكنا إلى الأبد ....
كانت تنظر إلى ابنتها وطيف دمعة على عيناها
وهي تسترجع وجعها في خلدها
وضعت كفها على خد ابنتها وأخذت تمسحها وهي تسرق ابتسامة باهتة من شفتيها:
- ما في شيء حبيبتي ... خير وش تبين؟
- أنا ما أريد شيء ... بس صويلح يريدك .
قوست حاجبيها إلى أعلى مستغربتا وقالت:
- هذا وش يريد في ها الوقت ..؟
رفعت فاطمة كتفيها إلى أعلى وهي تقول:
- ما أعرف ...
لتزفر ما أدخلته في صدرها من أكسجين ... وتقول بضيق:
- الله يعيني عليه .
وذهبت بخطى متثاقلة لترى هذا الزائر الثقيل على صدرها ...
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
جذبته من ذراعه ... وصرخت به وقد احتقن وجهها من الغضب :
- إياك تخرج من هني .
ليرد عليها وقد عقد حاجبيه بصوت أعلى من صوتها:
- وش بتسوين إذا طلعت .. ها .. تكلمي يحصيص .
أخذت تغرس أظافرها في ذراعه ... وقد زاد حنقها عليه:
- تعرف أزين يا محمد أني أقدر أسوي أشياء ... مو شيء واحد ... وبعدين أنا اسمي حصة مو حصيص.
دفع يدها بعيدا عن ذراعه ... وزمجر بها قائلا:
- طالت وشمخت يا حصيص ... من تحسبن نفسك ... أنت ولا شيء ... أنا خليتك إنسانة لها قيمة....
ليدوي صوت صفعة في أركان الغرفة .
حدق بها بعيناه المتسعتان
وقد وضع يده على خده المشتعل بنار الغضب قبل لهيب الصفعة
لم يخفها ذلك الغضب الذي أتقد به جسده كله .
قابلته بنظرة لم تلهبها نيران غضبه وقالت بنبرة تحدي واضحة كوضوح الشمس في كبدي السماء :
- علين هنا وبس, إنسانة أكثر منك, يا ..
وقبل أن تكمل جملتها, جاءتها صفعة جعلت الدنيا تدور بها, لتهوي إلى الأرض مجبرتا .. وقد سالت الدماء من فمها, وزمجر بها قائلا:
- أنا الغلطان يوم ما سمعت كلام أهلي وتزوجت بك يا بنت الفقر... مكانك تحت وبيظل تحت ... فلا تحاولين أن تركبين فوق ...
وخرج تاركا إياها تشتعل بحطب الحقد و البغيضة...
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
كان ممسكا بتلك الورقة الصفراء اللون وهو غير مصدق لما تضمنته, هذه الورقة الصغيرة تحتوي على أمر موته...
كيف يموت وهو لايزال في عقدة الثالث... والعالم قطبا يترقبه لكي يكتشفه ... ؟
كيف يموت ويترك أمه وأخواته الثلاث لوحدهن يواجهن براثم هذا العالم الموحش ...؟
كيف يموت ولم يتبقى إلا أسبوع واحد فقط ويعقد قرانه بالمرأة التي يعشقها ...؟
كيف ..؟!!!
كيف ..؟!!!
كيف ...؟!!!
أسألت كثيرة تبحث عن أجوبة في عقله العاجز عن إيجاد أجوبة تبل ريقه ...
لكن حتى لو وجد أجوبة لها ...
فهي لن تكفيه ...
فهو يريد أن يعيش ...
يريد أن يتزوج بمن أحب...
أن يصبح أبا ...
أن يرى ابنائه وهم يكبرون ...
وأن يصبح كهلا ....
يريد أن يكمل دورة حياته ... بدون نقصان ...
لكن كيف يحصل هذا ...؟
وهذه الورقة الصفراء التي تستقر في كفة, تقف حاجزا بينه وبين المستقبل, الذي سوف يتبخر أمام عيناه ...
حنا رأسه إلى الخلف , ليسنده على الجدار, ويطلق تنهيدة نابعة من الحزن القابع بداخلة ...
ومن ثم رفع يده وغطى عيناه, فالدمع يريد أن ينسكب ويغسل ولو جزء صغير من وجعة, لطعنة الموت الغادرة التي باغتته ...
تعالى صوت رنين هاتفه النقال ... ليذبح لحظة الحزن تلك ... ولو لدقائق معدودات .. أنتشله من جيب كاندورته بوهن أصاب جسده منذ عرفة بخبر موته المرتقب...
ليرد بدون أن يتعين الرقم المشع من الشاشة .. وبصوت ألتهمه الحزن:
- ألو ..
ليأتيه من الخط الآخر صوت حنون .. متلهف لخبر يسر :
- بشر ولدي .. إن شاء الله الأمور كلها تمام ...؟
كم زادت سؤال والدته من هالت الحزن المحيطة به ...
ماذا يقول لها ...؟
كيف يجيبها ...؟
أيقول لها بأن ابنها الوحيد, سندها في الحياة سوف يموت بعد سنة أو أقل...؟
أيقول لها بأنها هي و بناتها الثلاث سوف يكملن حياتهن في هذا الدنيا الغادرة لوحدهن بلا معين ولا حامي من غدرها الذي أصابه ...؟
ماذا يقول ...؟
لا يستطيع أن يقول شيء من هذا, لأنه بقوله للحقيقة سوف يذبحها, كما ذبح هو, لا يريدها بأن تحزن, فهذه أمه نبع الحنان الصافي, الذي لا يتحمل أن يرى في عيناها الألم والحزن, فقد كابدت الكثير في حياتها من سلسلة أحزان لا تنتهي, والآن وعندما ذاقت طعم السعادة يأتي هو فيذيقها مرارة الحزن من جديد ...
لاااااااااااااا
مستحيل
مستحيل ...
جمع ما يقدر علية من بقايا قوة في داخلة ... وغذى بها صوته وقال:
- لا تخافين يا أم حميد, ما في شيء , بس تعب شوية, تعرفين بسبب التجهيز للعرس, نسيت نفسي ...
لترد وقد تجلى في صوتها نبرة الأرتياح:
- الحمد لله يا ولدي, قلت لك لا تتعب عمرك, لكن كنت تعاند وتراكض تيب هذا وتتعاقد عند هذا, ما يهم كيف بيكون العرس, المهم صحتك يا ولدي ...
كتم بكاءه في صدره وهو يسمع كلمات أمه التي أججت الوجع في صدره ... ورد قائلا :
صحيح يا أمي, كلامك صحيح, خلاص, خلاص ما براكض يمين ويسار, ما براكض...
(( آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه يا أمي يا ليته كان بس تعب, ياليت, لرقدة من اليوم علين يوم العرس, بس هو مو تعب, هو مرض خبيث, صدق إلي سماك خبيث, دخلت في جسمي بدون ما أحس بك, وقعدت تاكل فيه بهدوء عليين استلسلم لك, آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه يا أمي .. آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه ))
روح هائم تلفض بالوجع الداخلي ....
)
+++ يتبــــــــــــع +++
** ملاحظة: بإذن الله سوف يكون كل أسبوع جزئين, وسوف يكونان بين أيديكم يا إما الأربعاء أو الخميس أو الجمعة, أرجو بأن تكونوا في ضيافتنا خلال هذه الأيام ولم تندموا **