بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الفصل الثالث
( التعافي )
ولجت للعلية بينما صراخ السيد يعلو وكأن لهاتهُ استبدلت بجرس خصص للقرع في ليالي مزاجاته العكرة ، استسمحته عذراً وأنا احمل بيدي صحيفة من الذهب مليئة بالفطائر المحلاة المخبوزة ( المشلتت) ليتذوقها فما كان منه إلا أن فغر فاه واتسعت عيناه بانشداه لإعدادي الفطائر وانا في وضع صحي مترد ، كنت منبسطاً الملامح اصطنع العافية وأنا اقدم له الطبق مرتعداً البدن مرتجفاً الأطراف مكثراً من رد الطرف ملقياً ببصري بعيداً عنه بربكة كاذبة تخبره بأن جبروته هو ماصنع بي هذا الذعر المفرط ، تناول إحدى الفطائر المحلاة وعيناه حبورة ولسانه جذلان وتقاسيمه مسرورة متلذذة بماصنعته يداي الماهرة دون شكر وتصريح بحلاوة طعم مايأكله ، كنت اعلم بأن السيد سيحصى عدد الخدم ليلاً وأني سأحتاج لخطة متقنة مسبوقة التنفيذ ، قررت إعداد الفطائر المحلاة في مطعمي وإيكال حمزة مساعدي الخاص في
مطبخ هذا القصر المنيف بخبزها في منتصف الليل قبيل قدوم السيد لحصر الخدم ، باغته اثناء استخراج الحقيقة من فم ام حسن بالفطائر ساخنة التي تنبعث منها البخار والزيت المتلألأ عليها والسكر المنثور كندف الصقيع مثيراً شهيته لابتلاع ماصنعته لتغطية خروجي الصباحي دون اثارة الشكوك وفتح ابواب الأسئلة التي لن استطيع إيصادها ، فرح السيد بشفائي السريع متفحصاً ضماداتي بطرف عينيه وهو يقضم الفطائر بنهم فرحاً بعودة طباخه العليل ليعد له اصناف مختلفة الأوان شهية الرائحة من وصفات فقهتها من مختلف الأوطان من امهر الطهات بأقدم الوصفات ، ينساب من ظهري الصديد بغزارة لتجري اوساخ عقوبة السيد من جراحي المثخنة ، إن جسدي يطهر نفسه بنفسه يطرد النجاسة السيد باستمهال ، اقف امامه متحاملاً على ذاتي من أجل إثبات مدى عافيتي لأتيح لي فرصة الإنتقام منه بصبر واحتساب الأجر لدى الله فإن الفرج يجئ بسرعة مع الصبر ، تظاهري بالصحة التامة وعودتي للطهي سيتيحان لي فرصة الفرار من القصر بشكل يومي دون التشكيك في امري واثارت التسؤلات عن غيابي عن الإضطجاع السريري ، غادر السيد فأطلقت ام حسن زفرات الظفر بالنصر على إبليس سيدنا الظالم والتلاعب على عقليته المكارة التي لم يغب عنها يوماً مكيدة ، القيت بجسدي المتعب على السرير لأنال قسطاً من الراحة وأنا اقهقه لمكري ودهائي ولكن أم حسن تسائلت عن سر ضحكتي السعيدة فقلت لها بأن السبب سيتضح لها قريباً ، زجرتني بنبرة الأم الخائفة : لاتعبث مع السيد يابني .
شرعت ام حسن بتغيير ضمادة حروقي وهي تقرأ الأوراد وماتيسرلها من القرآن الكريم حتى غفوت لشدة الإرهاق .
***
استيقظت قبيل صلاة الفجر لأقوم بإعداد مزيج الكعك وعجن خليط الفطائر وخبز بعض الإرغفة المحشوة باللحم لأطعام الفقراء ، فما انويه لجدول هذا اليوم الممتلئ جعلني اتعجل بإعداد طعامهم في أوآخر الليل الذي سيتحتم عليهم تناوله بارداً إن لم يكن متجمداً كما أن إرجاع المواد المستهلكة من مطبخ قصر السيد شكلت لدي معضلة إن السيد يجلب جميع المكونات من الخارج مبتدأً من المكونات الأولية من دقيق وخميرة منتهياً بالخضروات والفواكه حاولت أن ابرر سرقتي من تلك المواد بأن السيد لايخرج الزكاة وما اخذته اقل مما يجب عليه إخراجه ولكن عقلي لم يستسغ اخذ قرشاً واحد من ماله الذي ينمو من القمار والربا والأموال المسروقة ، ارتفع صوت الآذان فاتوجهت للحديقة لأداء فريضة صلاة الفجر على تراب الحديقة البارد فالقصر لايخلو من الصور والموسيقى الهادئة والمنكرات الظاهرة ، اديت فرضي ثم توجهت لحزم الورقيات الخضراء التي كدست في المطبخ لتجفيفها على سماط فرشته بالحديقة الخارجية في ركن قصى لايظهر للعيان لأكون توابل مميزة تجعلني طباخاً فريداً يسلب لب السيد ولا يرمي مكوناته بالقمائم دون استغلالها ، عندما انتهيت من نثر الورقيات لتتسلط عليها أشعة الشمس سمعت صوت أم حسن يناديني اسرعت لها فطوحت بيديها وهي بالكاد تلفظ انفاسها مذعورة : لا تتأخر في إعداد الإفطار يابني هيا تعجل وإلا حل غضب السيد علينا اجمعين .
