المنتدى :
روايات أونلاين و مقالات الكتاب
ليلة شتاء... د.أحمد خالد توفيق - كاملة
السلام عليكم
حبيت اليوم أشارككم بالقصة الجديدة للدكتور أحمد خالد توفيق
وهي بإسم .... ليلة شتاء .. وكما تعودنا سوف تنزل الفصول حسب توفرها
هيا نبدأ
**********************************
لیلة شتاء
( 1)
الدكتور أحمد خالد توفیق
*************************************************
عوني: نعم أنا ضابط شرطة ولكني لا أحب مھنتي (رسوم: فواز)
أنا لا أحب مھنتي..
كلما مررت بموقف مشابه، دارت ذات الفكرة في ذھني
. أنا لا أحب مھنتي.. قلیل من
الناس ممن عرفت يحب مھنته، ما لم يشعر بأنھا رسالة مقدّسة كما يفعل المدرّس أو الطبیب أحیانًا، أو يجدھا مجزية جدًا كما يفعل رجل الأعمال، أو ھي فعلاً مھنة ممتعة، مثل ذلك الأخ راي ھاري ھاوزن الذي كان يصمم الوحوش في أفلام الرعب.. تخیل أنه يصحو من النوم صباحًا ويذھب لعمله لیصمم الوحوش حتى يحین موعد الانصراف!
أنا لا أحب مھنتي، لكني لا أعرف سواھا
. عندما يستدعونك لموقع الجريمة في الثالثة
صباحًا، فإنك تلھث من البرد والتوتر وأنت تتوقع تقريبًا ما ستراه.. بعد كل ھذه الأعوام
ما زلت لا أتحمل منظر الجثث الممزقة وأمقت رائحة الدم..
اسمي عوني
.. في الخامسة والثلاثین من العمر.. لا شك أنك عرفت مھنتي الآن.. أنا ضابط شرطة، وقد رأيت الكثیر طبعًا، لكن ھذا لا يعني تصريحًا بالبرود أو اللامبالاة..ھناك حوادث تزلزل وجدانك فعلاً، وتتحدى ثباتك المھني.. مثلاً عندما تجد الطريقة التي
شوّه بھا ھذا السفاح ضحیته، والأسلوب السادي المريض الذي ترك به توقیعه، عندھا
لا بد أن ترتجف.. على أني كوّنت نظريتي الخاصة بعد أعوام: كل واحد يمكن أن يفعل
أي شيء إذا اصابته حالة جنون وقتیة، أو زال عنه قناع التحضر..
أما عن الطقس الرديء فموضوع آخر.. يصعب على المرء أن يتصور أن ھذا عامل مھم
في مصر، لكن بوسعي أن أخبرك بعشرات القصص التي رحنا نجري فیھا التحقیقات
في ظروف مستحیلة...
مثلاً قصة الیوم حدثت في عزبة
خارج المدينة.. نحن قريبون من الإسكندرية جدًا لكن
لن أعطي تفاصیل...
الآن يمكنك أن تتخیل ما يحدث.. أمطار غزيرة جدًا ..
في لیلة كھذه تتمنى فعلاً لو ظللت في فراشك، لكن جرس الھاتف يدق بإلحاح.. سوف
تأتي السیارة لتأخذك حالاً.. ھناك جريمة قتل..
أرتدي ثیابي، ومن تحتھا بول أوفر ثقیل
.. زوجتي تصر على أن أحترس من البرد، ولا
أعرف كیف أحترس من البرد بینما كل ذرة في الكون باردة... احترس من الطريق.. كیف أحترس من الطريق وقد تحوّل لبحیرة، دعك من أن بسیوني ھو الذي يقود وھو على درجة من العته!
في الطريق وسط حمّى الوحل والبرق الذي يشق السماء والمساحات، أعرف من بسیوني التفاصیل:
- "اتصلوا بنا وقالوا إن ھناك رجلاً لا يعرفونه اقتحم العزبة، وقتل أحدھم بسلاح ناري..ثم فرّ"
أقول له وأنا أرتجف من البرد:
- "لیست تفاصیل مفیدة جدًا.."
- "سوف نعرف كل شيء.."
رباه!.. أنا لا أحب مھنتي.. كلما تذكّرت أنني كنت في الفراش منذ نصف ساعة دافئًا
أحلم...
أنا من ضباط الشرطة الذين يقفون في الركن
.. في الزاوية الضیقة.. لم أشتم ولم أصفع متھمًا في حیاتي، ولم أدسّ قطعة بانجو في جیب أحدھم، ولم أستغلّ سلطتي قط حتى في الحصول على رغیف خبز. وفي الوقت نفسه أنا بالنسبة للمواطن العادي ضابط مغرور سادي يستغلّ سلطته بالتأكید.. لا أستطیع لعب دور الوغد، لكنھم يصرونعلى أنني كذلك...
