" يبدو أنه من طبقة بريطانية رفيعة ومثقفة, ويناسب ذوقك ومزاجك على الأرجح أكثر من مزارع فرنسي عادي ,قارنت بيننا , ففاز علي دون أي صعوبة ,وكانت النتيجة الحتمية لذلك أنك هجرتني .... آملة في أرغامي على منحك الطلاق".
لاحظت أيلاين فورا أنه أستغل الفرصة مجددا وبدأ يلقي اللوم عليها , عوضا عن الأقرار بذنبه والأعتذار عن الخطأ
قالت له بأنفعال:
" لا, أوه لا, لم يكن هذا هو السبب , أنا لم أتركك بسبب جيرالد".
" لماذا تركتني أذن ؟ لماذا ذهبت قبل التحدث اليّ أولا؟ بربك, يا أيلاين , ألا يمكنك أعطاء سبب منطقي واحد لمغادرتك فرنسا قبل منحي فرصة لأيضاح الأمور؟".
أفلتت يدها من قبضته التي لم تعد قوية عليها , ثم رفعتها ويدها الأخرى الى وجهها لأخفاء معالم الألم والحزن والأسى , تذكرت الألم الذي شعرت به في شقة سولانج ... الألم الناجم عن سقوط الأوهام , وأنهيار الأحلام , وتحطيم الثقة , صرّحت باكية :
" لا أعرف , لا أقدر علىتفسير مشاعري".
قال لها هامسا:
" آه! كم أنت بيضاء وصافية , كالقمر... وناصعة الياض وباردة , كالثلج".
" أتركني ... أرجوك".
منتديات ليلاس
لن تقوى على المقاومة , ضمها اليه , ثم قال لها بلهجة ماكرة خبيثة:
" لم تشعري أذن بأي رغبة أتجاه ذلك اللندني المثقف , ألا عندما كنت بعيدة عني...".
" لم أشعر أتجاهه أبدا بأي رغبة ! لا أريده أطلاقا! لا أعرف ماذا أريد!".
" أما أنا فأعرف ماذا أريد , يا حبيبتي".
سمعت ضحكة خفيفة متباهية , فتحول الشوق الى سخط والحنان الى غضب , أحست بالأشمئزاز الشديد من أفتراضه المتغطرس, بأنها ستذوب الآن بين يديه , صرخت به غاضبة , وهي تضرب كفيها بيديها:
"أتركني! أتركني! كم أكرهك! سأذهب الى الغرفة الأخرى ".
" لا, لن تذهبي , ستشعرين بالبرد والوحدة , أنت الآن باردة على الرغم من الدفء جمّدت الكراهية دمك , وحوّلك الى البغض الى قطعة من الثلج".
"بيار , أرجوك , لا....".
توقف أحتجاجها عند هذا الحد , أنه على حق , فهي تكره البرودة والجفاف والوحدة , شعرت في بداية الأمر بشيء من الخجل والتردد , ولم يعد يهمها في تلك اللحظات السعيدة سوى وجودها معه كجزء لا يتجزأ منه... قلبا وروحا.
أستيقظت أيلاين صباح اليوم التالي عندما أحست بيد باردة تلامس كتفيها , أخترقت الذكريات الحلوة لما حدث, في الليلة الفائتة , الغيوم الملبدة للنعاس الذي لا يزال يشل عقلها وتفكيرها , ومع ذلك , أحست ببرودة وتأكد لها أن بيار لم يعد قربها.
" أيلاين , أستيقظي".
ليس هذا الصوت صوته ,ولا اليد الباردة التي لامست كتفها مرة أخرى يده ,أنها مارجريت! أمسكت بالغطاء , وهبت جالسة في السرير , شاهدت مارجريت مرتدية كامل ثيابها , فسألتها بقلق ولهفة:
" أوه, أين بيار؟".
" أضطررت لأيقاظه قبل بعض الوقت , لكي يذهب لأحضار الأي مارتين".
أوه! أستدعاء الكاهن في مثل هذا الوقت المبكر , معناه تدهور جديّ في الوضع الصحي للخال أرمون!سألتها أيلاين بصوت خائف متردد:
" هل ساءت أحوال الخال أرمون الى هذه الدرجة؟".
" أتمنى لك العمر الطويل يا حبيبتي , توفي خالك بهدوء ودون عذاب , قبل بضع دقائق".
ثم وضعت يدها على رأس أيلاين , وأضافت بلهجة تكشف مدى السيطرة القوية التي تمارسها على أعصابها:
" لا تحزني كثيرا , فهو لم يكن يريد ذلك لك, كانت الوفاة بالنسبة اليه راحة كبرى, وقد أتيت أنت في الوقت المناسب لأدخال بعض السعادة الى قلبه , هل من الممكن أن تنزلي بعد قليل لتناول فطور الصباح؟ أنه يوم الأجازة الأسبوعية لماري, ولا أحب كذلك أرهاق جاك وزوجته بأمور كهذه, سأحتاج الى مساعدتك , أيتها الحبيبة , أذ علينا أعداد الترتيبات الخاصة بالجنازة".
" أوه, لا تقلقي , يا خالتي , فسوف أساعدك".
" شكرا , يا حبيبتي , كنت أعرف أن بأمكاني الأعتماد عليك عند الحاجة".
قفزت أيلاين من السرير , بمجرد خروج مارغريت من الغرفة , وتوجهت فورا الى االحمام , وبعد بضع دقائق , أرتدت ثيابا عادية ووقفت أمام النافذة تسرح شعرها أستعدادا للنزول الى قاعة الطعام , تذكرت فجأة أنها ذهبت وبيار صباح يوم أحد كهذا من العام الماضي , لجمع نوع من الفطر الذهبي اللون الشهي الطعم , وأنها وعدته قبل عودتهما ظهرا ... بالزواج منه.
