جلسنا جميعًا في قاعة المسافرين.. يا لها من ليلة! أنا بالفعل أمقت مهنتي..
لكنها لم تعد ليلة بالضبط.. نحن نقترب من الصباح جدًا، لكن كيف تتوقع أن تشرق الشمس في هذا الصباح؟ ظلام.. ظلام.. كأننا في الشتاء القطبي..
ضوء الكلوب يتوهّج بصوته وفحيحه المميزين.. الصوت الذي كان يفتنني عند باعة الفاكهة الساهرين..
من حولي جلس أفراد الأسرة.. البعض افترش الأرض والبعض جلس على الأرائك العالية.. كان المسدس في يدي، لكن عدم مبالاتهم به جعلني أشعر بأنه بلا قيمة.. هناك هيبة للأسلحة النارية.. يجب أن يرتجف الناس عندما تصوّبها نحوهم وإلا بدا الأمر مخيفًا..
بسيوني كذلك راح يحكّ صدره وبطنه كأنه مفعم بالبراغيث، ولم يبال بأن يُخرج مسدسه.. لا شك في أنه جائع ويتمنى لو لم تدلهمّ الأمور بهذا الشكل ليقدموا لنا الإفطار..
قلت لليثي ضاغطًا على كلماتي:
ـ "أرجو أن تنضم لنا السيدة والابنة.."
قال في ثبات وهو يحدّق في عيني:
ـ "أما هذا فلا.. ليس للحكومة شأن مع حريم بيتي".
لم أرد أن أضغط طبعًا.. ثم تذكرت أن زوجته ليست من الأسرة.. فعلاً لا دخل لها بالقصة. سألته بقدر ما استطعت من تهذيب:
ـ "ليكن.. المدام ليست من الأسرة على كل حال".
قال بثبات:
ـ "بالعكس.. هي ابنة عمي! أنت تعرف الريف.. أنت متزوج من ابنة عمك منذ لحظة ميلادك".
هذا يعقّد الأمور.. الكل مشتبه فيه إذن..
وهنا ومن دون أن أعرف كيف، رأيت امرأة وفتاة تتقدمان لتدخلا القاعة.. نظرة نارية توهّجت في عين الليثي، لكنه على ما يبدو قرّر أن يؤجل الانتقام لحين..
كلتاهما كانت تلفّ طرحة على رأسها وشعرها بحيث لا تبدو سوى العينين تقريبًا.. لكن ما تبدّى من الوجه كان ينم عن حُسن، وبالفعل كانت الزوجة في الأربعين أما الفتاة ففي سن الجامعة..
ـ "سلامو عليكم".
ووقفتا جوار الباب صامتتين في مشهد شبه جنائزي..
قال الليثي بعدما استعاد ثبات صوته:
ـ "خيرًا يا باشا؟ تقول إن هناك جثتين في البيت.. الشيخ المسن وجثة أخرى.. أنا رأيت الأولى لكن ماذا عن الجثة الأخرى؟"
هنا صرخت المرأة:
ـ "جثة؟! عم تتكلمون؟"
صرخة جديرة فعلاً بزوجة تكتشف أن في بيتها جثتين.. هذا يتهمها بالإهمال وعدم النظافة.. الزوجة النشيطة تعرف على الفور أن هناك جثة في بيتها..
قلت:
ـ "هذا ما أتوقع أن أعرف إجابته.. جثة قاتل مأجور اسمه أبو زبيدة والكل هنا يعرفه.. أنت تعرفه.. إنه في غرفة مقفرة جوار المرحاض، وقد تلقّى عددًا هائلاً من الطعنات".
شهقت المرأة بينما ظهرت الاستثارة في عيون الشباب.. أكثرهم بالطبع كان الصغير رأفت. نظرت له لبعض الوقت.. يا لشحوبه! أعرف أن الأطفال فريسة دائمة للديدان والطفيليات، لكن على قدر ما أعرف لا يتجاوز الأمر بعض البقع في الوجه.. لكن للمرة الأولى أدقق في وجهه فأجده شاحبًا جدًا.. هذا غريب..
