" ربما في وقت لاحق , على أي حال , فهو سيطلب مقابلتك في وقت ما قبل الظهر , لماذا لا تقومين الآن بنزهة في الحديقة , طالما أن الطقس يسمح بذلك؟ ستشتد الحرارة خلال فترة قصيرة".
سارت أيلاين في الحديقة لبعض الوقت , ثم توجهت الى النهر على طريق ترابية ضيقة تحيط بها وتظللها كروم العنب وأشجار السرو , وفي نهاية الممر الطويل , شاهدت الزورقين شبه المسطحين اللذين كانا يستخدمان لنقل الأنتاج الزراعي والحيواني الى أقرب الأسواق التجارية , سرت أيلاين كثيرا , لأنها تذكرت الرحلات النهرية التي كانت تقوم بها أثناء كل فصل صيف كانت تمضيه في شامبورتن, نزلت الى أحدهما وفكت الحبل الذي يربطه بالرصيف الخشبي القديم , فأنساب الزورق بهدوء مع مياه النهر , أنحنت لألتقاط المجذاف من المكان الذي يوجد فيه عادة , فلم تجده! أصيبت بدهشة قوية , تحولت خلال لحظات الى تأنيب ذاتي بسبب التسرع والأهمال ,وما أن أستفاقت من ذهولها وصدمتها , حتى تبين لها أنها لم تعد قادرة على القفز الى حافة الرصيف أو الى نقطة أخرى على ضفة النهر.
وضعت يديها حول فمها ونادت بأعلى صوتها , لجذب أنتباه أحد الرجال العاملين في الكروم والحقول المجاورة .....فلم يسمعها أحد, كان الطقس جيدا , والجو دافئا , ومياه النهر تبدو هادئة ساكنة ....فلم تشعر أيلاين بالخوف أو القلق , تمددت على الزورق ووضعت يديها تحت رأسها , علّ وجهها الشاحب يكسب بعض النضارة والأحمرار.
فتحت عينيها بعد قليل وجلست ,فلاحظت أن زورقها الذي ينطلق بسرعة أكبر الى ما أصبح في وسط منطقة عريضة جدا من ذلك النهر , أنبطحت فورا على الحافة القريبة منها وراحت تجذف بيدها اليمنى بأقصى قوتها على الأقل من تحويل الزورق الى أحدى ضفتي النهر ولكن الزورق كبير الحجم وثقيل الوزن , فلم يتجاوب مع محاولاتها المتعددة اليائسة , وفجأة , سمعت هدير مياه على بعد بضع مئات من الأمتار , تذكرت الشلال المزمجر , الذي لم يجرؤ على تحديه سوى نفر قليل من المغامرين الأشاوس في زوارق مطاطية معدة خصيصا لمثل هذه الرياضة المحفوفة بالأخطار.
أصيبت بهلع شديد , وقررت فورا التخلي عن الزورق قبل تعرضها لمشاكل هي بغنى عنها , قفزت منه الى الماء وسبحت الى الضفة , فوصلتها متعبة بسبب قوة التيار وأندفاع المياه , جلست على صخرة ووضعت رأسها على ركبتيها , لألتقاط أنفاسها وأخذ قسط من الراحة.
وقفت بعد لحظات وتطلعت نحو االنهر , فلاحظت أختفاء الزورق , هزت رأسها وراحت تعصر شعرها المبلل ,وهي تفكر بهذه المغامرة التي قامت بها في مستهل اليوم الأول لوصولها , ضحكت عندما تخيلت نفسها جالسة مع بيار
تشرح له ما حدث معها :
" يسرني أنك لا تزالين قادرة على الضحك".
منتديات ليلاس
شهقت دهشة وأستغرابا , وأستدارت نحو مصدر الصوت المألوف لتشاهد بيار واقفا قرب دراجته الهوائية
سألته بلهفة:
" من أين أتيت؟".