وما هي ألا لحظات وجيزة , حتى جذبت أنتباهها حركة خفيفة في باحة القصر , شاهدت الكاهن وبيار يتوجهان نحو السيارة المتوقفة قرب البركة الصغيرة , أنتفض قلبها بين أضلعها , بمجرد رؤيتها بيار , وأرتفعت يدها حركة لا شعورية الى عنقها ... لتتحسس المكان الذي أطبقت عليه أصابعه أمس بقوة بالغة , سمعت صوت صدى يتردد في رأسها ... أنت خائفة , أنت خائفة! أرتعش جسمها كورقة في مهب الريح, وهي تتذكر كافة الأمور التي حدثت......
فتح بيار الباب الأمامي للكاهن الوقور , ثم أستدار حول السيارة وتطلع نحو باب البرج , حبست أيلاين أنفاسها , متمنية لو أنه يرفع نظرها نحوها لتبتسم له وتحيه , ولكنه قال بضع كلمات لم تسمعها لشخص ما يقف داخل الباب , ثم جلس وراء المقود وأنطلق بسيارته بعيدا عن القصر, أحست بخيبة أمل مريرة , تحولت خلال لحظات وجيزة الى سخط وغضب........
لم يجد بيار , مرة أخرى , أي صعوبة تذطر في حملها على التجاوب معه بمثل تلك الطريقة المذهلة ,تعمد في الليلة الماضية أن يشعرها بأنه يحبها ويريدها ....ويجعلها تنسلى شكها وأرتيابها , لماذا , أوه لماذا أفسحت له هذا المجال ؟ لماذا سمحت بحدوث الشيء الوحيد , الذي أرادت تجنبه أكثر من غيره؟ لم تحل بعد أي من المشاكل العالقة.....
صحيح أنه شرب لها سبب وجود قفازيه وقداحته في شقة سولانج , ولكنها لا تزال تشك كثيرا في الهدف الكامن وراء ذلك الأيضاح أو التبرير , من المؤكد أنه يحاول الأبقاء على زواجهما قائما , لأن ذلك وحده يضمن له مشاركتها في وراثة شامبورتن.
تناولت فطورها ,وذهبت الى قاعة المكتبة لمقابلة مارجريت ومعرفة الخطوات التي يتحتم عليها القيام بها , أعطتها السيدة , التي ترملت للمرة الثانية , قائمة بأسماء الأشخاص الذين يجب أبلاغهم بوفاة أرمون ... وقالت:
" ستكون جنازة عادية وبسيطة , حسب رغبته , أطلبي من الذين يريدون أحضار أكاليل زهور , تحويل ثمنها الى جمعيات خيرية , يجب التأكد أيضا من الأتصال بالسيد أميل لوجيه المستشار القانوني لأرمون , بشأن الوصية ... لأن كافة الأوراق والوثائق موجودة في مكتبه.
وقفت مارجريت أستعدادا لمغادرة المكتبة , ثم تنهدت وقالت:
" أتمنى أن أمون في يوم , لا يكون حارا الى هذه الدرجة!".
أمضت أيلاين ما يقرب من ثلاث ساعات للأتصال بأثني عشر شخصا فقط , وذلك لوجود معظمهم خارج بيوتهم , دقت مارجريت الباب , وقال لها:
" تعالي لنتناول الغداء , أيتها العزيزة".
" أوه , نعم , شكرا , لم أكن أتصور أبدا مدى الصعوبة في أجراء عدد محدود من المكالمات الهاتفية , سبعة أشخاص موجودون أما على الشواطىء , وأما في حدائق عامة أو في نواد للتسلية والترفيه ,ولكن من يلومهم على ذلك , فهو يوم عطلة جميل رائع!".
"أعتقد أنك أنت أيضا تتمنين القيام بنزهة في الغابة القريبة , ربما ستجدين فترة كافية لذلك , في وقت ما بعد ظهر اليوم".
لاحظت أيلاين لدى دخولها قاعة الطعام , أن المائدة معدة لشخصين فقط , تساءلت ضمنا , وللمرة العاشرة هذا الصباح , عن مكان وجود بيار , ماذا يفعل الآن , وقد أعاد الكاهن قبل ثلاث ساعات؟ الى أين ذهب؟ ومتى سيعود؟
سألت مارجريت بلهجة حاولت أظهارها طبيعية وعادية:
" ألن يتناول بيار معنا طعام الغداء؟".
"لا, فقد ذهب الى بلفين , ألم يخبرك بذلك؟".
منتديات ليلاس
أوه, بلفين هي ممتلكات عائلة دوروشيه الواقعة على بعد خمسين كيلومترا الى الشرق من شامبورتن.... والقريبة الى حد ما من أنجولام, أنها تلك المنطقة الصغيرة المزدهرة , التي ورث بيار حصة والده منها وعمل فيها بعض الوقت مع وريث النصف الآخر....أبن عمه شارل ....قبل تولي مهمة والده جان دوروشيه في أدارة ممتلكات شامبورتن , ردت أيلاين على سؤال السيدة المسنة , بصوت هادىء يخفي وراءه أنزعاجا وتوترا بالغين:
" لا , لم يخبرني , هل قال لك متى سيعود؟".
" صباح بعد غد, أن شاء الله , هذا هو وقت العمل الجاد , كما تعلمين".