قال الليثي وهو يتحسس شاربه:
ـ "أنا لا أعرفه.. ولا أفهم لماذا يأتي قاتل مأجور ليموت في داري"!
ـ "كنت آمل أن تفسر لي هذا.."
كانت هناك بقع دم على جلبابه فلماذا؟ قال إنه كان يذبح حيوانًا.. لماذا يذبح المرء ليلاً ووسط هذه العاصفة؟ ما سبب هذا الحماس؟ ثم لماذا لم يكن هناك لحم حيواني على مأدبة العشاء؟ كان الطعام كله طيورًا..
قالت المرأة بصوت مبحوح:
ـ "يا قاعدين يكفيكوا شرّ الجايين! نحن أكثر الأسر احترامًا في البلدة.. لا شيء من هذا يحدث عندنا.."
كأن وجود جثث في البيت يدل على عدم الاحترام.. لماذا تلتفّ المرأتان بهذا الشكل؟ إنه يتحدى الحشمة أو التدين، بل هو منظر مرعب يذكّرني بالمجذومين كما كانوا يظهرون في الأفلام التي تدور في القرون الوسطى..
قال الليثي بذات الحزم:
ـ "صمتًا يا إنصاف".
هنا قال أحد المراهقين وهو من يُدعى مصطفى:
ـ "سمعت عن أبي زبيدة هذا.. هو رجل مخيف.. لكن من قتله وكيف؟"
مطّ عنقه للأمام.. هذا الجرح الغائر في العنق يبدو لي أعمق من اللازم.. والغريب أنه يانع أحمر اللون.. ليس جرحًا قديمًا لكن لماذا لم يضمده أحد؟
رأسي يوشك على الانفجار.. رباه! يجب أن أتخلص من قصة الشيخ، وأفكر بشكل مادي عقلاني.. يجب أن أتخلّص من هذه الفكرة الحمقاء. لو صدقت نفسي لتصوّرت أن كل واحد من هؤلاء ميت فعلاً..
على كل حال لو كانت القصة صحيحة -وهذا مستحيل- فلسوف يسقط واحد من هؤلاء ميتًا، ونكتشف أنه كان كذلك منذ جاء البلاغ. ولو كانت خاطئة فعليّ أن أتصرف كشرطي.. يجب أن أطلب المدد وأطلب خبراء المختبر الجنائي..
لكن كيف وهذا اللاسلكي لا يعمل؟
قال الليثي وهو يشعل لفافة تبغ:
ـ "سيدي.. لا أعرف ما تفكر فيه ولا ما تنتويه، لكني بالفعل لا أملك تفسيرًا.. ما أستطيع قوله هو أن بوسعك الانتظار ضيفًا كريمًا في داري، إلى أن تستطيع طلب رجالك أو مغادرة المكان.. بعدها قم بتحقيقاتك وتصرّف.. أما أنا فلديّ كلام كثير عن الأمن في هذا البلد، حيث القتلة يقتحمون بيوت الأبرياء.. كنت أحسب هذا من عمل الأمن وضمن مسئولياته".
واحد من هؤلاء ميت!
واحد من هؤلاء ميت!
الفكرة لا تفارق ذهني.. تبًا لها..
الأدهى أن يكونوا جميعًا موتى..
ربما كان آل الليثي الحقيقيون موتى في غرفة أخرى الآن وأنا جالس مع أطياف..
قلت لليثي وأنا أنهض:
ـ "أريد تفتيش البيت من فضلك.. من حقك أن ترفض لكن.."
قال في ثقة وهدوء:
ـ"لا داعي.. ليس لدي ما أخفيه.. هيا بنا.."
وحمل الكلوب.. ثم استدار لي فلحقت به.. طلبت من بسيوني أن يبقى حيث هو. طبعًا كنت أرغب أن يراقب الباقين.. فقط أرجو أن يكون قد فهم هذا، فغباؤه يثير انبهاري..
يتبع