أنشأت بتقطيع الخضروات لإعداد عجة البيض وقمت بطحن السمسم لخلطه مع العسل لأكون خليط يمد السيد بالقوة كما تقول ام حسن ، خفقت الحليب بقوة لتكوين رغوة ترضي كبرياء السيد فهو شديد التمسك بإطعمته التي كان يتناولها في الصغر كما اشارت على ام حسن مسبقاًبإعداداصنافاً متنوعة ومشروبات ساخنة ومقبلات من شتى اصناف الخضروات وتقطيع الفاكهة بإشكال هندسية بديعة ، بعد أن انتهيت من تجهيز طعام الإفطار اخبرت أم حسن بأني سأخلد لنوم لأستيقظ في الظهر فنهرتني قائلة : ياولدي عليك بتقديم الطعام للسيد وزوجه من ثم الخلود للنوم .
تأففت وأنا اكاد اقع أرضاً مغشياً من شدة النعاس والإرهاق ، كان هذا آخر ماينقصني مشاهدة وجه السيد في هذا الصباح الرائق ، صعدت للعلية لتبدل لي ام حسن الضمادات بقطن ابتعته من اموالي الخاصة فالسيد لم يعطني ثمن القطن وامتنع عن الموافقة لحضور الطبيب بشكل منتظم لتطبيبي اي انه ينزل بي العذاب ويرفض رفعه وها أنا اغير الضمادات حتى لاتفوح مني رائحة سيئة قد تقلب مزاجه الرائق في صباحه الهانئ كما أن منظر الضمادات المتسخة تثير اشمئزازه ولايليق بفخامته رؤية تلك المناظر السيئة توجهت للحديقة التي وضعت بها مائدة الإفطار بامتعاض ، ارتديت زي الطباخ الأبيض والقبعة الطويلة والمريلة المطرزة فبدوت كسيدة مسنة في دار للعجزة ، كان الإفطار مَوُضُوعاً بالخارج على طاولة مزينة بقماش سكري مخرماً كالغربال مزينناً ببعض شموع الفانيليا وأوعية زجاجية مسطحة نثر فوق سطح مائها تويجات ورد الفل العابق ، بعض الأطيار ذات الألوان الزاهية محتجزة في اقفاص مختلفة الأحجام والأشكال الهندسية تقع في جنبات الحديقة لتهبها جمال فوق جمالية خضرتها ، تقدمت للمائدة بشوش الوجه لأقدم لهم كل طبق بتئودة شارحاً لهم كيف قمت بإعداده وما مكوناته ومايحتويه من السعرات الحرارية ، عندما هممت بالمغادرة بعد انتهائي من تقديم الإطباق صوبت بصري لسبيل الخروج مستأذنهم الرحيل بأدب ، فجأة التفت حول قدمي كلب بفرو ابيض كثيف وعينان جاحظتان افزعت قلبي جعلتني ابتعدت عنه وأنا اشيح ببصري بعيداً مستعيذاً بالله من الشيطان الرجيم ، ضحكت زوج السيد بضحكة دلال غير لائقة على سنها المتقدم ولكن تلك الحيزبون قالت بصوت انثوي قد لينته بزيف متضح حتى تخفي اثار الزمن عليه : هيء هيء حتى الكلب معجب به يامحسن .
تجاهلت محاولتها الغزلية و طلبت من السيد أن يسمح لي بالذهاب فأومأ رأسه بالإيجاب والسيدة امتعضت من سماحه لي بالذهاب ، عندما عدت للمطبخ سمعت ام حسن تأمر احد الخدم بعصر عصير البرتقال فالسيد يعاني من الإمساك ويحتاج لمَ يلين امعائه عندما سمعت ماقالته ضحكت بشدة فأتت ام حسن تنظر لي بريبة قائلة : ما الذي يضحكك ؟؟؟
قلت لها وأنا اضطجع على بطني لألم باغتني في ظهري فعندما اشتدت ضحكاتي تصفدت جروحي : عندما سألتني عن سبب قهقهتي بالأمس قلت لك الوقت كفيل بإخبارك وهاهو يخبرك .
ام حسن : بماذا يخبرني ؟؟؟
قلت لها وضحكاتي لا تتوقف ودمعي ينهمر ألماً وسعادة : لقد صنعت الفطائر المحلاة من دقيق الذرة .
ضحكت ام حسن قائلة : ياخبيث سببت له ألم معوي .
قلت لهابضحكة عالية : محسن يستحق مافعلته به .
عندما هممت بامغادرة المطبخ التفت للخلف فوجدت السيد خلفي وعيناه تتطاير منها الشرر قائلاً : ماذا استحق ايها الجرذ الأجرب .
انتهى الفصل