باختصار أنا أنال النصیب الأسوأ من الجانبین..
السیارة كانت تشق طريقھا وسط عاصفة توشك على اقتلاع كل شيء (رسوم: فواز)
السیارة تشق طريقھا نحو تلك العزبة، وھناك عند ناصیة الطريق يجلس ثلاثة من الخفراء يصطلون بالنار، وقد تدثّر كل منھم كرجل من الاسكیمو.. ھناك خیمة من المشمّع لتحمیھم من المطر الغزير، ويقف أحدھم لیصوب علینا نور الكشاف القوي،
ويھتف:
- "لا يمكن الوصول إلى ھناك يا باشا.. سوف يفیض المصرف.. بعد ساعة سیتحول ھذا
كله إلى نھر عمیق ولن تعرفوا أين الطريق."
قلت له في عصبیة:
- "صوّبْ ھذا الكشاف على شيء آخر أولاً.. لا يوجد حل آخر.. لا بد أن يذھب أحد ھناك..
لن ننتظر حتى يأتي الربیع!"
راح يصف لبسیوني طريقًا مختصرًا
.. ثم دعانا لكوب شاي كنا سنرحّب به طبعًا لو كانت
الظروف تسمح..ننطلق من جديد نحو تلك العزبة، بینما خزانات السماء تفرغ ما فیھا فوق رءوسنا..
يقول بسیوني في توتر:
- "ھذه رحلة خطرة جدًا... ربما كان من الأفضل أن نعود.."
- "لقد تمادينا بما يكفي.."
لسان برق يشقّ السماء من جديد... أتفحص الھاتف المحمول فأدرك أن الشبكة قد
غرقت في الماء وماتت...
فجأة ھتف بسیوني:
- "إننا قد دخلنا العزبة فعلاً.."
ھذا صحیح!
صحیح أن العاصفة توشك على اقتلاع كل شيء، والأمطار تجعل الرؤية مستحیلة، لكن
لا أعرف مكانًا آخر يمكن أن يكون مزروعًا بھذه الطريقة.. دعك من صوت خوار البھائم
المذعورة في جرن ما، ونباح كلاب تعتقد أنھا نھاية العالم، وذلك البیت المبني من القرمید...
ھذه عزبة فعلاً ..
ترجّلنا محاولین أن نتماسك فلا نسقط في الوحل، وأضأنا الكشافات بینما تحسّست
مسدسي.. تبًا.. لقد ارتفع الماء لدرجة لا تصدّق حتى أنني فتحت باب السیارة فتسرّب
للداخل..
اتجه بسیوني نحو الباب الخشبي العملاق ودق بیده الغلیظة عدة مرات:
- "افتح!.. بولیس!"
لحظات وانفتح الباب بشكل شحیح، وظھر وجه رجل مسنّ ريفي يرتجف:
- "بسم الله الرحمن الرحیم"
الإضاءة ساطعة ھنا لحسن الحظ...
ومن خلفه ظھر وجه رجل ريفي وسیم متأنّق.. أعتقد أنه في الخمسین من العمر..
يلبس الجلباب الأبیض الفاخر الممیز لأثرياء الريف. ھذا سید بلا شك.. سألته:
- "عزبة اللیثي؟"
- "أنا محمود اللیثي.. تفضلوا.."
عندما دخلنا إلى المدخل الأنیق المريح تنھّدنا الصعداء، وشعرت بحرج من أحذيتنا
المتّسخة بالوحل، لكن نزع الأحذية لیس جمیلاً من الناحیة البولیسیة..
- "خیرًا إن شاء الله؟"
قلت له في حیرة:
- "أعتقد أن ھذه العبارة جديرة بنا.. أنتم اتصلتم وتكلمتم عن جريمة قتل."
نظر لي في دھشة
.. ثم نظر للعجوز..
- "أعوذ بالله يا باشا.. لم يحدث شيء من ھذا.."
بلاغ كاذب إذن؟ سیكون ھذا أسخف مقلب شربته في حیاتي.
لكن في الوقت ذاته كنت أنظر
إلى الأرض.. إلى طرف الجلباب الأبیض.. ھذه قطرات
دم طازج. دم لم يتغیر لونه بعد، ولا يمكنه إقناعي بأنه كان يذبح الطیور في ھذه
الساعة وھذا الجو..
البلاغ غیر كاذب..
ويبدو أننا وجدنا القاتل بسرعة كذلك!
يُتبع
....................
|