"كنت عئدا من جولة تفتيشية في منطقة قريبة من النهر , فرأيت زورقا خاليا يندفع مع التيار نحو الشلال ثم رأيتك جالسة هنا , ماذا كنت تحاولين ؟ أغراق نفسك؟".
" طبعا لا! لم أكتشف عدم وجود المجذاف , ألا بعد أبتعاد الزورق عن المكان الذي يربط فيه ,وعندما فشلت في تحويل مساره الى أحدى الضفتين , قفزت منه وسبحت الى هنا ,على أي حال , أشك كثيرا في أمكانية غرق أي أنسان يعرف السباحة جيدا .....في هذا النهر ... فهو ليس عميقا جدا , وتياره..".
قاطعها بهدوء قائلا:
" ومع ذلك, فقد غرق فيه أبي".
"أوه.... لم ... لم أكن .... أعرف...".
" لا تعرفين أشيا كثيرة , يا عزيزتي ,وعوضا عن الأستفسار عن الأشياء التي تجهلينها ومعرفة الأمور بالطرق الصحيحة والسليمة تتسرعين في أستنباط وأنطباعات هوجاء , ثم تقنعين نفسك بأنها حقائق ثابتة لا غبار على صحتها وسلامتها!".
وفوجئت بهجومه المباغت , وأحتجت قائلة:
" لا , ليس هذا الكلام محقا أو منصفا! فأنا لم أكن أدري بحادثة والدك المؤسفة , لأنك لم تخبرني أي شيء عنها , لم تطلعني على أي موضوع , هاما كان أم تافها".
" لأنك لم تهتمي أبدا الى درجة تدفعك الى توجيه أسئلة صريحة ومباشرة ".
" بلى , بل كنت أهتم".
" ولكن ليس بما فيه الكفاية لتسألي مثلا عما أذا كان كلام سولانج صحيحا أم كاذبا , أو لتعطيني مجالا لتوضيح بعض الأمور ,لكل أنسان حقه في شرح مواقفه , ولكنك حرمتني من هذا الحق المقدس , مبمجرد أكتشافك شيئا عني لم يعجبك , وتصورت أنه يجرح شعورك وكرامتك , وأحترامك لنفسك , تصرفت حسب عادتك كفتاة مدللة سخيفة , قررت الهرب , عوضا عن مواجهة الأمور كأي زوجة عاقلة, مضت ثمانية أشهر على فرارك ,وأنت لا تزالين غير قادرة على تحمل مسؤولياتك كزوجتي".
أشعلت كلماته القاسية وقود غضبها وسخطها , فتحفزت للمبارزة والقتال ,تنهدت بأنفعال بالغ, للتمكن من الرد عليه بعنف مماثل ,وقالت:
" المسؤولية! مسؤوليتي كزوجتك ... هذا كل ما سمعته منك منذ عودتي! أذا كنت تعتقد أنني سيئة جدا كزوجة , فلماذا لا تطلقني؟".
" لأنني سألعن نفسي أذا سمحت لك بالزواج من شخص يدعى ... جيرالد".
" تقول ذلك لمجرد تحويل أفكاري عن لب الموضوع! لا ليس هذا هو السبب أطلاقا! أنت تريد شامبورتن ,ووصية الخال أرمون في وضعها الحالي لا تمنحك سوى النصف".
منتديات ليلاس
حدق بها لحظة ثم هز كتفيه ,وكأنه يعتبر المضي في هذا الجدل العقيم هدرا لوقت ثمين , تأمل بسرعة الوردة المبللة ,وقال لها:
" تبدين في وضع لا تحسدين عليه أبدا , من حيث الشكل والرائحة".
"كم أنت لطيف ولبق وأجتماعي!".
أستدارت بعصبية نحو القصر وبدأت تمشي حافية القدمين , وهي تشعر بالوخز المؤلم للحجارة الصغيرة الحادة
أوقفها في مكانها صارخا بأنفعال:
" هل تركت البيت دون حذاء؟
ردت عليه بحدة مماثلة ,وهي تتتابع طريقها:
" خلعت الحذاء في الزورق, عندما قررت القفز الى الماء والسباحة الى اليابسة ".
لحق بها بيار , وهو يمسك دراجته , ثم قال لها مؤنبا:
" لم يكن هناك أي لزوم للتخلي عن الزورق, فذلك يتعارض مع كافة قوانين السلامة , كان يجدر بك القاء فيه , لأن الغرق في النهر لم يكن بعيد الأحتمال".
"كنت سأتعرض للغرق أيضا لو لم أقفز منه , بسبب السد المقام قبل الشلال".
"السد؟ أي سد, وأي شلال؟".
"الشلال الذي يقع على بعد بضع مئات من الأمتار , أنني أسمع هدير الماء".
"في مخيلتك فقط , أيتها الذكية , فالسد الوحيد في هذه المنطقة كلها يقع قرب قرية لوتين ,وهي تبعد حوالي سبعة كيلومترات من هنا , لم يكن بأمكانك الوصول الى منطقة السد , لأن الزورق كان سيتوقف على أحدى الضفتين بسبب التعرجات العديدة التي يمر بها النهر, وعندها , كنت ستنزلين منه بهدوء الى اليابسة وتعودين الى القصر سيرا دون خسارة الزورق .... أو الحذاء".
لم تشك أيلاين في صحة كلامه , فهو يعيش هنا منذ طفولته ويعرف كل شيء عن المنطقة ونهرها , لقد تصرفت مرة أخرى بأندفاع وتسرع , وها هي الآن مضطرة للسير حافية القدمين ,وتحمل كافة الأوجاع والآلام التي ستنجم عن ذلك
قال لها بيار بهدوء:
" أذا أحببت أن تجلسي أمامي على الدراجة , فسوف آخذك الى البيت, ليس لدي وقت كاف لكي أسير معك".
" شكرا , لا حاجة لذلك أبدا لا أريد تأخيرك عن عملك ".
منتديات ليلاس
لن تقبل أي خدمة منه ,ولن تفسح له أي مجال للأقتراب منها , رفعت رأسها بعنفوان وتحد, وعادت الى السير بأتجاه القصر , ولكنها توقفت ثانية وهي تكاد تصرخ من الألم , بسبب الحجر المسنن الصغير الذي داست عليه خطأ ,وقفت على رجل واحدة ورفعت قدمها لتفحص الأضرار التي لحقت بها , فشاهدت ثقبا صغيرا يسيل منه الدم
صرخ بها بيار , بأنزعاج واضح:
" رباه , كم أنت عنيدة! وأنانية أيضا , تضعين نفسك دائما في المقام الأول , ولا يهمك ما قد يلحق بغيرك من مضايقات نتيجة تصرفاتك السخيفة المهورة!".
أفرح وهلل! أنا عنيدة وأنانية وغبية , ولكنني لا أرى أي علاقة أطلاقا بين عودتي الى البيت سيرا... وكيفية التسبب في مضايقة الآخرين".
" ستصاب قدماك بجروح بالغة وتورم شديد ,مما يحرمك السير عليهما فترة طويلة , قد تتحملين العذاب لمسافة قصيرة, ولكن البيت يبعد حوالي ثلاثة كيلومترات من هنا , هيا , يا أيلاين, وأصعدي أمامي , لن تكون المرة الأولى التي نركب فيها معا".
هل ستتحمل القرب منه للمرة الثانية خلال يوم واحد, دونما أي أضطراب في مشاعرها أو أحاسيسها؟ ولكن الطريق طويلة وصعبة ,والحر شديد ومرهق...".
"حسنا".
جلست أمامه ,وهي تتظاهر بالبرودة واللامبالاة , وما أن مد يده الأخرى للأمساك بالمقود , وأنحنى قليلا الى الأمام ليتمكن من دفع الدراجة , حتى أحست بحرارة جسمه تذيب أي مقاومة قد تحاول اللجوء أليها... في حال تعرضها لأي هجوم محتمل.
نهاية الفصل الثالث